تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «حصار مراوي في الفلبين: جذور التطرف وهشاشة الدولة» (الكتاب الثالث والستون بعد المئة، يوليو (تموز) 2020) تاريخ وحاضر الجماعات الإثنية والدينية في الفلبين، وعلاقتها بالدولة وتشكلها ومؤسساتها، والقضايا التاريخية المتراكمة عبر حقب الاستعمار، والانقلابات العسكرية، وانعكاسها في السلطة والأحزاب السياسية، وما نتج عنها من توتر متبادل ترك تأثيره في المجتمع والدين والسياسة. درس الكتاب الحركات الإسلاموية وخصائصها المحلية، ومدى ارتباطها بالإسلامويين في الشرق الأوسط، وسلط الضوء على الاستراتيجيات المعتمدة من الحكومات الفلبينية المتعاقبة في مكافحة الإرهاب.
يتجاوز عدد الإثنيات في الفلبين (110) مجموعات إثنية، ويوجد فيها أكثر من (170) لغة، بالإضافة إلى أربع لغات، لم تعد تتحدث بها الآن أي جماعة بصفتها لغتها الأم. وصل الإسلام إلى الجزر الجنوبية في الفلبين خلال القرن الثالث عشر، ودخلت المسيحية في القرن السادس عشر. تركّز المجتمع المسلم في الأجزاء الجنوبية من الأرخبيل الفلبيني، وشكل جزءاً من الهوية العرقية والقومية؛ وكما هو الحال في ماليزيا وإندونيسيا، فإنه نهض على بناءٍ تثاقفي يجمع بين الأديان والممارسات الثقافية الأصلية.
إن الصراع بين الكنيسة والدولة في الفلبين يُعد من الخصائص أو السمات البارزة التي طبعت تاريخ البلاد؛ إذ تبدو «المسيحية الفلبينية» أشد صلابة وحضوراً في المجالين السياسي والاجتماعي.
أوْلى الكتاب اهتماماً بالمسيحيين في الفلبين؛ فدرس تاريخهم -وهم أكثرية دينية- وتطرق إلى التبادل بين الكاثوليكية والديانة التقليدية، كما ناقش علاقة الكنيسة بالدولة والجيش، وتأثيرها في المسار الديمقراطي. تخلص إحدى الدراسات إلى أن «تحول الكنيسة من مؤسسة تستطيع منافسة الدولة في المجتمع والتعليم، إلى منافسٍ ضعيف يفتقد إلى قاعدة شعبية واسعة، وتتضاءل إمكاناته؛ يمكن تفسيره بالتاريخ المضطرب بينهما؛ إذ يزعم الطرفان انكبابهما على المصلحة العامة للأمة، لكن أولوياتهما وافتراضاتهما تصادمت دائماً، ومرت فترات تخليا أثناءها عن خلافاتهما لدى مواجهتهما خطراً يهدّد مكانتهما. ولم يكن من شأن ذلك التعاون أن يوهن التوترات الموجودة بينهما، بل بالكاد يخففها. وبمجرد أن يزول التهديد، تعود الخلافات لتحتل صدارة المشهد مجدداً».
أدت رخاوة فكرة الدولة في الفلبين والهامش التاريخي الكبير المتاح للمسيحية التقليدية، إلى بروز دور الكنيسة في إدارة الشأن العام، لكنها خسرت نفوذها، بعد تراجع منسوب التديّن، ودخول لاهوت التحرير في تشكيل تدينٍ ناعم، مرتبط بالحقوق الحديثة. في المقابل فإن الإسلام، ثاني أكبر دين رسمي في البلاد لدى حوالى عشر مجموعات إثنية- لغوية؛ أرسى مؤسساته التقليدية والتعليمية، واكتسب طابعاً تثاقفياً مكوناً من طبقات عدة بفعل أخذه بالمحيط الغني الذي انتشر فيه. ترى إحدى الدراسات أنه «في قلب تلك الطبقات، ثمة نواة صلبة يكوّنها النظام التقليدي المستمر الذي يتأقلم مع المتغيّرات الخارجية. لقد عمل المواطنون الأصليون على «توطين أصلي» للإسلام الذي توافق [تثاقف] مع مجموعة من المعتقدات والممارسات الثقافية الحديثة، بعضها ليس بالضرورة متوافقاً مع مفاهيم «الحرام» [الشريعة الإسلامية] على غرار شرب الخمر، وحمل أسماء مسيحيّة».
إن الإسلام التقليدي، التثاقفي والساكن، تهدده مخاطر «الإسلام الانفصالي» أو «الراديكالي» وتنظيماته الحركية، الذي غذته أموال الزعيم الليبي معمر القذافي منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وأفكار الإخوان المسلمين بعده، إلى أن تلقفته الموجات الكبيرة لــ«الإرهاب المعولم» في العقود الأخيرة. قدم الإرهابيون في دول الشرق الأوسط، خصوصاً بعد ظهور تنظيم داعش وإقامة «خلافته» المزعومة وخسارته لها، قوة دفع كبيرة لنظرائهم في الفلبين، وتحديداً جماعة أبو سيّاف ومن يدور في فلكها، حتى توحدوا في حصار مراوي، متجاوزين تبايناتهم العقدية والعرقية في مشهدٍ مخيف.
تنطلق إحدى دراسات الكتاب من تحليل مفاده أن «تنظيم داعش دخل بعد خسائره في العراق وسوريا، في مرحلة توسّع عالمي، وبما أن آسيا تضمّ (%63) من مسلمي العالم، فإن التنظيم أخذ يبحث عن حلفاء له؛ وبتعميق نفوذه في جنوب شرق آسيا، ضمّ جماعة أبو سيّاف بأكملها إليه، وبنى تنظيماً تابعاً فتّاكاً في الفلبين. وبالنظر إلى أن جماعة أبو سيّاف من الجماعات القليلة التي لديها قدرات بحرية، فإن استحواذ داعش عليها سوف يهدد بشكل كبير التجارة البحرية، وسيكون لدى داعش في شرق آسيا القدرة في المستقبل على شنّ عمليات برية في جنوب الفلبين وشرق ماليزيا، بالإضافة إلى ضرب أهداف في البحر. ولا يعد إنشاء نواة لداعش في الفلبين تهديداً محلياً فحسب، بل تهديداً إقليمياً ودولياً أيضاً».
قدم الكتاب رصداً لأبرز التنظيمات الإرهابية وقادتها في الفلبين، وركزت دراساته الست المختصة بالإرهاب ومخاطره وسبل مكافحته، على «حصار مراوي» الممتد من 23 مايو ( أيار) حتى 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2017. مثلما حاصر داعش الموصل والرقة، قررت داعش الفلبين حصار مراوي، المدينة الإسلامية بالكامل. كانت المعركة بين القوى الأمنية والإرهابيين حدثاً مهماً في جهود مكافحة الإرهاب، وكشفت عن وجود صلات قوية بين المسلّحين الفلبينيين المحليين وداعش. لقد مثّل ذلك تتويجاً لتحالف موالٍ لداعش جمع المقاتلين معاً في ثلاث من أكبر الجماعات العرقية في مينداناو: التاوسوغ (Tausug) والماراناو (Marano) والماغوينداناو (Maguindanao).
كشفت الدراسات المعنية بالظاهرة الإرهابية عن عمق المشكلة التي تعاني منها البلاد، لا سيما بعد انكسار مشروع داعش في سوريا والعراق واحتمالات تمدده وتفرعه في دول جنوب شرق آسيا. إلاّ أن «إشكال الإرهاب» لا يرتبط فقط بالتطرف والأيديولوجيا الداعية له، فثمة عوامل أخرى سياسية واجتماعية وتاريخية، لا بد من أخذها بالاعتبار من أجل قراءة وافية لجذور العنف الذي ينشط –غالباً- مع ضعف مؤسسات الدولة وهشاشة دورها في إدارة الأزمات وحلها.
يقدم الكتاب فهماً أولياً عن الفلبين، ليس في مجال ما تثيره دراسات الإرهاب ومكافحته من تعقيدات وتقاطعات فحسب، بل أيضاً في مجال فهم العلاقة البنيوية –وأحياناً الوظيفية– بين جماعات الأكثرية والدولة، في مراحل الاضطرابات والتسالم؛ كما أن التاريخ السياسي للبلاد قبل حقبة فرديناند ماركوس (1965-1986) وبعدها وما رافقها من «إرث شعبي ثوري»، من المفيد أخذه بالحسبان في سبيل تكوين رؤية أعمق.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج، التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
هيئة التحرير
يوليو (تموز) 2020