يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «جائحة (كوفيد -19) والمُسَتَجَدّ في المجتمع والسياسة والاقتصاد» (الكتاب الحادي والستون بعد المئة، مايو (أيار) 2020)، تأثيرات الجائحة في المجتمعات والأفراد والدول؛ في تخصصات متعددة، تضمنت علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة، والسياسة والاقتصاد، مقيِّماً الأفكار الانفعالية التي اجتاحت بعض المفكرين المتشائمين والمتفائلين -على حدٍ سواء- تجاه التغيرات التي فرضها الفيروس، ومتعمِّقاً في إظهار آليات الفهم والتنظيرات الجديدة.
بدأ الكتاب عبر باب الاجتماع، فسبرت دراساته تداعيات «الصدمة» في المجتمعات، التي أفاقت على موجة من «اللايقين» هددت مسلّماتها المسبّقة. دفعت «المفاجأة» باحثين إلى خلاصات مستعجلة، تتضمّن أفكاراً عن عدم استدامة استقرار شبكة الصلات المعقّدة التي تشدّ أواصر «المجتمع العادي». أدّى تغيّر أنماط الحركة الانسيابية اليومية المنظمة للأعمال والمدارس والسفر والترفيه والتجمّعات الصغيرة للأصدقاء، إلى توابع اجتماعية، عصيّة على الرصد، حتى لكأنها قائمة على حقل ألغام جاهز للانفجار. فظهرت أمراض اجتماعية على رأسها «العنف الأسري» من جهة، وبرزت واجهات للأمل تتحدى الجائحة بابتكار الطرق الجديدة للتعليم والتعلّم، ولو بشكلٍ مؤقت، من جهة أخرى.
اهتم الكتاب بـ«سيكولوجية الوباء» ومسارات التعافي النفسي، دون أن يخرج بخلاصات أو نتائج نهائية، «فلا بدّ أن يكون قدر كبير مما نقوله عن أزمة فيروس كورونا انطباعياً بطبيعته، فلدينا -على الأرجح- فرضيات أكثر مما لدينا من حقائق دامغة. لكن ثمة مجالات مختلفة من البحث النفسي يمكن أن تقول لنا شيئاً مفيداً عن جوانب الفيروس وطريقة تعاملنا معه».
يؤثر الفيروس المُستَجِدّ (كوفيد -19) في السلوك الفردي والجماعي من الناحيتين الاجتماعية والسلوكية. ظهرت أنماط من العادات الجديدة التي لم تعتد عليها المجتمعات بهذا الزخم، فغدت النظافة الجسدية الشخصية ووضع الكمامة على الوجه، شأناً سياسياً واجتماعياً عاماً. أجاب الكتاب عن تساؤل عريض: هل تتحول الممارسات الشخصية الطبية الجديدة التي فرضتها الجائحة إلى سلوكيات اعتيادية عمومية؟
تعليمياً، أفرد الكتاب شهادة لتحديات التعلم عن بعد في الإمارات العربية المتحدة، حيث تم تحديد عقبات وإنجازات التعلم عن بعد عند جميع أطراف العملية التعليمية في الدولة، التي تضم الطلبة والمعلمين وأولياء الأمور، والتي تنوّعت بين تقنيّة ونفسيّة ومهاراتيّة.
تضمن الكتاب ثلاث قراءات فلسفية للأزمة الصحية وطرائق فهمها والاستجابة النفسية والفكرية لها. أخذت الدراسات بالاعتبار تفاعل دواخل الإنسان وفضاءاته العامة والمشتركة، مع الجائحة، ومحاولة تفسيره لها، وفلسفة انفعاله معها، فشرحت دراسةٌ مفهوم العزلة الذي ولده الحجر المنزلي، نتيجة الإجراءات الاحترازية المفروضة، وحفرت في تنسيبها للخطاب الفلسفي المعاصر، متتبعةً آراء الفلاسفة والمفكرين المعاصرين. حاولت دراسةٌ ثانية تتبع علاقة الأزمة بصعود القومية بشكلٍ مضطرد مع انتشار الفيروس؛ وما حملته من دعوات إقصائية للآخر، كما رصدت الدعوات إلى التسامح والانفتاح في زمن انكماش القوميات، من صلوات جماعية وتقارب إنساني، دفعت إليه وحدة التحديات. سعت القراءة الثالثة إلى اجتراح مقاربة فلسفية متفائلة، بعد أن اكتسح التشاؤم بعض المفكرين، فتعددت أشكاله وتعبيراته، لكن قوة الإرادة المرتبطة بالإبداع العلمي والتكنولوجي والطبي، ترفع منسوب تفاؤل العقل البشري في تجاوز الأزمات المؤلمة.
طرحت الدراسات في شقها السياسي، الجدل الفكري الأوروبي المثار حول مجال الأمن الحيوي وحالة الاستثناء (الطوارئ) المعلنة في أكثر من دولة أوروبية، وعلاقة ذلك بتعطل الحياة الديمقراطية. أما على مستوى العلاقات الدولية، فتطرقت الدراسات إلى آثار الجائحة على النظام الدولي، وجمَعَت ردود الأفعال، بالتركيز على مسار العلاقات بين الصين وأمريكا، وتضمّنت نقاشات «تشكُّل النظام العالمي» المكررة، سواء المذهولة بالمؤامرة، أو المفتونة بالتبشير بنهاية عصر «القطب الواحد».
درس الكتاب تعامل أحزاب اليمين الأوروبي مع الأزمة، شارحاً أبرز النظريات التفسيرية التي تمّ الترويج لها، ليس على مستوى «أصل الفيروس» فحسب، وإنما أيضاً على مستوى التوظيف السياسي والترويج لأنماط من الرهاب العرقي والديني. لقد تقاطع «التاريخ الطارئ» على أوروبا مع تنامٍ سابق للنزعات القومية والشعبوية، دون أن يعني ذلك الانجرار وراء الخلاصات المتسرعة التي تدعي فقدان القارة لروحها الحضارية واحتضانها لــ«الضيف» الغريب؛ فالأزمة أثارت أسئلة «الذات» و«الآخر» و«التطرف» و«الهجرة» و«التضامن» في قالب جديد.
تضمن الكتاب دراسات حول التداعيات الاقتصادية للجائحة، فناقشت القفزات المستقبلية المحتملة لـ«رقمنة الاقتصاد» بعد اتجاه المؤسسات والشركات والدول إليه، وحاججت الآراء المثارة حول «اقتصاد السوق الاجتماعي» وفرضيات تشكيله بديلاً «لليبرالية الاقتصادية»؛ وذلك في ضوء تنامي «اللايقين الاقتصادي» الذي يعزز الشعور بالحاجة إلى إنشاء جديد. كما رصدت تأثير الفيروس في الاقتصاد والأمن الغذائي العالمي والعربي والخليجي، طارحةً بالأرقام أثره في الانكماش الاقتصادي والمخاوف من الركود، دون أن تغفل عن إمكانات ومسارات التعافي؛ بعد الفتح التدريجي للأسواق والمؤسسات وعودة الدورة الاقتصادية، على الرغم من المخاوف التي يبديها بعض الخبراء من احتمال إغلاق آخر تفرضه موجات أخرى.
يبقى التفاعل المجتمعي والعلمي والسياسي والاقتصادي مع الجائحة، مسألة بحثية مفتوحة على الأسئلة. ويأتي هذا الجهد لرصده، من باب محاولة فهم «كيف نفكر أثناء الأزمات». يخرج الكتاب بملاحظة أولية تقف بين تيارين: الأول: يرى أن كل شيء تغير إلى الأبد، وتيار آخر يرى أن لا شيء سيتغير؛ ومهمة البحث العلمي هي توفير الأساس السليم لفهم الدور التحفيزي لهذه الأزمات، ومنح الباحثين المادة الأساسية لتعزيز التفكير في المستقبل.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج، التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدها وفريق العمل.
هيئة التحرير
مايو (أيار) 2020