يتحدث البعض عن الثقافة باعتبارها سلاحا حتميا لمواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه، وكخط دفاع لحماية للأجيال، لكن كيف أصبحت الثقافة جزءا لا يتجزأ لفعل التطرف والإرهاب؟ كلمتان متعاكستان في الوصف والمضمون والمفهوم، وعلى الرغم من ذلك تلتقيان وتتقاطعان في كثير من المشتركات التي نقف عندها هنا. حيث تتفرخ المعاني عند كلا المصطلحين، وتصبح الثقافة أساسًا للإرهاب في دورة إنتاجها المعرفي للواقع المجتمعي المعاصر. ازدادت تأثيراتها في ظل حضورها بمواقع التواصل الاجتماعي، وتصبح الظاهرة الموبوءة، مكشوفة، تنتقل بشكل أفقي تارة، وتارة أخرى بشكل رأسي عند المتبنين للعنف شعارًا. نستشهد بما قاله العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في مقالة كتبها حملت عنوان: “منصّات التواصل أم التناحر الاجتماعي؟”[1] عبر فيها عن قلقه من بعض الظواهر الاجتماعية، وقوله: “نصطدم أحيانًا بكمٍّ هائل من العدوانية، والتجريح، والكراهية، حتى تكاد تصبح هذه المنصات مكانا للذم والقدح، تعج بالتعليقات الجارحة والمعلومات المضللة”[2].
وأزعم أن ثقافة الإرهاب هي الظاهرة النهائية لما تقدم ذكره في أطواره الأولى، وأعرفه بأنه هو كل قول أو فعل يعبر به صاحبه رفضًا للآخر محتكرا للحقيقة التي يتصورها بتبنيه عادة للأصوليات المتطرفة. متقبلا وممارسا وداعيا لها. يعتبرها مختصون ثقافة إحلالية بمعنى أن تحل محل الفراغ الثقافي. تمر تلك الثقافة بأوجه عدة من العنف، والعنف المفرط، والتطرف، والتطرف العنيف وصولا إلى ثقافة الإرهاب، تشهيرًا، تهديدًا أو اغتيالًا… أي ممارسات عنفية تجاه الآخر لفظية، وفعلية. بمعنى انتقال تلك الثقافة من العنف اللفظي باعتباره فعلا لغويا، إلى فعل نتيجته الأذى النفسي والجسدي.، وبه “حماس يتماشى أو يتطابق مع استعداد نفسي مسبق للالتزام بالعمل، و(بالنضال) من أجل مثال (إنساني، ديني، سياسي) يعاش بوصفه مطلقا يستأثر حينها بكامل أفق الفرد”[3]. تلك القيم والمثل الجديدة أو المكتسبة قد “تتحول إلى موضوعات راسخة. دون الأخذ بالاعتبار قيمتها الأصيلة أو طبيعتها العنفية”[4]. والمفضية للعمل الإرهابي.
يقول الأكاديمي السعودي عبداللطيف السلمي في مفهوم العنف اللفظي: “إن المفهوم يطابقه تعريف دلالي متغير، تختلف دلالته حسب مجالات التداول الاجتماعي للمعنى، التي تتطور بسرعة مع مرور الوقت ارتباطًا مع أحداث الحياة السياسية، إذ يتحول بموجبها العنف –خاصة عند التنظيمات المتطرفة- إلى تطرف ثم إرهاب”[5]. و”إن أخطر ما في هذه الأيديولوجيا اللغوية العنفية هو سهولة استخدامها؛ إذ يكفي أن تخالف رأي أحدهم أو تعارضه، أي ألا تشاركه اعتقاده وإيمانه بأفكاره فتكون في حكم المرتدّ والكافر”[6]. لذلك نرى ثقافة العنف ما هي إلا المرحلة الأولى من المراحل التي تمر بها ثقافة الإرهاب، وإن إذكاءها يعني استمرارها في التطور والتحول لاحقًا لتمر بمراحل ثقافة التطرف، وثقافة التطرف العنيف، وصولاً إلى مرحلة ثقافة الإرهاب.
يحاول مختصو علم النفس دراسة تلك الظاهرة من باب سيكولوجية الإرهاب، والنظريات التي وضعوها لتفكيك الشيفرات التي تتعلق بتعريفات الإرهاب وتصنيفاتها[7]، وما نشير له هنا ونقصده هو الذي ينضوي تحت تصنيف الفردية -ولا نقصد ما يصطلح عليه بالذئاب المنفردة[8]– تلك التي ترتبط ببيئات أيديولوجية شعبية دينية، سياسية، عرقية. وقد تتشارك مع التصنيف الثاني (المنظم)، في الأيديولوجية السياسية الحزبية من المدخل المجتمعي الشعبي الديني. أما التصنيف الثالث وهو إرهاب الدولة، فليس موضوع حديثنا.
الهدف من عرض وتقسيم تلك الدرجات من المراحل التي تمر بها ثقافة العنف إلى ثقافة الإرهاب على الأفراد، محاولة لفهم وتشريح الظاهرة التي غزت وطغت على ما تميزت به مجتمعاتنا العربية المترابطة أسريا وقبليا عن غيرها في أي مكان في العالم، وبالذات قبل ما تسمى بأحداث الربيع العربي، فعززت انعكاسات تلك الأحداث على المنطقة ذلك المصطلح، وبات ظاهرا للعيان ويبرز في محاولات غير بريئة لتفكيك المجتمعات من الداخل. أما مراحل ثقافة الإرهاب فهي:
المرحلة الأولى: ثقافة العنف. لا تحمل بعدا أيديولوجيا أو سياسيا، تتشكل عند الأفراد في نشأتهم الأسرية من خلال الأفعال وردودها أو من خلال فرض العواقب أمام الأخطاء في التعاملات والمتطلبات الحياتية اليومية. وتشكل نواتها.
المرحلة الثانية: العنف المفرط. تمثل الدرجة الثانية من ثقافة العنف. لا تحمل بعدا أيديولوجيا أو سياسيا، تتشكل عند الأفراد في الأسر من خلال فرض العواقب المبالغ بها على عناصرها، وخصوصًا إذا ما ارتبطت تلك العواقب بشأن ديني. وتشكل القاعدة التي ستنبني عليها مرحلة التطرف، المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة: التطرف. تتشكل تلك الحالة عند (3) أصناف من الأفراد: الأول: من ارتبط ببيئة أسرية تحمل فهما دينيا متشددا، وتبناه الفرد نهجا حياتيا، الثاني: الباحث عن الهوية الدينية في المجتمعات اللادينية، الشاعر بالغربة الروحانية ممن يجد في مجموعات متطرفة ضالته فيها، أو تلك التي تتبنى منها ممارسات العنف السرية. الثالث: من خلال الشواهد، على الرغم من تنعُّم أفراد ببيئة أسرية يمكن وصفها بالمثالية، أو التي تصف العلاقات التي تربط بين أفرادها بالجيدة والمتسامحة، ليس بالضرورة أن تكون مسلمة، ولم تمر بالمرحلتين الأولى والثانية، يكون فردها باحثًا عن الذات والتجارب الجديدة وشغفه حب الاستكشاف من خلال تبني المفاهيم والمثل والقيم الجديدة عند تلك الجماعات العنيفة. وعلى الرغم من ذلك يشوبه نوع من التردد.
المرحلة الرابعة: ثقافة التطرف العنيف. يكون فيها الفرد متمايزا عن الآخرين بتمثيله القالب الفعلي لنفيه للآخر، أما صفة التردد عنه فمنزوعة. التجارب أكسبته الخبرة في ثقافة التطرف العنيف. فعلا وقولا. ومؤهل للانتقال إلى ثقافة الإرهاب المفضي للعمل الإرهابي.
المرحلة الخامسة: ثقافة الإرهاب. وقد أشرنا لها.
نرى أن العوامل المحيطة بتلك الثقافات، الاجتماعية الثقافية التربوية (البيئة المحيطة)، الاقتصادية (البطالة)، السياسية والأمنية، فالأول منها؛ نجد أساسها ما يحمله الدور الأسري في تشكيل تلك المفاهيم وانعكاساتها الرمزية والبنيوية على شخصية الفرد والتماهي مع المؤثرات الخارجية في الإطار العائلي، ثم الدور المجتمعي وما تمثله العائلات الممتدة والعشائر والقبيلة -المستندة على العادات والتقاليد والموروث الشعبي الديني، والمفاهيم المجتمعية الحاضرة فيها- والمؤسسات الأهلية المدنية. وهي تمثل الجانب الأول لفهم تلك العلاقة بين العنف الفردي، وبين العوامل الاجتماعية (البيئة المحيطة). أما الدور الذي تحمله الدولة، فهو منوط بعمل مؤسساتها الحكومية في العاملين الثاني والثالث: الاقتصادي، والسياسي وما يتفرع عنهما. تلك العوامل تشكل مراحل الاصطدام الذي نتجت عنه الثقافة بين الذاتي الفردي والواقع الجمعي في بيئة خصبة للتشكل تعمل على نفي الآخر.
[1] – منصّات التواصل أم التناحر الاجتماعي؟، الموقع الرسمي لجلالة الملك عبدالله الثاني، 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2018:
https://kingabdullah.jo/ar/op-eds/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84-%D8%A3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%9F
[2]– المصدر السابق.
[3] – كريستين بوناردي وبيار منوني، ترجمة: جورج كتورة، دراسة العوامل النفسية والاجتماعية المعززة للتطرف لدى الشباب، كتاب علم نفس الإرهاب الأفراد والجماعات الإرهابية، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، ط1، العدد 125، مايو (أيار) 2017، ص90.
[4] – المصدر السابق.
[5]– عبداللطيف السُّلمي، كتاب العنف اللفظي وبلاغة التحريض في خطاب داعش: الاستقطاب واستدراج الأتباع، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، ط1، 2017، ص13.
[6]– نفسه، ص16.
[7]– مصطفى حجازي، دراسة سيكولوجية الجماعة الإرهابية ودوافع الأفراد للانضمام إليها، كتاب علم نفس الإرهاب الأفراد والجماعات الإرهابية، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، ط1، العدد 125، مايو (أيار) 2017، ص14-15.
[8] – إبراهيم أمين نمر، ذئاب منفردة أم قطيع؟، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 31 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017:
https://www.almesbar.net/%D8%B0%D8%A6%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D9%86%D9%81%D8%B1%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D9%82%D8%B7%D9%8A%D8%B9%D8%9F/