قبل عام واحد، عمّ الاحتفال الغرب وأنحاء واسعة من الشرق الأوسط عند توقيع اتفاقات إبراهيم. فقد جاء تحقّق آمال الدبلوماسية الهادئة، أي اتفاق السلام بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة، برعاية واشنطن، منسجماً مع الالتزام المتبادل بمنطقة أكثر أمناً وازدهاراً، متحرّرة من صراعات الماضي المنهكة. وأَذِن، فيما يتعلّق بالولايات المتحدة، بانسجام قيم واشنطن مع مصالحها.
غير أن الأيام الأخيرة أبرزت تطوّرات مختلفة اختلافاً جوهريًّا وأكثر وضوحاً. فبينما أخذت طالبان تعزّز سيطرتها على أفغانستان، ووجهت واشنطن والمجتمع الدولي باحتمال إقامة علاقات دبلوماسية مع حركة لا تتبع أكثر الميول رجعية في المنطقة فحسب، وإنما تجسّدها أيضاً. وتلك نتيجة لم تتوقّعها إلا قلّة قليلة، ولا ترغب فيها إلا قلّة أقلّ.
بالرغم من أن دعم واشنطن اتفاقات إبراهيم واتصالاتها الدبلوماسية مع طالبان يبدوان متعارضين، إن لم يكونا متناقضين، فإنهما يسيران في مستويين مختلفين إلى حدٍّ كبير. فقد أعلن بيان وزارة الخارجية المرحّب بالاتفاقات أننا، “نسعى إلى التسامح واحترام كل الأشخاص لجعل هذا العالم مكاناً يستمتع فيه الجميع بالحياة الكريمة والأمل، بغض النظر عن عرقهم أو انتمائهم الديني أو الإثني. وبهذه الروح، نعرب عن الترحيب الحارّ والأمل بالتقدّم المتحقّق في إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها في المنطقة بموجب مبادئ اتفاقات إبراهيم”. بالمقابل، الاتصالات مع طالبان مسألة تمليها الضرورة الملحّة. فوجود آلاف الأمريكيين الذين يخلّفهم الانسحاب وراءه يعني -على حدّ تعبير أحد المراقبين– أن على الولايات المتحدة “أن تعتمد الآن فعليًّا على عدوها”.
قدّمت الردود الأولية للقادة الأمريكيين شهادة على مقدار الارتباك الذي يسيطر على العاصمة. فقد قال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس عندما سُئل عمّا إذا كانت واشنطن ستعترف بحكومة طالبان: “ما زلنا نجري تقييماً لما حدث في الـ(72) ساعة الماضية وتداعياته الدبلوماسية والسياسية”. ووجد آخرون صعوبة في استيعاب الموقف الجديد. ووسط هروب القوات الأمريكية وانحلال الحكومة الأفغانية، أصدر مكتب رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بياناً حث فيه “الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والحكومة الأفغانية على بذل كل ما في وسعنا لحماية النساء والفتيات من معاملة طالبان غير الإنسانية”، وتابع، فيما بدا تهديداً لحركة طالبان المنتصرة بالازدراء فحسب: “على طالبان أن تعرف أن العالم يراقب أفعالها. نحن قلقون للغاية بشأن تقارير عن معاملة طالبان الوحشية لجميع الأفغان، وخاصة النساء والفتيات”.
لكي تقابل هذه المخاوف بالترحاب في كابُل، يتعين على طالبان أن تشهد اعتدالاً أيديولوجيًّا وسلوكيًّا جوهريًّا. وعلى حدّ تعبير جوشوا كيتنغ من مجلّة سليت، “كانت النظرة المتفائلة في الفترة التي سبقت الانسحاب الأمريكي تقوم على أن طالبان غير راغبة في تكرار تجربة التسعينيات، لذا فإنها ستعدّل سلوكها -إلى حدٍّ ما- لتكسب شيئاً من القبول من المجتمع الدولي”. وتسعى الذراع الإعلامية لطالبان جاهدة لبثّ هذه الآمال (الضعيفة). وقد أبلغ سهيل شاهين، المتحدّث والمفاوض باسم إمارة أفغانستان الإسلامية المزعومة، وكالة أسوشيتِد برس بأن طالبان ستعقد قريباً محادثات تهدف إلى تشكيل “حكومة إسلامية منفتحة وشاملة”.
من المؤسف أن بعض المراقبين الغربيين وصانعي السياسات الحريصين على إيجاد محاور راغب في الالتزام بالمعايير الدولية، وقادر على ذلك طالما بشّروا باحتمال وجود حكومات إسلامية “معتدلة”، لكن السجلّ الفعلي للحكم الإسلامي يقدّم قليلاً من الأسس التي تقوم عليها هذه الأخبار السارّة. فمن إيران إلى اليمن، ومن سوريا إلى الصومال، وما وراءها، أدى الحكم الإسلامي إلى تأجيج الصراع الداخلي واشتداد الصراع مع جيران الإسلاميين، بالإضافة إلى تعميق القمع السياسي والتدهور الاقتصادي. ولن تخالف إمارة أفغانستان الإسلامية هذا الاتجاه على الأرجح.
إن رسم مسار أكثر قابلية للتطبيق للمضي قدماً يحتاج بداية إلى الوضوح بشأن الخطأ الذي وقع في المجهود الحربي الأمريكي. فمع أن القوات الأمريكية لم تواجه صعوبة كبيرة في هزيمة مقاتلي طالبان في ميدان القتال، فإنها وجدت صعوبة في إقامة شراكة مع الأفغان في بناء مؤسّسات ناجحة قائمة بذاتها أو ثقافة داعمة لهم، وفشلت في نهاية المطاف. وعانت الحكومة الأفغانية والجيش والشرطة، منذ نشأتها، من أشكال الفساد المتفشّية التي استنزفت قوتها وشرعيتها الشعبية. ولو أن المشروع الأمريكي في أفغانستان خصّص الموارد لبذل جهد أكبر لترسيخ ثقافة احترام القانون والنزاهة المهنية داخل الأجهزة الأمنية الأفغانية -بالإضافة إلى دعم ثقافة التسامح والتعاطف على نطاق واسع من قبيل ما يُسخر منه اليوم في الغالب بوصفه “بناء الدولة”- فربما حصل على الدعم الشعبي لمقاومة هجوم طالبان.
يجب التأكيد على هذه النقطة لعامة الأمريكيين وصانعي السياسة الأمريكية. وعلى الرغم من خسارة الحرب في أفغانستان، فإن الأوان لم يفت بعد لمواجهة الأسس الأيديولوجية لدولة طالبان أو تمكين الأفغان بنظرة عالمية أكثر إيجابية وحداثة. وقد طوّر بعض حلفاء أمريكا قدرات قوة ناعمة متطوّرة في مجالات الخطاب الإعلامي والتعليمي والديني. هذه هي القدرات التي سيُحتاج إليها بشدّة في السنوات المقبلة. ويجب أن تحظى بمزيد من التطوير، بالتنسيق مع واشنطن، بوصفها إحدى الركائز الأساسية للجهود الطويلة لغرس أسس بديل غير إسلامي في أفغانستان.