يمثل مفهوم جيل دلوز (الاختلاف والتكرار -Différence et repetition) والذي خصّص له كتاباً كاملاً من أسس فلسفته، وميزة فلسفة دلوز في المفاهيم المرصّعة بسمائها. فهو من عرّف الفلسفة بأنها: “صناعة المفاهيم” ولذلك كلما خطوت في كتاباته تبدّت لك مفاهيم خلاقة خارقة تحفر معارضةً الكلاسيكيات الفلسفية السابقة. بل واستطاع من خلال قراءاته للفلاسفة مثل هيوم وكانط ونيتشه وفوكو أن يقترح مفاهيمه هو داخل فلسفاتهم هم، وهذا واضح -إلى حدٍ كبير- لمن قرأ كتابه عن “نيتشه” وهو الشرح الأهم لها من بعد قراءة هيدغر لها. و”الاختلاف والتكرار” مفهوم يأتيضمن معاداةٍ متأصلة للأسس، والتي يمثلها قديماً أفلاطون وحديثاً كانط.
“الاختلاف والتكرار” تربطه حالة “إدمان الفروق” التي تمتاز بها فلسفة دلوز، وهي ليست بريئةً من التأثر بـ”العود الأبدي” عند نيتشه[1]، حتى عدو دلوز القديم والذي تحوّل مؤخراً إلى صديق وهو آلان باديو حين خصّه بكتاب اعتبر: “أن الحدس البنائي لدلوز في طور مالارمي بحت، إذ إن الفرق بين الفصل الواحد، أو إن شئنا بين الفرق القائم بين السيمولاكرات وواحد الفرق نفسه… الفرق القائم بين رميات النرد والرمية والحيدة التي تسكنها وتؤسسها، أو أيضا الفرق بين تمايز السلالات والعود الأبدي، بإيجاز: الفرق بين اللاعلاقة والإضافة كل هذا يرد إلى ما يكاد أن يكون لا شيء”[2].
ويعتبر دلوز أن: “الاختلاف بين شيئين هو فقط تجريبي، والتعيينات المقابلة خارجية، غير أنه بدلاً من شيء يتميز عن شيءٍ آخر، لنتخيل شيئاً يتميز، ومع ذلك ما يتميّز عنه لا يتميز عنه، يتميّز مثلاً البرق عن السماء السوداء، إنما عليه أن يجرّها معه كما لو أنه تميّز عمّا لا يتميز. ويبدو أن القعر يصعد إلى السطح، من غير التوقف أن يكون قعراً… الاختلاف هو حال التعيين هذا بما يتميز وحيد الجانب، يجب إذاً أن نقول عن الاختلاف: إننا نصنعه، أو إنه يصنع نفسه، كما في عبارة صنع الاختلاف… يبدو إذاً أن انتزاع الاختلاف من حال لعنته مشروع فلسفة الاختلاف”[3].
بينما التكرار، وبحسب عادل حدجامي في دراسته المهمة: “فإنه يتحدد في التمثل باعتباره إنتاجاً لنسخةٍ عن الهوية، وبهذا فهو غياب للاختلاف، وتساوٍ بين العناصر، كل تكرار هو في التمثل تشابه وتماهٍ مع المفهوم، فما يتكرر هو دائماً الشيء نفسه، والنموذج على ذلك هو التكرارات المادية والفيزيائية كما في ذرات لوكريس وأبيقور –مثلاً- على أن هذا الفهم لمعنى التكرار عند دلوز ليس إلا (التكرار العاري) والذي قوامه التضحية بالجزئي من أجل الكلي، وبالمختلف الضعيف من أجل هويةٍ رابطةٍ، وهذا الفهم هو عنده على النقيض لمعنى التكرار في ذاته”[4].
التكرار عند دلوز ممتنع إلا بشرط الاختلاف، وفي هذا تقوية له، وبشكلٍ أوضح: “إن ما يعنيه هذا الأمر هو أن الاختلافات الفردية المطلقة وحدها تكون موضوعاً للتكرار، فالتكرار ليس تشابهاً تمثّلياً بل واقع أنطولوجي… إن فهمنا التكرار بالمعنى الصوري فإننا سننتهي إلى نفي كل وجودٍ له، لأن كل شيء هو على الحقيقة متفردٌ بذاته، فالتكرار الحقيقي نتوصل إلى إدراكه حين نكفّ عن رد التكرارات إلى الهويات”[5].
و”الاختلاف والتكرار”، أو كما يترجم أحياناً “الفرق والمعاودة” يأتي بمسار فلسفة دلوز التي تتجاوز الذرّة الذهنية، إلى الكثرة المفتوحة، وليست حركة خطّية بل بناء مركب غالباً أو المعاودة المتسلسلة الدائبة كما هو وصف باديو، ويضيف: “إن كل بناءٍ للتفكير يذهب كما يقول لنا دلوز من (أ) إلى (ب) ثم من (ب) إلى (أ) لكن نحن لا نعثر على نقطة انطلاق كما في معاودةٍ عارية، المعاودة هي بالأحرى بين (أ، وب) و(ب، وأ) المسافة أو الوصف التدريجي لحقل استشكالي في جملته”[6]. هكذا يقول باديو: “إنه يشبه المغامرة السردية أكثر مما يشبه لحظة العين الديكارتية”[7].
ويعتبر دلوز -بعبارةٍ أوضح وأدق يختصرها باديو-: “أن كل موضوع هو موضوع مضاعف، من دون أن يتشابه نصفاه”[8]. ولهذا المعنى تداخلات أخرى بين مفهوم الاختلاف والتكرار، ومفاهيم أخرى تأخذنا إليها فلسفته مثل الجذمور وعناياته بشرح مسطح المحايثة ومنطق المعنى.
[1] كما يشرح دلوز في كتابه (الاختلاف والتكرار)، ص541 حين يقول: “العود الأبدي مطروح للبحث مرتين) ويشير إلى أن قدم العودة الأبدي لأسباب تتعلق بـ(النقد الموضوعي).
[2] آلان باديو، (دلوز صخب الكينونة)، ص125.
[3] جيل دلوز، (الاختلاف والتكرار)، ص93-95 باختصار.
[4] عادل حدجامي، (فلسفة جيل دلوز -عن الوجود والاختلاف)، ص204-205.
[5] المرجع السابق، ص204-205.
[6] آلان باديو، (دلوز صخب الكينونة)، ص52-53.
[7] المرجع نفسه.
[8] المرجع نفسه.