تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «تَشَكُّل الطُّرق الصُّوفيّة الأفريقيّة المحليّة: الأثر المغربي والموريتاني» (الكتاب الثالث والتسعون بعد المئة، يناير (كانون الثاني) 2023) بحث أنماط التدين المتباينة، وحيوية تطورها، وعلاقة آثارها السياسية الراهنة بجذورها التاريخية، فيخصص هذا السِّفر لكشف انفعال الطرق الصوفية الأفريقيّة بالأثر الصوفي القادري والشاذلي والتيجاني، متتبعًا سيرة الطرق الصوفية ومؤسساتها الاجتماعية، ومحاولاتها السياسية في أفريقيا منذ القرن السابع الهجري، وتأثرها بالحركات المتعاقبة، ويركز على الأدوار السياسية التي حافظت عليها في الدول الأفريقية، المهتمة برعاية الأمن الروحي.
عرِفت الطرق الصوفية؛ بطبقات تأثيرها في بعضها، وفي رجالات التدين، ففي طبقة التأسيس تأتي الجنيدية، والقادرية، والسهروردية وربما النقشبندية، إذ تشكل بعض أدبياتها طبقة من طبقات طرقٍ لاحقة؛ وكذا كانت طبقة مماثلة كالشاذلية والخلوتية، وكلا الطبقتين نشأتا في فارس وتركيا والمشرق العربي. وفي المغرب العربي أُسست طبقة ثالثة تمثلها المدارس التيجانية والسنوسية والإدريسية وغيرها. وقد نتج عن هذه الطرق الكبرى طرق لا مركزيّة، استقلت بمشيختها وأورادها وأذوناتها، واختلط بعضها بالأثر الاجتماعي القبائلي فتسمت باسم القبيلة، بل وانتزعت بعض القبائل اسم التصوف كالزاويّة، وعمِدت بعض الممالك إلى الارتكاز على هيكليّة الطرق الصوفية في حكمها، كتحالف القادرية مع سلطنة الفونج، أو قيام ممالك على أيدي شيوخ طرق كما فعل عمر الفوتي (1794-1864) وعثمان دان فوديو (1754-1817)، وغيرهما، وساهم تأسيس الدول المنسوبة للمتصوفة، في تعقيد فهم علاقة الصوفيّة بالسياسة والحكم والقتال، إثر دخول الدول في تنافس وخصومات، انعكست على علاقة الطرق ببعضها، إلى أن ظهرت طبقة جديدة سمحت بقبول تعدد الطرق مجددًا، فخففت حدة التنافس.
ولما كانت الطرق الصوفية الأفريقية والمغربية تعالج واقعًا مجتمعيًا؛ تباين موقفها من الدولة قبل الاستعمار، فمن المرور بعهد الإمبراطوريات المحلية، إلى «فكرة بلاد السيبة»، ومن ثم اصطدمت بالاستعمار بمعطى ديني من جهة، ومعطى اجتماعي سياسي من جهة أخرى، فتباين الموقف منه مجددًا وفقًا لتباين التقديرات والمصالح واختلاف السياقات. وفي عصور ما بعد الاستعمار، توحدت الطرق، إذ عادتها القوى السياسية والحداثوية التي لا تعوّل على التقليد، إلى أن ظهرت فورة «الإسلاموية» المنفرة، فألجأت إلى ضرورة التصالح مع المسار التقليدي للتديّن المعزز بقيم السلم المجتمعي الموروثة، والسماح له بالتطور التدريجي، عِوضًا عن الاصطدام المؤدي إلى انتصار التأويلات الثورية التطرفية الإرهابية.
يبدأ الكتاب بالأدوار الداخلية والخارجية للتصوف في المغرب، ساردًا تاريخ الزاوية، في المغرب، وتحوّلاتها منذ أن ظهرت في دولة الموحدين (1121-1269)، مبرزاً مهامَّ متداخلة؛ اجتماعية خدمية ومعرفية روحية، ومنبهًا إلى وظيفة تاريخيّة تتصل بتنظيم القبائل؛ إذ أضفت الزاوية شرعية على وجود القبيلة، ووفّرت دعمًا ماديًا لها.
تناول الكتاب الأربطة، والأضرحة، فبحث في أنماط العلاقة بالجانب السياسي، مركزًا على الطريقة البودشيشية، والكتانية، مستحضرًا خصوصية المغرب الدينية، وفرادة تنظيم الحقل الديني فيه.
كان تأثير الزاوية في المغرب، كبيرًا، وأثرها في العلاقات الخارجية أكبر، إذ مثّلت جسورًا استثمرت في القوّة الروحية لتاريخ البلاد، بدايةً من الدولة المرابطية التي امتدت إلى قلب أفريقيا، فانتشر بجهودها المذهب المالكي زيادةً على انتشاره، وترسخت العقيدة الأشعرية، وغدا التشابه – بين الجنوب والشمال – في الأنماط الروحية من اللبس والشعائر وأنماط التدين واضحًا، خصوصًا بعد دخول قبائل التكرور وأمراء السوسو إلى حكم أمراء ملثمين، ولذا حين تراجع في عهد دولة الموحدين (1130-1269) دور سجلماسة لصالح مناطق ساحلية أفريقية؛ لم يختلف النمط الديني للمغرب وانعكس الإشعاع، ولما صار دور الموحدين منوطًا به حماية القوافل في أفريقيا، توطدت العلاقات بغانا ومعها الصلة الروحية، التي تكاملت في عهد المرينيين (1244-1465)، مع علاقات دبلوماسية رفيعة بين ملوك بني مرين ومنسات مالي الأثرياء والأقوياء. كان الانتماء السني من أبرز محددات الهوية، وتزايد حضور المغاربة والمصريين في بلاط المنسات، ومنهم: مخلوف بن علي بن صالح البلبالي، وسيدي يحيى بن عبدالرحيم العلوي، وسيدي علي الجزولي. وفي طبقة لاحقة برز رجال التصوف؛ وعلى رأسهم الفقيه محمد بن عبدالكريم المغيلي التلمساني (ت1502)، وأحمد بابا التمبوكتي السوداني (ت1627)، ومحمد الكنتي (1460-1553)، فبعد انتشار القادرية، جاءت الشاذلية، بفروع كالجزولية والدرقاوية والناصرية، ولاحقًا نشأت الزاوية التيجانية.
كانت زاوية فاس التيجانية، التي تضم ضريح الشيخ أحمد التيجاني مركزًا للإشعاع المغربي، تعقّبت دراسةٌ تاريخها، فمرت بمراحل منتقاة لتطورها عقب الشيخ التيجاني، فكانت المرحلة الأولى على يد الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي، الذي حضر على الشيخ التيجاني الإملاء لجواهر المعاني، وانتقى الباحث مرحلة سيدي مولود (1774-1818)، الذي نشر التيجانية في غرب أفريقيا والسودان والحجاز، والمرحلة الثالثة برز فيها الشيخ عمر الفوتي، ويمكن إضافة مرحلة ثالثة برز فيها رجال كصاحب الفيضة التيجانية عبدالله أنياس الكولخي، ومحمد ود دوليب من السودان، وأحمد الحبو من تشاد، ومحمد بن المختار من موريتانيا. ثم تطرق الباحث إلى محددات إشعاع الزاوية التيجانية بفاس على القارة الأفريقية، بسبب مركزية زيارة ضريح مؤسّسها، ولم تغفل الوزن العلمي المغربي في أدبيات التصوف التيجاني. وفي العهود الأخيرة، عززت المملكة المغربية مكانتها الروحية عبر رعاية منظمات تراعي: «العقيدة الأشعرية، وفقه مالك، وطريق الجنيد السالك»، فأنشأت «رابطة علماء المغرب والسنغال» منذ عام 1985، و«مركز تكوين الأئمة الماليين» بالرباط منذ 2013، و«معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات»، و«مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة».
حمل الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي التيجانية إلى بلاد شنقيط، ولكنّ التصوف كان قد بلغها قبل ذلك بأمد طويل، فإذا كان أبو مدين الغوث (ت1197) نشر الطريقة القادرية في المغرب، وزامن عبدالسلام بن مشيش (ت1227) عهد الموحدين بالمغرب، ودُفِن تلميذه الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ت1258) بحميثرة، فإنّ آثارهم بلغت موريتانيا، فكانت الزوايا الحاضرة في المغرب، منذ القرن السابع الهجري، ولها أسانيد جزائرية ومغربية وتونسية، بل ومشرقية مباشرة. ويمكن اعتبار القادرية البكائية أوّل تصوف طرقي منتظم في بلاد شنقيط، ومنها وصلت إلى مالي الحالية، على يد أنجال الشيخ أحمد البكاي، ومرت البكائية بمرحلتين: الأولى في الملأ الصحراوي، والثانية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وعرفت الطريقة الشاذلية التي دخلت مدينة تشيت عبر سيد أحمد بن عمر التواتي، الذي يصل سنده إلى الإمام محمد بن ناصر الدرعي، ومن ثم تأسست طرق أو حضرات وزوايا موريتانية محلية مستقلة، أولاها الطريقة الغظفية على يد محمد الأغظف الداودي (ت1803) وتطورت في عهد المختار بن الطالب أعمر بن نوح البُصادي المدفون في فزان؛ وهي مستندة إلى الشاذلية، أما الطريقة الفاضلية فقادرية الأصل.
ولئن، دخلت الطريقة التيجانية متأخرة إلى موريتانيا، على يد محمد الحافظ العلوي الشنقيطي (ت1830)، الذي التقى بالشيخ أحمد التيجاني في فاس وصاحبه لأربع سنوات، فإنها تحوّلت إلى مركز فتح التصوف الموريتاني على القارة الأفريقية، فنسبت الحموية إلى الشيخ أحمد حماه الله التشيتي الشنقيطي (ت1944)، الذي امتد تأثيره إلى الغرب الأفريقي في السنغال وساحل العاج، وغيره.
وإذ تميّز الموريتانيون بوفرة العلم الشرعي، فعالج المتصوفة – منهم تاريخيًا في حقبة غياب الإمامة- معضلة غياب الدولة المركزية، ودلّت على ذلك تسميات «البلاد السائبة» وأحكام السيبة، وهي عندهم البلاد «الخالية من سلطان أو أمير أو رئيس خير، يدفع من ظلم الظلمة وجور الجورة وعدوان العادين»، فاستخدم هذه المصطلح الشيخ الكنتي من القادرية، ومحنض بابه بن عبيد من التيجانية، وترتب على هذا خلاف في التعامل مع تحدي المستعمر، بين المواجهة الشرسة، وحقن الدماء، والمقاومة الثقافية من جهة، والمقاومة السلمية كمقاومة الشيخ حماه الله التي تفرّع عنها أحكام فقهية كقصر الصلاة وترك الجمعة لوقتٍ وطرفٍ معلومين لديه، وكلها تحمل رمزيةً سياسية واضحة.
وإذ طافت دراسة بالأدوار السياسية الراهنة للطرق الصوفية في موريتانيا، والتنافس بين القادرية والتيجانية، في الدولة الحديثة إبّان انتخابات 1946، فقد فُهٍم التعاون بين الطرق لتحقيق الاستقلال، والتوحّد لاحقًا لمجابهة خطر تحدي الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه (1924-2003)، للمجتمع التقليدي وقيمة المشيخات الصوفية، والتي جابهته بترشيح رجالها للبرلمان، وفي عهد الرئيس معاوية ولد الطايع، تشير دراسة إلى أن الطرق الصوفية كسبت ود ولد الطايع؛ بقرينة احترامه لرجال مثل الشيخ اعل الشيخ ولد أمم، والواقع أنّ ذلك وافق عودة اهتمام الدولة بالتصوف الطرقي، بعد الصدام مع الحركات الإسلاموية، فلعب التصوف دورًا لوحدة المجتمع، وفي الإطار الخارجي لعب دورًا لحل النزاع الموريتاني السنغالي، فعملت مشيخة أهل الشيخ سعد بوه ولد الشيخ محمد فاضل من الطريقة القادرية، ورجال الطريقة التيجانية في كولخ، ويمثلهم الشيخ إبراهيم أنياس.
تتفرع الطريقة القادرية في الساحل إلى الكنتية والفاضلية، وكلاهما منسوبتان إلى أسانيد تصل إلى الشيخ المغيلي التلمساني، أما الكنتية فرفع ذكرها الشيخ أحمد البكاي، وحفيده سيدي مختار، سيد أعمر، وانتشرت في الهوسا والفولانا ونقلت إلى نيجيريا؛ عبر الشيخ عثمان دان فوديو، أما الفاضلية، فنشرها الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل (1831-1910) في أثناء إقامته في تندوف، وخلفه الشيخ سعد بوه، وأوصل نفوذها إلى غامبيا ومالي وغينيا، ولها رجال مثل الشيخ المحفوظ بن الطالب أخيار (1870-1917).
أما الطريقة التيجانية في الساحل، ففيها فِرق، فالحافظية عرفت نسبةً إلى محمد الحافظ الشنقيطي، ولها تلاميذ منهم خليفته محمد بن سيدي «بدي»، ومن رجال التيجاني عمر الفوتي وعنه أخذ «إبراهيم إنياس الكولخي»، وينسب إلى الفوتي العمرية التي تأسست على يديه في (1794-1864)، لكن الطابع القتالي الذي تصدت له دولته أكسب تصوفها نمطًا متمايزًا، مرتبطًا بأحكام الدولة. فكان التنافس (القادري- التيجاني) فيه، خشنًا، وبقيت ظلاله في الحركات اللاحقة، خصوصًا إذ تلبس التصوف بالقبيلة أو الإثنية، والجهة، والدولة، فتوظفت بعض العصبيات، الطرق بحسب القبيلة والدولة في فترات لاحقة، مما عقد دراسات التصوف والعنف لاحقًا.
ثمة علاقات بين المحاولات الدولتية وتعاونات الطرق في الساحل، فترصد الدراسة علاقة بين حركة الحاج عمر الفوتي والسنوسية في ليبيا، وقد عجّ الساحل بدول إما نسبت إلى القادرية كدولة بن فوديو، أو التيجانية كمحاولة الفوتي، التي وجدت مقاومة من إمارة البامبارا في سيغو وإمارة الفولاني بماسينا، فأفرزت فتاوى تكفير وقتال.
على المقلب الآخر نجحت الطرق كالتيجانية في بناء زوايا تسيطر على ممرات القوافل، من أدرار إلى تمبكتو، ثم سيغو ومنها إلى السنغال، جاعلة من الزوايا المنتشرة مقرات لراحة التجار.
تناول الكتاب ظهور طرق صوفية محليّة، أفادت من الأسس القادرية والشاذلية، في أكثر من دولةٍ أفريقية، مثل الطريقة المريدية، التي أسسها الشيخ أحمد بمبا (1893-1927)، وساهمت في بناء أنموذج للتنمية المحلية من خلال إنشاء قرى أنموذجية عن طريق إصلاح الأراضي الفلاحية، مما جعل مناطق نفوذها من أكثر الأراضي المنتجة للفول السوداني، وتأسست قوة اقتصادية، وتورّث أبناء الشيخ بمبا؛ عن والدهم نحو (5) ملايين مريدٍ من أصل (14) مليون سنغالي!
وتقصيًا لدراسة الطرق المحليّة، تناولت دراسة الطريقة السمانية الطيبية، المنسوبة إلى الشيخ أحمد الطيب البشير (ت1824) في السودان. بدأ الباحث بالطابع القبائلي والمناطقي في التصوف السوداني، فصرف الختمية إلى قبائل الشمال العربية بالإضافة إلى الشرق في البجا، والتيجانية إلى قبائل غرب السودان، والقادرية إلى هيكلية الأسر التي اعتمدت عليها دولة الفونج (1505-1821) لحفظ سلامها الروحي؛ ومن ثمّ رسمت الدراسة الخريطة الجغرافية للسمانية من مدينة سنار (التوم ود بانقا) إلى «شبشة» و«الكريدة» في النيل الأبيض، وإلى مسيد الشيخ الياقوت محمد مالك بجنوب الخرطوم، وإلى الشيخ البرعي في شمال كردفان. تميزت الدراسة بشهادة خاصة لأحد أحفاد الشيخ أحمد الطيب البشير، يشرح هوية الطريقة، واعتماد التوريث، مع السماح بلا مركزية متعددة داخل القطر الواحد.
وفي تونس، رصدت دراسة وجود القادرية والرحمانية المنحدرة عن الخلوتية، وغيرها، وصولاً إلى بحث صراع الطرق الصوفية والإخوان، ورأت أن التدين الشعبي والتقليدي، يتنافران مع التدين الحركي والإسلام السياسي.
تضمن الكتاب قراءة وتحقيقًا لرسالة السراج الوهاج في شرح كلام الحلاج، وهي لأحد شيوخ الشاذلية «الكنكسي»، تكشف عن اتصال التصوف المغربي بالمشرق، بل وانشغاله بشرح نصوص التصوف العرفاني ومقالات الحسين الحلاّج، مما يعيد النظر إلى فكرة «الانفكاك» المطلق، بين تصوف سني وتصوف فلسفي، ويعيد توحيد النظر إلى وجود مسالك مشتركة بين التصوف المشرقي والمغاربي من جهة وبين الفلسفي والطرقي السني من جهةٍ أخرى.
أما دراسة العدد فقدمها الباحث والمفكر السعودي فهد الشقيران عن المدرسة التوفيقية الفلسفية، فركز على نقد داريوش شايغان لأحمد فرديد، وطرح حضور مارتن هايدغر في الفكر العربي، وحلل البعد الماركسي الثوري وصلته بالاستشراق الألماني، وصولاً إلى تفكيك التفلسف الأصولي الذي يستخدم أدوات الفلسفة لهدم الحداثة والفلسفة معًا.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب، والعاملين على خروجه للنور، والشكر موصول للزميل بوحنية قوي، الذي نسق العدد، ونأمل أن يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يناير (كانون الثاني) 2023