تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث دراسة محاضن العنف في القرن الإفريقي؛ ويستكمل كتابه «حركة الشباب في الصومال: الجوار- المكافحة- التحدّيات» (الكتاب الثامن والتسعون بعد المئة، يونيو (حزيران) 2023)، اهتمام المركز بمستقبل التطورات في إفريقيا عامةً، ودراسة القرن الإفريقي والحركات الإسلامية في الصومال خاصةً؛ ببحث تأثير «حركة الشباب» الإرهابية في المجتمع الصومالي وشعوب القرن الإفريقي وكينيا وتنزانيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وموزمبيق، مع تفحّص التحوّلات الأيديولوجية فيها بين مقاولي العنف والإرهاب؛ بدايةً من الخطاب القطبي المكفِّر للمجتمع والأنظمة بالكليّة، وصولًا إلى الخطاب الداعشي في التكفير، مع تفحّص صمود فكرة الدولة أمام التحدّيات الكبرى التي تواجهها في إفريقيا.
مهّدت فاتحة دراسات الكتاب لمحطات تاريخ الممالك الإسلامية الصومالية وحروبها منذ الإمبراطوريات الحبشية والبرتغالية، وصولًا إلى حروب الاستعمار الحديث والتحرر منه، وتوقفت عند تشكُّل «جمهورية الصومال الديمقراطية»، التي نجحت لدورتين انتخابيتين في التماسك؛ إلى حين انقلاب 1969.
تناول الباحث الصومالي محمود عيسى تاريخ التديّن في البلاد، مشيرًا إلى محورية دور الطرق الصوفية التي حملت مشروعية الإسلام التقليدي، إلى أن تراجعت بعد تشكُّل الدولة الحديثة سنة 1960؛ مرجعًا ذلك إلى تبنّي الاشتراكية من جهة، وصعود الحركات الإسلاموية؛ التي تغذّت على أنماط التدين الوافدة مع أوبة طلاب الدراسات الدينية من الخارج من جهة أخرى، ومعهم نشأت المسايرة لما عُرِّف بالصحوة الإخوانية؛ فدخلت تغيّرات عقدية قضت على التصوف ووصفت المجتمع بالشرك العقائدي والسياسي.
ربما تزامنت خيوط الموجة الأولى لعمليّات «الأسلمة السياسية» في الصومال مع جهود التعريب التي حدثت نتيجةً للاتجاهات العروبية التي تتبنى المنهج الناصري أو البعثي في التعريب، ولكن ذروتها تبدو في تبنّي المنهج الإخواني القطبي، الذي نتج عنه ما سمي بـ«حركة الإصلاح» الإخوانية، بزعامة علي شيخ أحمد أبو بكر، الذي تأثرت به حركة الاتحاد الإسلامي. وانتشرت الموجة الثانية للأسلمة مع ظلال سيد قطب ومعالمه، وترافق ذلك مع بروز التشدد العقدي الجديد الذي تبنّاه جناح الاتحاد الإسلامي الذي انتقد المجتمع وممارساته الدينية الصوفية. ويُزعم أن بعض الإجراءات الرسمية ساهمت في توسيع دائرة استقطاب المتعاطفين وجذبهم إلى التيارات الإسلاموية، خصوصًا بعد قانون الأسرة الصادر سنة 1975، الذي أثار سجالات داخل المجتمع التقليدي المحافظ، فمنح التغييريين من الحركتين الإسلامويتين زخمًا، للتنافس على رمزية تزعّم التعبير عن رفضه، لأهمية شرعية تمثيل المحافظين في معركتهم لاختطاف الأصوات الرافضة لفرض التحديث والعصرنة القسرية المزعومة!
لاحقًا، وعلى إثر انهيار مؤسسات الحكم الوطنية بعد سنة 1991، شكّلت ثلاثية التكفير والتشدد ورفض الدولة، عوامل أساسية لحقبة انتشار الجماعات الإسلاموية وتجربتها في الحكم، فتزامنت مع تحولات عالمية منها: عودة المقاتلين الصوماليين المشاركين في قتال الاتحاد السوفيتي من أفغانستان؛ مكتسبين خبرةً قتالية ومهارات تجنيديّة كبرى، لكنهم افتقروا إلى خبرات إدارة المد الشعبي والحفاظ عليه. فعلى الرغم من نجاح الاتحاد الإسلامي عسكريًّا في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية، وسيطرته على بلدية لوق (Luuq) بإقليم غدو (Geedo) وحكمها لمدة سنة (1996-1997)، فإن الحركة طُرِدت منها؛ ومن الموانئ والمناطق التي سيطرت عليها لفشلها شعبيًّا في التعامل مع المواطنين.
انعكس الإخفاق على مرحلة المراجعة سنة 1997؛ إذ حاولت الحركة في اجتماعات مقديشو ترشيد العنف، ولكنها فشلت بعد أن انشقت عنها مجموعة عنفية كبيرة، تتغذى على عوامل خارجية وشعبوية، وتستند إلى الأرضية الفكرية نفسها.
يشرح الباحث الصومالي محمود الأمين الهادي الاختلافات الرئيسة بين طبقات الحركات الإسلاموية المتطرفة في الصومال، ويتوقف عند مسارات مواجهة الإرهاب، مستشهدًا بإمكانية المحاولة إثر بروز معالم تغيرات لافتة، أبرزها تعيين منشقين عن حركة الشباب في الحكومة الصومالية الراهنة، مثل وزير الأوقاف والشؤون الدينية في الحكومة الفيدرالية الصومالية مختار روبو (Mukhtar Robow). ويشير الباحث إلى طروء خطاب ديبلوماسي لدى زعماء حركة الشباب الإرهابيين، يوحي بأن الخضوع للمفاوضات بات محل نقاش، ولكن هذه الرغبة منهم يُستبعد أن تجد صداها لدى الحكومة الوطنية الجديدة.
يُنبِّه الباحث إلى دروس يمكنها المساهمة في دعم المواجهة الجذرية، بتصحيح المسار الديني الذي يعيد ضبط «الذوق الفردي في فهم النصوص» الذي بنت عليه الحركات الإرهابية شعبيتها الدينية، مفتتةً الجذور التقليدية لتدين الصوماليين.
ناقشت الباحثة الصومالية فاطمة محمد حوش موقع القبيلة والانتماءات القبلية في فهم التحيّزات للحركات الإسلاموية المتطرفة، وتطرّقت إلى المحدّدات الرئيسة لظاهرة الإرهاب في الصومال، عبر اعتماد المقاربة الاجتماعية في دراستها. استعانت الباحثة بـــ«النظرية الوظيفية»، و«نظرية أو نموذج الفعل- الهوية»، و«النظرية الصراعية» و«نظرية الحرمان النسبي». وشدّدت على أنّ الصومال لم يعرف الإرهاب، إلاَّ بعد سنة 2007، بعد دخول القوات الإثيوبية. وتشير في قراءتها للاستقطابات الاجتماعية إلى تقاطعات رئيسة؛ ففي الصومال تُدار الانتماءات المتقاطعة، بأسلوبٍ وصفته الباحثة بــ«الصراعي»، يقود إلى خطاب تحشيدي ومختزل ينتهي بالإقصاء، وهو ما يتوافق مع تنظيرات الهوية والاستبعاد الاجتماعي، التي تفترض سيطرة أربع قبائل كبرى وخمس صغرى على المناصب السيادية، واستثناء بعض مكونات المجتمع عن مشاركة المصير المشترك. وتختم دراستها بملاحظة غياب السبل الطاردة للعدوانية، من مناشطَ وفنونٍ عالية كان بوسعها تجسير الهوة وتحسين سبل إدارة الطاقات الاجتماعية!
حدّد الباحث الصومالي نعمان حسن عيديد خريطة الحركات الإسلاموية في الصومال، محلّلًا الملابسات التاريخية التي ساهمت في تخصيب البيئة لنمو التيارات الإخوانية، إثر تبني قادة انقلاب 1969 الاشتراكية التي وصفها بالمتشددة، خصوصًا بعد ما أسماه بــ«إعدام العلماء العشرة» الرافضين لقوانين الأسرة لسنة 1975، تزامنًا مع سخونة أجواء المواجهة خلال الحرب الباردة بالمنطقة. يشير الباحث إلى أن ضعف الحكم وهشاشة الدولة وغياب السلطة المركزية منذ سنة 1991، أدت -إلى جانب عوامل أخرى- لبروزٍ أقوى للحركات الإسلاموية المتطرفة التي سرّعت من إجراءات التحكيم وفضّ المنازعات، والخدمات الخيرية، مشيرًا إلى أن التدخلات الأجنبية شكّلت حافزًا يستغله الإرهابيون. يرى الباحث أن أخطاء المجتمع الدولي وقراراته فاقمت من تنامي سيطرة المسلحين وعودتهم، ومنها قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب سحب (700) جندي أميركي من الصومال سنة 2020، مما أثّر في القرن الإفريقي برمته.
تناولت الباحثة شيماء محمود، تأثير الاضطرابات السياسية في أرض الصومال (Somaliland) في نشاط حركة الشباب في الصومال الكبير. وقرأ الباحث ماهر فرغلي إصدارات حركة الشباب في النصف الأول من سنة 2023، ملاحظًا سيادة النهج القطبي عليها في تكفير المجتمعات، واعتماد نظرية «من لم يكفر الكافر فهو كافر» وسيادة منهج متأثر بتنظيم داعش في رفض «العذر بالجهل».
قدّم الباحث من إفريقيا الوسطى إسماعيل دانكوما، لاستراتيجيات الدولة الصومالية في مكافحة «حركة الشباب»؛ وشدّد على أنّ اضمحلال فكرة وسيطرة الدولة جعلا الصومال ملاذًا وقاعدةَ جذب للعمليات الإرهابية، مشيرًا إلى أنّ عظم الدولة المتمثل في الجيش؛ هو الذي يُقاس به عافية الدولة في إفريقيا؛ إذ استعادت الحركات المتطرفة قدرتها على العمل مع زيادة الحنق داخل القوات النظامية، محمّلًا الرئيس السابق محمد عبدالله محمد (فارماجو) مسؤولية عدم الاستقرار داخل الجيش؛ إذ غيَّر الرئيسُ خلال عامين أربعة رؤساء للأركان! وأدخل تغييرات على جهاز الشرطة والاستخبارات، ملمحًا إلى أنّ هذه التغييرات المتكررة، تشير إلى اختراق في الوكالات الرسمية؛ أو تؤدي إليه!
ركّزت دراسة الباحث محمود زكريا على الجهود الإقليمية والدولية في مكافحة «حركة الشباب» في الصومال، بعد قرار الرئيس الأميركي جو بايدن إعادة نشر (500) جندي أميركي في سنة 2022، إلى جانب تنفيذ «القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا» (AFRICOM) (15) غارة جوية ضد حركة الشباب في العام نفسه، بما يمثل زيادة بنسبة (30%) على سنة 2021، مما أدى لتحييد (107) من عناصر الحركة. استعرض الباحث جهود المنظمات الإقليمية متعددة الأطراف، وهي جهود كبيرة تمت في الأساس من قبل الاتحاد الإفريقي، عبر ثلاث بعثات رئيسة: «بعثة الإيجاد لدعم السلام في الصومال» (IGAD Peace Support Mission in Somalia)، و«بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال» (AMISOM) و«بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال» (ATMIS) الهادفة إلى تقديم المساعدات الإنسانية، والخبرة في حل قضايا النزاع والتسوية السلمية، ونزع السلاح من الأطراف المتحاربة وتقديم الدعم والمشورة السياسية والقانونية للحكومة الصومالية، ودعم الجيش الصومالي في مواجهة الإرهاب.
رصد الباحث آدم يوسف توسع الحركات الإرهابية الصومالية وأثرها بالقرن الإفريقي، وأشار إلى انتقال قيادات منشقة عن جماعة المحاكم الإسلامية إلى إريتريا سنة 2007، وزعم استخدام الأخيرة لها في ظل صراعها مع إثيوبيا آنذاك، واستغلال بعض المنسوبين إلى دول الجوار فراغ السلطة في الصومال، عبر تقديم الدعم للحركات المسلحة المختلفة في صراعاتها على النفوذ. حدّدت الدراسة أبرز معسكرات الجماعات الإرهابية، التي تشترك في كونها مناطق زراعية، غالبية سكانها من القرويين، حيث تغيب القبيلة وقوة تأثيرها.
عرض الباحث محمود الطباخ لشبكات الإرهاب الصومالية في كينيا، والتزام «حركة الشباب» بدعوة الزعيم السابق لتنظيم القاعدة أيمن الظواهري، بفكرة إقامة «دولة إسلامية» في القرن الإفريقي. تتبعت الدراسة تفرّعات حركة الشباب في كينيا، بعد أن استقرت في فصيلين: «جماعة الهجرة» في ماجينجو (Majengo) في تنزانيا وهي المتأثرة بالإرهابي أحمد إيمان علي، و«جيش أيمن» في لامو (Lamu)، وكلاهما يعتمد الاغتيالات والخطف، ويمتلك سلاحًا نوعيًا قلل اعتمادهما على مخلّفات الحرب الأهلية الصومالية.
تطرّق الباحث إلى ظهور تنظيم داعش في الصومال، واستقطابه للقادة الساخطين من الخط العام في «حركة الشباب»، مثل حسين عبدي جيدي وتيم الله. وبعد قبول داعش في أواخر سنة 2017 بيعة «مؤمن» في بونتلاند (Puntland) ضمّ التنظيم المئات، مستفيدًا من شبكة التسليح الداعشية النشطة، والآلة الدعائية، حتى صار «مكتب الكرار» بمثابة المكتب المالي لفروع القاعدة في إفريقيا، فرعَى شبكات التجنيد في الجامعات الكينية، كالشبكة المكتشفة سنة 2016، التي وظّفت فيها الأموال ووسائل التواصل الحديثة لجذب الطلاب الجامعيين في تخصصات الطب والهندسة.
على الرغم من ضعف داعش في كينيا، فإنها تتغذى من الحنق داخل تنظيم حركة الشباب، لضم الغاضبين أو الراغبين في الأضواء. يشير الباحث إلى أنّ منطقة القرن الإفريقي قد تشهد وقوع أكبر العمليات الإرهابية في العام الجاري بسبب الاضطرابات الكبيرة في السودان، والنيجر، والكونغو الديمقراطية. ويختم الباحث بملاحظة لجوء الحركات المتطرفة إلى اعتماد اللغة السواحيلية كآلية ثقافية فاعلة في التجنيد، ولا تقدم ترجمة لأعمالها إلا باللغة الإنجليزية.
رصدت الباحثة آية حسين محمود عثمان معسكرات الحركات المسلحة والإرهابية في شرق إفريقيا، مع التركيز على «حركة الشباب» في الصومال واستغلالها للثغرات الحدودية في منطقة شرق إثيوبيا (الحدود الإثيوبية- الصومالية)، والحدود الكينية- الصومالية. تضمّنت الدراسة معطيات عن تصاعد التفجيرات في أوغندا منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2021 في العاصمة كمبالا، إذ أعلنت قوى التحالف الديمقراطية (A D F) المرتبطة بداعش عن مسؤوليتها، لذا أرسل الجيش الأوغندي دعمه لشرق جمهورية الكونغو، وظل التنظيم الإرهابي يستغل هذه الثغرات.
عرض الباحث مصطفى حمزة الرؤية الروسية للإرهاب في إفريقيا، عبر مراجعة كتاب «الحرب على الإرهاب في إفريقيا: اتجاهات وحدود جديدة» الذي جمع آراء عدد من الباحثين والأكاديميين الروس، وساد فيه التحليل التاريخي، والصراعي، والاهتمام بالجغرافيا السياسية، ولفت الباحث إلى توقيع روسيا اتفاقيات أمنية مع أكثر من عشرين دولة إفريقية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب ويخص بالذكر الزميل ماهر فرغلي الذي نسق الكتاب، وزملاءه العاملين على خروجه إلى النور، ونأمل أنْ يسد هذا الكتاب ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يونيو (حزيران) 2023