بمرور الوقت تتغير المفاهيم المتعلقة بالحروب، وكيفية إدارتها وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وخلال العقد الأخير تبلور بشكل كبير مفهوم الحرب بالوكالة، لتصنف القارة الإفريقية باعتبارها المنطقة الأكثر جذبًا لهذا النمط من الحرب، عبر توظيف القوى الكبرى لمرتزقة ومتعهدين أمنيين؛ بغية تحقيق أهداف تتعلق بحماية الأمن القومي لهذه الدول.
ويعد نموذج فاغنر الأبرز من بين النماذج المنتشرة داخل دول القارة، بعدما توالت عناصرهم بشكل واضح خلال عام 2018 ، حينما أرسلت موسكو مجموعة مستشارين عسكريين إلى إفريقيا الوسطى، لتتصاعد بعد ذلك معدلات انتشارهم في دول عدة كمالي وليبيا والسودان، وبرغم الأحداث المتسارعة التي شهدتها روسيا مساء 23 يونيو (حزيران) الماضي على خلفية التمرد العسكري الذي قام به قائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين على الرئيس فلاديميير بوتين، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، فإن ذلك لا يعني اختفاء دور المجموعة من القارة، حيث ترتبط مصالح فاغنر بشكل وثيق مع الأنظمة الحاكمة لدول القارة، كما يرتهن ثقل الشركة الأمنية وبقاؤها باستمرارية انتشارها، لذا ستواصل المجموعة سعيها لإضافة حلفاء أفارقة جدد لقائمتها، مستغلة حالة الفراغ بعد انسحاب فرنسا وتراجع دور الولايات المتحدة بالمنطقة.
أولًا: محفزات انتشار فاغنر داخل دول القارة
برغم إنفاق الاتحاد السوفيتي مليارات الدولارات لدعم حركات التحرر الإفريقية، فإن انهيار الاتحاد دفع روسيا للتقهقر للخلف متنازلة عن مكانتها بالقارة لصالح النفوذين الغربي والأميركي، لكن بعد مُضي أكثر من ثلاثة عقود تحاول موسكو إعادة مكانتها باستراتيجية ونهج غير نمطي، عبر وكلاء عسكريين ومتعهدي شركات أمن على رأسهم فاغنر، وكانت هناك جملة من المحفزات التي ساهمت في تحقيق ذلك، يمكن إبرازها على النحو التالي:
1ـ على الصعيد الإفريقي:
- تراجع الدور الفرنسي: شهد النفوذ الفرنسي تراجعًا في غالبية الدول الإفريقية، وبرغم إقدام باريس على تغيير أنماط استراتيجياتها في محاولة للحفاظ على ما تبقى من نفوذها، فإن جميع المحاولات باءت بالفشل، وبدأت تتصاعد موجات شعبية ساخطة ضد هذا الوجود، كما تراجعت معدلات التبادل التجاري بين الجانبين للنصف خلال الفترة من 2000 وحتى 2021، ففي 2018 شكلت إفريقيا (2.4%) فقط من إجمالي معدلات التجارة الخارجية الفرنسية[1].
يرجع هذا التحول للعديد من العوامل، لعل أبرزها ازدواجية السياسة الفرنسية تجاه دول القارة؛ ففي الوقت الذي يدعو فيه ماكرون لتفعيل مبدأ التوازن في العلاقات، والتأكيد على التبادل الخبراتي بين باريس والقارة الإفريقية، نجده في المقابل يعزز من هجرة العقول، حيث يتم استقطاب الخبرات الإفريقية لفرنسا واستغلالهم لتطوير قطاعات معينة، ناهيك عن أن سياسة باريس تجاه إفريقيا لم تخلُ من منظور عسكري؛ يستدل على ذلك من قيام القوات الفرنسية بشن أكثر من (70) عملية عسكرية أسفرت عن مقتل الآلاف من المواطنين، بجانب محدودية ما أحرزته تلك العمليات من أهداف تتعلق بمواجهة التنظيمات الإرهابية وإعادة الاستقرار للبلاد، من جهة أخرى خلت الاتفاقيات الأمنية التي تم توقيعها مع الجيوش الإفريقية من مبدأي النزاهة والشفافية، الأمر الذي عزز من مشاعر الرفض للوجود الفرنسي، وأفسح المجال لانتشار شركات الأمن الروسية.
- تصاعد الصراعات الداخلية: تعتبر الصراعات الداخلية ضمن السمات الرئيسة للقارة الإفريقية، التي ترجع لأسباب عدة لعل أبرزها معضلة الاندماج الوطني التي كرست جذورها دول الاستعمار، كذلك شخصنة السلطة وتفعيل النظام المركزي الذي أفضى إلى تهميش الأقاليم البعيدة عن العاصمة، إلى جانب فساد النخب السياسية، فكل ما سبق أدى إلى توسيع الفجوة بين مكونات المجتمع، مما دفع بالدول لحالة من التناحر الداخلي والصدامات المستمرة وصولًا لانعدام الاستقرار السياسي، وتوالي موجات من الانقلابات العسكرية، وقد ساهمت بعض الأزمات الدولية في تأجيج الأوضاع كالأزمات المالية العالمية، وأزمة (كوفيد 19) بتبعاتها السلبية على قطاعات عدة، فكل ما سبق دفع دول القارة للبحث عن شركاء جدد لديهم القدرة على المساهمة في وضع استجابات فورية لمعالجة تلك الأزمات، حيث وجدت غالبية الدول الإفريقية روسيا بديلًا أفضل وأسرع لباريس وواشنطن.
- استمرار النشاط الإرهابي: تعاني دول جنوب الصحراء تصاعدًا للنشاط الإرهابي نتيجة فشل القوات الفرنسية في القيام بمهامها المنوطة بما يتعلق بتطويق الجماعات الإرهابية ودحر أنشطتهم، كذلك فشلهم في دعم وتطوير المؤسستين الأمنية والعسكرية لدول القارة، فمنذ عام 2013 حيث التدخل الفرنسي رسميًا شمال مالي شهدت العمليات الإرهابية تصاعدًا ملحوظًا، كما تضاعفت معدلات العنف المسلح، لتنتقل بذلك عدوى الإرهاب إلى البلدان المجاورة كبوركينافاسو والنيجر وساحل العاج ونيجريا والكاميرون وغيرهم، ووفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2022 شهدت أعداد الضحايا والوفيات داخل القارة زيادة بنسبة (1000%) خلال عام 2021 مقارنة بعام 2007 من (20) حالة لأكثر من (2000)، فيما نسبت غالبية الوفيات لأفعال تنظيمات إرهابية وأخرى مجهولة الهوية، بينما باقي الوفيات ناتج عن حالة الاقتتال الداخلي بين المواطنين[2]، وقد دفعت تلك التطورات دول الإقليم للبحث عن بدائل للقوات الفرنسية، لا سيما بعد أن تصاعدت موجات شعبية غاضبة إزاء الوجود الفرنسي بدولهم، ومنددة بالعمليات العسكرية غير المخطط لها، والتي أدت لآلاف من الضحايا.
2ـ على المستوى الروسي:
- استعادة النفوذ الروسي: تسعى روسيا البوتينية لاستعادة مجدها وتأكيد مكانتها بين القوى العظمى، انعكس ذلك في تحركاتها بالساحة الأفريقية، فمن جهة تسعى لتأكيد مكانتها الدولية، ومن جهة أخرى تحاول فك عزلتها التي فرضت عليها من الغرب وواشنطن منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 وصولًا للحرب الروسية الأوكرانية فبراير (شباط) 2022، لذا تحاول موسكو تشكيل تحالفات جديدة وضم كتل تصويتية مؤثرة في المحافل الدولية كالكتلة التصويتية الإفريقية، وبالفعل نجحت روسيا في ذلك حينما صوتت إريتريا مع ثلاث دول أخرى ضد قرار يقضي بإدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، فيما امتنعت ثماني دول أخرى عن التصويت[3]، وكانت فاغنر الأداة الرئيسة التي استخدمتها موسكو لتحقيق أهدافها داخل دول القارة، حيث تمكنت الشركة من تنفيذ التوجيهات الروسية فيما يتعلق بمد نفوذها، وتقوية علاقاتها بكل من الأنظمة الحاكمة والجماعات المتمردة، وكذلك إفساح المجال لمزيد من الاستثمارات الروسية في كافة القطاعات.
- الضغط على القوى العظمى: تسعى موسكو لتوسيع شبكة تحالفاتها بكافة الأقاليم الأفريقية لتأمين استثماراتها ومشاريعها المتمركزة بتلك الدول، فقد شهدت معدلات التبادل التجاري بين روسيا والدول الإفريقية خلال الخمس سنوات الماضية زيادة بمعدل الضعف، حيت تجاوزت الـ(20) مليار دولار في قطاعات الطاقة والتعدين[4]، من جهة أخرى تسعى موسكو لفرض نفوذها على المضائق البحرية، حيث إن تمكنها من تحقيق ذلك يمكنها من الضغط على الاتحاد الأوروبي وواشنطن في العديد من الملفات، والقضايا المشتركة لا سيما ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا.
لذا يمكن القول: إن روسيا كانت البديل الأمثل للدول الإفريقية، وقد عزز من ذلك عدم وجود تاريخ استعماري معها بخلاف الولايات المتحدة والغرب، كما كان للاتحاد السوفيتي دورٌ بارزٌ فيما يتعلق بدعم حركات التحرر الوطني الإفريقية، ناهيك عن مكانة موسكو فيما يتعلق بصادرات الأسلحة، حيث تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، إلى جانب وجود استثمارات روسية ضخمة في مجالات التعدين والتنقيب عن النفط والغاز، وبالتالي تنظر الدول الإفريقية لروسيا باعتبارها منقذًا لها من معضلة الديون الناتجة عن سياسات الإقراض الظالمة.
من جهة أخرى، فإن السياسة الروسية تجاه إفريقيا لا تقوم على الاستعلاء بخلاف الغرب والولايات المتحدة، فموسكو نوعت من أدواتها لتعزيز وجودها داخل دول القارة، حيث تبنت التوجه الناعم القائم على البعد الثقافي والتعليمي واللغوي، بخلاف البعد العسكري الذي كرسته بشكل مبتكر في صورة شركات أمن تمثل ظلًا للوجود العسكري الروسي الرسمي.
ثانيا: دلالات الانتشار
انتهجت روسيا خلال الفترة الأخيرة استراتيجية غير نمطية فيما يتعلق بتوجهها الأخير صوب القارة الإفريقية، حيث تسعى موسكو خلال ذلك لتحقيق أهداف عدة تتعلق باستعادة مكانتها وثقلها باعتبارها قوة دولية مناظرة للولايات المتحدة، وتعددت أبعاد الاستراتيجية الروسية، فلم تقتصر على البعدين السياسي والاقتصادي، ولكن تضمنت أيضًا إجراءات غير تقليدية تتم بواسطة شركاء غير رسميين يقومون بمهام بعيدة عن القانون الدولي، وسرعان ما انعكست مآلات تلك الإجراءات بشكل إيجابي على العلاقات الروسية- الإفريقية.
وتنبثق الاستراتيجية الروسية من ركيزة أساسية قوامها دعم أواصر العلاقات بالأنظمة الحاكمة الضعيفة، والتأثير على سياستهم الخارجية وتحركاتهم، مقابل حمايتهم وتقديم الدعم والمساندة لهم لضمان بقائهم في السلطة، وتعد فاغنر إحدى أبرز الأدوات الروسية للقيام بتلك المهام في الدول الإفريقية، فوفقًا لتقارير غربية تمكنت فاغنر حتى عام 2022 من التغلغل داخل أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية، وتمكنت من بسط نفوذها وسيطرتها على الأنظمة الحاكمة لتلك الدول[5].
بالتوازي تمكنت موسكو من استغلال حالة الغضب الشعبي والرفض التام للوجود الفرنسي، وقامت ببسط نفوذها، ويستدل على التوسع الروسي داخل دول القارة من عدة نماذج؛ فعلى سبيل المثال هناك النموذج المالي الذي يؤكد نجاح روسيا في الانتشار، حيث قدمت فاغنر غطاء أمنيًا وعسكريًا واستشاريًا للمجلس العسكري المالي منذ انقلاب أغسطس (آب) 2020 الذي أدى لتصاعد المشكلات مع دول الجوار، مما ساهم في فرض عزلة إقليمية لمالي وعقوبات اقتصادية انتهت بانسحاب مالي من مجموعة (G5).
وفي غينيا نجد أنه بعد انقلاب سبتمبر (أيلول) 2021 الذي أطاح بالرئيس ألفا كوندي، بدأت موسكو في تقديم الدعم لقائد المجلس العسكري مامادي دومبويا، عبر منحه صفقة أسلحة ضخمة مقابل منح شركات روسية امتيازات وصلاحيات تتعلق بالتعدين والتنقيب عن الذهب والماس، وفي بوركينافاسو عقب انقلاب سبتمبر (أيلول) 2022 الذي قام به إبراهيم تراوري، تمكنت فاغنر من استغلال الأوضاع وتمركزت في الإقليم الشمالي للبلاد على الحدود مع غانا بزعم تأمين المنطقة، ومواجهة المتشددين والجماعات المتطرفة، في المقابل وقعت موسكو على اتفاقية مع المجلس العسكري يتم بمقتضاها التخلي عن مناجم الذهب على الحدود مع غانا، نظير الخدمات العسكرية والاستشارية التي تقدمها فاغنر للمجلس[6].
ووفقًا لعسكريين أميركيين قامت موسكو بتوظيف وكلاء عسكريين غير رسميين في أكثر من (16) دولة إفريقية، حيث قُدرت أعداد المرتزقة بإفريقيا الوسطى بحوالي (1890) عنصرًا، وفي موزمبيق تم رصد عناصر من فاغنر خلال سبتمبر (أيلول) 2019 لمواجهة أنشطة داعش في إقليم كابو ديلجادوا شمال البلاد، والهيمنة على مناجم الذهب، والالتفاف حول الاكتشافات النفطية التي تمت بالإقليم.
وتتنوع مهام فاغنر داخل الدول الإفريقية؛ فمن ناحية تسعى لتعزيز الاستثمارات الروسية في قطاعات الطاقة والتعدين، حيث أثبتت تقارير غربية وجود علاقة بين تمركز فاغنر في الأقاليم الإفريقية، وحصول شركات روسية على استثمارات ضخمة في الأقاليم ذاتها، كما تسعى الشركة الأمنية للهيمنة على مناجم الذهب والماس، حيث كشفت تقارير حرص فاغنر على السيطرة على كافة الموارد الطبيعية بالدولة بجانب موردي الذهب والنفط؛ ففي إفريقيا الوسطى تم الكشف عن سيطرة الشركة على مساحة تقدر بنحو (187) ألف هكتار من الغابات، بعدما قامت حكومة بانغي بمنحها حق قطع الأشجار، كما سحبت الحكومة ذاتها امتياز حق التعدين في منجم نداسيما من شركة تعدين كندية، ومنحته لشركة مدغشقرية حليفة لفاغنر، بينما كشف تقرير قامت به مجلة “تقرير إفريقيا” قيام فاغنر بإرسال ثلاث شاحنات بقوة السلاح تنقل مواد خامًا من بانغي إلى ميناء دوالا البحري في الكاميرون أسبوعيًا لإرسالها إلى موسكو[7].
من جهة أخرى تسعى فاغنر لتحقيق هدف موسكو فيما يتعلق برفع صادرات الأسلحة الروسية إلى إفريقيا، وتقديم خدماتها الأمنية سواء للجماعات المتمردة أو المجالس العسكرية المنقلبة أو الأنظمة الحاكمة المهددة بالزوال، ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة فورين بوليسي تسعى فاغنر لخلق بيئة مضطربة، وتعزيز الصدامات وحالة العنف، لفتح أسواق جديدة أمام صادرات السلاح الروسية، فخلال الفترة من 2013 وحتى 2017 بلغت صادرات الأسلحة الروسية للقارة الإفريقية (49%) من إجمالي صادرات السلاح الروسية[8]، وخلال الفترة من 2014 وحتى 2019 وقعت موسكو أكثر من (19) اتفاقية تعاون أمني وعسكري مع دول إفريقية، وفي تقرير لمؤسسة راند نشر ديسمبر (كانون الأول) 2022 كشف بلوغ واردات السلاح الإفريقية من روسيا لأكثر من (49%) من واردات السلاح الإفريقي، والتي تتنوع بين أسلحة خفيفة وثقيلة بجانب منظومات دفاعية روسية[9].
ولا تقتصر خدمات الدعم الأمني التي تقدمها فاغنر على الأنظمة الحاكمة، لكن هناك دلالات تؤكد دعمهم لجماعات متمردة كما يحدث في تشاد، حيث أفادت تقارير استخباراتية أميركية بوجود تنسيق بين شركة فاغنر وعناصر من المعارضة التشادية؛ بغية الإطاحة بنظام ديبي الابن[10].
ثالثا: الموقف الأميركي إزاء الانتشار الروسي بواسطة فاغنر
دفعت المعلومات الاستخباراتية التي تم تسريبها حول وجود تحركات روسية بواسطة فاغنر، لإنشاء اتحاد كونفيدرالي مكون من الدول الرافضة للوجود الغربي والأميركي، دفعت الولايات المتحدة للمُضي بخطوات سريعة لتوطيد أواصر العلاقات، وإعادة النفوذ الأميركي داخل القارة الإفريقية عبر مجموعة آليات يمكن إبرازها على النحو التالي:
-
ضغوط مالية:
شرعت واشنطن في ممارسة الضغط المالي على عدد من البلدان الإفريقية؛ لتعجيزهم عن الوفاء بالمستحقات المالية لفاغنر، ففي إفريقيا الوسطى نجد تمركزًا لقوات فاغنر بموجب تعاقد لحماية السلطة الحاكمة برئاسة فوستين تواديرا من المتمردين وهجمات التنظيمات الإرهابية، حيث أفادت تقارير بتمركز ما يقرب من (1890) فردًا من فاغنر، في المقابل عرضت واشنطن على الرئيس فوستين الاستغناء عن فاغنر مقابل الحصول على مساعدات مالية وإنسانية كبيرة إلى جانب تخفيف الديون، حيث كشف تقرير نشره موقع “أفريكا إنتلجنس” عن صفقة محتملة بين واشنطن وإفريقيا الوسطى، تتضمن دعم وتعزيز القدرات العسكرية لجيش البلاد ومده بمساعدات مالية تصل قيمتها (10) ملايين دولار، بينما لم تتلق واشنطن استجابة من الرئيس فوستين، الأمر الذي دفعها لتوجيه باريس للامتناع عن تقديم الدعم المالي لبانغي، وكذلك الضغط على البنك الدولي للامتناع عن تقديم أي مساعدات للدولة، وفرض قيود صارمة على مخصصات إفريقيا الوسطى، والجدير بالذكر أن (45%) من موازنة الدولة تعتمد على المعونات الأجنبية ومخصصات البنك الدولي، لذا كان الضغط المادي أحد أدوات واشنطن للسيطرة على نفوذ فاغنر بالقارة[11].
-
تطويق محاولات التمدد:
برغم الرفض الأميركي للانقلاب العسكري الذي حدث ببوركينا فاسو، وإعلان واشنطن إيقاف التدريبات العسكرية التي كانت تشرف عليها قوات خاصة أميركية، وكذلك رفضها مشاركة القادة العسكريين البوركينابيين أحد التجمعات الدولية لقادة الدفاع عام 2022، فإن الإدارة الأميركية بدأت بالتراجع عن سياسة العزل لبوركينافاسو، حيث بدأت بالتقارب تدريجيًا مع قادة الانقلاب؛ في محاولة لمنع أي تحركات للتقارب مع فاغنر، فبدأت واشنطن إعلان دعمها للمجلس العسكري الحاكم في واغادوغو، وتقديم عروض خاصة بتدريبات عسكرية للقوات البوركينابية مع نظراء لهم في النيجر؛ لتعزيز القدرات القتالية لمواجهة التهديدات الإرهابية. من جهة أخرى تعمل واشنطن على تعزيز أي محاولات للتقارب بين الاتحاد الأوروبي وواغادوغو، يستدل على ذلك من استئناف المحادثات بين الاتحاد الأوروبي وبوركينافاسو فيما يتعلق بتعزيز أوجه التعاون الأمني بين الجانبين وذلك برعاية أميركية[12].
كما كشفت تقارير عن محاولات أميركية للتقارب مع المجلس العسكري المالي؛ للوصول إلى تسوية فيما يتعلق بتخفيف العقوبات الاقتصادية، وتقديم الدعم المالي والعسكري لمواجهة نشاط التنظيمات الإرهابية، مقابل إنهاء التعاون مع فاغنر. وبرغم صعوبة تحقق هذا السيناريو على المدى القريب، فإنه لا يمكن استبعاده لا سيما في ظل التطورات التي تواجهها مالي فيما يتعلق بالعزلة الإقليمية، ناهيك عن تصاعد المشكلات الاقتصادية والأمنية.
-
الضغط بزعم تحقيق الاستحقاقات الديمقراطية:
يظهر ذلك جليًا في النموذج الليبي، حيث يتمركز في ليبيا قرابة (1200) فرد من فاغنر في قواعد مركزية بسرت والجفرة، إلى جانب انتشار العديد من أنظمة الدفاع الروسية والمقاتلات، لذا عمدت واشنطن عبر زيارة مدير الاستخبارات الأميركية ويليام بيرنز لليبيا بداية العام الجاري، بالضغط على قائد الجيش الوطني خليفة حفتر للإسراع في تنفيذ الاستحقاق الديمقراطي المتعلق بانتخاب حكومة، وعودة المؤسسة العسكرية لثكناتها للقيام بمهامها الخاصة بالتأمين، وحماية البلاد وإنهاء الاتفاق مع فاغنر[13].
-
تعزيز المساعدات:
اعتمدت واشنطن استراتيجية تعزيز المساعدات والدعم الموجه للدول، التي لم تحدد موقفها من الوجود الروسي وانتشار فاغنر، خاصة في دول غرب إفريقيا كبنين وتوغو، فوفقًا لتصريحات صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية، فإن وجود فاغنر غرب القارة ما زال محدودًا ويمكن السيطرة عليه، لذا تسعى الولايات المتحدة من خلال ذلك لتطويق أي محاولات لتمددها وانتشارها.
-
التغاضي عن انتهاكات الأنظمة الحليفة:
كشفت الاستخبارات الأميركية عن معلومات تفيد بوجود تحركات من فاغنر لدعم قوى المعارضة السياسية في تشاد؛ للإطاحة بالمجلس العسكري التشادي الحليف الرئيس للولايات المتحدة والغرب، الأمر الذي دفع واشنطن لتكثيف دعمها لمحمد إدريس ديبي، وتغاضيها عن الانتهاكات الجسيمة التي يقترفها ضد رموز المعارضة السياسية، كما أكدت واشنطن حرصها على تعزيز التبادل المعلوماتي مع تشاد.
مما سبق وفي ظل التحركات الأميركية لتطويق النفوذ الروسي، والحيلولة دون تغلغل فاغنر وانتشارها في غالبية الدول الإفريقية، يصبح مصير الشركة الأمنية مرتهنًا بسيناريوهين:
-
السيناريو الأول: فشل التحركات الأميركية واستمرار فاغنر في الانتشار والتغلغل:
يعد هذا السيناريو الأقرب لعدة أسباب؛ أبرزها محدودية تأثير تلك التحركات نتيجة انقسام الإدارة الأميركية فيما يتعلق بالتعامل مع هذا الملف، بين تيار يدعو للحفاظ على التعاون مع الأنظمة الحليفة، والحيلولة دون تمدد فاغنر بشكل دبلوماسي، فيما يدعو التيار الآخر للتعامل عسكريًا وتفعيل كافة الأدوات للتخلص من الوجود العسكري لفاغنر، واستعادة التمركز الأميركي في إفريقيا مجددًا، لذا فقد عزز تشرذم الموقف الأميركي من انتشار وتغلغل فاغنر. أما على صعيد الخلاف الأخير بين فاغنر وموسكو، فلا زال الموقف ضبابيًا إلى حد كبير، كما أن هناك دلالة للمدة الزمنية التي استغرقها التمرد، والتي لم تتجاوز (24) ساعة، حيث تغلب التحليل السائد بأن ما حدث مجرد خديعة لتهدئة تحركات القوات الأوكرانية لشن هجوم مضاد والاشتباك مع فاغنر بعد معركة باخموت، لذا فإن تراجع بريغوجين بقواته إلى روسيا، كان من أجل إعادة ترتيب القوات والحصول على إمدادات مباشرة من موسكو لتعويض خسائره الأخيرة.
-
السيناريو الثاني: انسحاب فاغنر:
ينصب هذا السيناريو على فكرة رضوخ الشركة للضغوط الناتجة عن احتدام التنافس الدولي على دول القارة، وبرغم صعوبة تحقق هذا السيناريو على المدى القريب، فإن هناك عوامل عدة ربما تؤدي لانسحاب الشركة الأمنية؛ لعل أبرزها استمرار الخلاف مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري جيراسيموف، الأمر الذي سيؤدي لتجدد الصدامات مع القيادة العسكرية الروسية، وبالتأكيد فإن تحقق هذا السيناريو سيؤدي لمآلات غاية في الخطورة أهمها؛ تصاعد معدلات التناحر والاقتتال الداخلي بين العرقيات المختلفة لدول القارة، حيث إن تمركز فاغنر ارتهن بضمان الأمان والاستقرار وحماية بعض الفصائل المحلية، لذا كان بمثابة حائط دفاع لبعض العرقيات، وبرغم احتمالية انسحاب فاغنر على المدى البعيد، فإن ذلك لا يعني زوال الدور الروسي وتبدده، خاصة في ظل التنامي المتسارع للعلاقات متعددة الأبعاد بين الجانبين.
وأخيرًا، فقد نجحت روسيا في تكوين شراكات وتحالفات قوية مع دول القارة من الشمال، مرورًا بالشرق والغرب، ووصولًا للجنوب، وتمت تلك التحالفات بمنهجية نمطية وأخرى غير نمطية، بواسطة متعهديها من شركات الأمن، ونجحت فاغنر في أن تحل بديلًا أمثل للشراكات الغربية، وبرغم الخلاف الأخير بين قائد فاغنر والنظام الروسي، فإن ذلك لا يعني إنهاء الارتباط بين الجانبين، فربما تتغير مسميات الشركات، وكذا تتغير أسماء قادتها، لكن الأكيد أن الاستراتيجيات التي تتحقق من خلالها المصالح لا تتغير.
من هنا أصبحت شركات الأمن بمقوماتها المادية والتسليحية القادرة على مواجهة الجيوش النظامية، تشكل وجهًا غير نمطي من أوجه الاستعمار، الأمر الذي من شأنه تهديد سيادة دول القارة، وإضعاف مؤسساتها، وتعزيز معضلة الاندماج الوطني بين شعوب القارة، لذا صار لزامًا البحث عن حلول قاطعة للمشكلات الداخلية التي تعاني منها دول القارة؛ خوفًا من تفاقم أوضاع شركات الأمن، لتصبح بمرور الوقت شكلًا جديدًا من أشكال الاستعمار.
[1]– دعاء عويضة، عسكرة السياسة الفرنسية والاختراق الروسي التركي.. لماذا يتراجع نفوذ باريس في إفريقيا؟، موقع عربي بوست، 8 يونيو (حزيران) 2022، متاح على: https://cutt.us/b1grx
[2]– global terrorism index 2022, available at: https://reliefweb.int/report/world/global-terrorism-index-2022
[3]– African nations abstain, but Eritrea casts only UN vote against Russia-Ukraine resolution,Africa Times,2/3/2022, available at: https://cutt.us/Ebbqx
[4]– Russian Trade Turnover With African Countries Up 17% To US$20 Billion, Russia Briefing,30/8/2019, available at: https://cutt.us/lzujG
[5]– Russia’s Wagner Group in Africa: More than mercenaries,DW,17/4/2023, available at: https://cutt.us/KJmdr
[6]– غينيا… بين اختبار الانتقال السياسي و«الأطماع الدولية»، موقع جريدة الشرق الأوسط، 11 سبتمبر (أيلول) 2021، متاح على : https://cutt.us/WAO5b
[7]– دعاء عويضة، مرجع سبق ذكره.
[8]– صادرات السلاح إلى إفريقيا استراتيجية طويلة المدى، موقع DWعربي، 31 مايو (أيار) 2020، متاح على: https://cutt.us/PXKmh
[9]– المرجع السابق.
[10]– U.S. Intelligence Points to Wagner Plot Against Key Western Ally in Africa, The wall street journal,23/2/2023, available at: https://cutt.us/ryMuO
[11]– Washington gives $10m for FACA military camps,Africa Intelligence,24/4/2023, available at: https://cutt.us/ma3RJ
[12]– تمدد محتمل: فرص نجاح التحركات الأميركية لمحاصرة نفوذ فاغنر في إفريقيا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 27 أبريل (نيسان) 2023، متاح على: https://cutt.us/xnFgk
[13]– المرجع السابق.