تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «حكم طالبان خلال عام (2021-2022): التحوّلات- الجوار- الإرهاب» (الكتاب التسعون بعد المئة، أكتوبر (تشرين الأول) 2022) مرور عام على سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان، ويرصد ردود أفعال الدول والحركات في مسارين: يرتبط الأول بسياسات ونفوذ باكستان، والهند، وتركيا، وطاجيكستان وأذربيجان، وروسيا والصين، في أفغانستان، ويعرض المسار الثاني للحركات الإرهابية والمتطرفة مثل القاعدة وداعش والإخوان، بالإضافة للحركات المتطرفة الإقليمية التي تهدد دول الجوار.
سلّطت دراسة المؤرخ الاقتصادي الهندي تيرثانكار روي (Tirthankar Roy) الضوء، على مراحل تشكّل خصائص الدولة الأفغانية وعلاقة المركز بالهامش بمسار التنمية، فبدأ من عصر الإمبراطوريات المتنازعة على النفوذ؛ التي أخضعت جغرافيا أفغانستان إلى مناطق نفوذ فارسية (هرات وقندهار) ومغولية (كابل وغزنة وجلال آباد)، أما مناطق الشمال فكانت وما زالت متأثرة بحضارة آسيا الوسطى. ركز الباحث على التحديث في عصر الملك عبدالرحمن خان (Abdul Rahman Khan) (1884-1901)، والتغيرات بعد الحرب (الأنغلو- أفغانية) الثالثة؛ إذ انتزع أمان الله خان (Amanullah Khan) (1919-1929) حقوقه السيادية الداخلية والخارجية؛ مقابل ترسيم الحدود، فتفرغ لبناء مشروع تحديثٍ تعثّر إثر انقلاب القائد العسكري الطاجيكي حبيب الله كلكاني، الذي زُعم أنه عارض علمانية أمان الله خان، وحتى بعد استئناف محمد نادر شاه (Mohammed Nadir Shah) (1929-1933)، لمشروع التحديث (1919-1945) ثم المرحلة بين عامي (1950-1978) لم يترك أثرًا سوى في العاصمة والحواضر، مفاقماً البون بين المركز والمناطق التي كانت تحت سيطرة الزعامات المحلية. وحتى التحديث السوفيتي النسبي بين أعوام (1978-1994) انحصر في المدن!
لما اندلعت الحرب الأهلية إثر خلع آخر ملوك أفغانستان محمد ظاهر شاه (Mohammed Zahir Shah) عام 1973، دخلت الدولة في انتقال لا نهائي، ارتبط التعبير السياسي للهامش فيه؛ بتبجيل كل ما يؤدي إلى التمرد على المركز، فتغذى على حنقهم الأيديولوجيون، والقبائليون والزعماء المحليون، وشاع عدم الاستقرار بسبب تعثر التنمية وتأخر سداد القروض الأجنبية التي تسببت في التدخل الأجنبي، وفشلت المحاولات لبناء مشروع تنويري يكتب الدستور، بسبب مشاعر الكراهية الموجهة إلى النُخبة والمركز، وتخلّق أفكار تربط التحديث بالخارج، وتربط المعارضة والتمرد بمبادئ دينية وقبائلية، رافضةً كل مسار تشكل الدولة. زعم الباحث أنّ أفغانستان ليست دولة فاشلة بقدر ما هي دول منقسمة، في التاريخ والجغرافيا، وهو ما يصنع خصوصية أيديولوجية، تزيد تعقيد الحالة الأفغانية.
استكمالاً لشرح خصوصية الوضع الأفغاني، درس الباحث الروسي ليونيد سافين (Леонид Савин) (Leonid Savin) آليات حركة طالبان، في ترويج تمثيليتها لمطالب تمردية، متطرقاً لطبيعة تحالفها مع تنظيم القاعدة، وطبيعة تحالفه مع حركة طالبان، التي ظلت تعمل مع القوى الخارجية والداخلية لبناء شبكة عملاء حسنة التنظيم. وبعد المرور على مصادر التمويل المشبوهة، يركّز الباحث على التشابه بين التنظيمين والبلاشفة، وحركات التمرد اليسارية؛ وتكريسهما لمزاعم ما يسميانه «الكفاح المسلح»، و«المقدس»، وتطابق ملاحقتهما للخصوم العقائديين رغبة في تصفيتهم، واستمراء الطرفين للعلاقة مع اللاعبين الخارجيين، وسعيهما لكسب شرعية دولية تفاوضية بعد تحقيق المكاسب على الأرض.
تَبرَّرَ السماح بسيطرة طالبان على أفغانستان، بمزاعم كان أبرزها أنها تغيّرت، بدليل أنها حاورت الأميركيين في مفاوضات طويلة. لذا حاول الباحث الأفغاني نور الهدا فرزام، اختبار هذا الزعم، للإجابة عن سؤال: «ما الذي تغير في حكم طالبان»؟ والتفكّر في صناعة حلول وسطى للتعامل مع الحركة. يصل الباحث إلى أنّ الحركة تتجه طوال تاريخها، من المرونة إلى التشدد، وأنّ «روح» التطرف فيها، تنافسية، تزداد بالممارسة ولا تتقوّم بالواقعية، لافتاً إلى دخول الأدلجة في مناهج تفكير الحركة، مستدلاً بتبنيها لفكرة «تكفير المجتمع» التي طبقتها في حربها، لتكفير سكان مدينة كاملة، في تأثر واضح بنهج سيد قطب. درس الباحث جمود تعاطي طالبان مع حقوق المرأة، واستغلالها ورقةً تفاوضية، لا أكثر.
قدمت الباحثة والصحفية الاستقصائية المصرية صفاء صالح في تقريرها الميداني من قلب أفغانستان، مشاهد حية، ورصدت مشاعر سكان العاصمة قبل وأثناء، وبعد سقوطها بيد طالبان. عكست الدراسة ما شعرت به نساء كابُل والموظفات الأفغانيات من صدمة، وخذلان مؤلم، خصوصًا إثر ملاحقتهن. تزعم الباحثة أن ثمة فوارق نفسية وثقافية هائلة بين نساء المدينة؛ ومن تسميهم «نساء الجبال»، تعيدها إلى التطرف الطالباني؛ الذي يسعى لفرض ثقافة القبائل الريفية على المدينة. تضمنت الدراسة حوارين مع الناشطة الأفغانية في حقوق المرأة محبوبة سراج (Mahbouba Seraj)، والقيادي الطالباني ذبيح الله مجاهد، وما خرجت به من انطباعات، حول فرص النساء الضئيلة في العهد الجديد. ولا تبتعد فرص المرأة، عن فرص الطوائف الدينية الأخرى، أو حتى الطرق الصوفية، إذ عكست دراسة التضييق الحاصل عليهما.
في محور العلاقات الدولية، ونفوذ دول الجوار، بدأ المحور بدراسة جامعة، لدبلوماسية حركة طالبان بعد عام من حكم أفغانستان، تجاه باكستان والصين، وتأثرها بالسياسة الاقتصادية، لا سيما في ظل الإغراءات الاستثمارية، وأهمية دخول البلاد في مبادرة الحزام والطريق.
قدَّم الباحث الروسي سيرغي ڤلاديميروڤيتش بيريوكوڤ (Сергей Владимирович Бирюков) (Sergey Vladimirovich Biryukov) وجهة النظر الروسية تجاه حكم طالبان، التي تبدأ بملاحظات عامة عن تفاقم الخلافات الداخلية الطالبانية، بعد موت الملا محمد عمر (1960-2013)، على خلفية التنافس بين الفصائل القبلية البشتونية. زعم الباحث انقسام طالبان إلى فرع يقوده محمد يعقوب، ابن المؤسس الملا محمد عمر؛ وفرع بقيادة شبكة حقاني؛ وفرع يمثله مكتب الدوحة؛ وآخر يمثله «القادة الميدانيون». وقيّم رغبة موسكو في التعامل مع فرعٍ واحد دون سواه.
تنبعث المخاوف الروسية من منطلقات أمنية، لذا تناول الباحث الروسي كونستانتين بتروڤيتش كوريليڤ (Konstantin Petrovich Kurylev) (Константин Петрович Курылев) تأثر الحركات الإرهابية في شمال القوقاز الروسي، بتجربة الحرب في أفغانستان، فرصد هذه الحركات وأفكارها، وارتباطها بتنظيمات خارجية مثل تنظيمي القاعدة وداعش. أتت المخاوف الروسية من المصالح المتبادلة بين طالبان والحركات الانفصالية المتطرفة في منطقة شمال القوقاز، وبلدان آسيا الوسطى، لا سيما أوزبكستان.
قيَّم الباحث الطاجيكي فريدون إبراغيموڤيتش أوسمونوڤ (Фаридун Ибрагимович Усмонов) (Faridun Ibragimovich Usmonov) تعامل حكومات المنطقة مع ملف الإرهاب. وقريبًا منه رصد الباحث الأذربيجاني آغازاد ميرمهتي ميركاميل أوغلو (Агазаде Мирмехти Миркамил оглы) (Aghazada Mirmehdi Mirkamil ogly) النفوذ التركي في أفغانستان، ملاحظًا أنه يتماشى مع سياسة «العمق الاستراتيجي» التركية المتبعة لتعزيز الحضور الإقليمي والعالمي، وامتلاك ورقة ضغط ضد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والصين. ولكنه لفت إلى سعي تركيا إلى تمثيل ذوي الأصول التركية في الحكومة التي شكلتها طالبان، بعين الحذر.
شكَّلت المخاوف الأمنية الصينية المتمثلة في قضية إقليم شينجيانغ (Xinjiang)، والنزعات الانفصالية فيه، أبرز الملفات التي تقلق الحكومة الصينية وترسم سياستها تجاه أفغانستان، وقد بحثتها دراسة الأكاديمي والباحث الصيني وانغ جين (Wang Jin)، الذي تطرق إلى الملف الاقتصادي؛ فقد استقبلت الصين وفدًا من طالبان لمناقشة الفرص الاقتصادية في الأيام الأولى لسيطرة الحركة على البلاد، وأرسلت مئات المستثمرين في الأسابيع الأولى. وعلى الجانب القيمي، لا تخفي الرؤية الصينية سرورها بفشل تسويق «الديمقراطية الغربية» في العالم.
سيطر المشهد الأمني، على الرؤيتين الهندية والباكستانية، لذا طرحت الباحثة المصرية سهير الشربيني معايير وتفسيرات حددت فيها علاقة طالبان مع باكستان، بالتركيز على الطبيعة القبائلية من جهة، ونشوء طالبان باكستان من جهة أخرى، والخشية من تحوّل سيطرة طالبان على كابُل، إلى مشهد رمزي يغري الحركات المتطرفة، إلى حماقات مماثلة. تناولت الدراسة علاقة شبكة حقاني، بالتحولات، راسمة السيناريوهات المتوقعة لمستقبل العلاقة الباكستانية الطالبانية في ظل التحديات الراهنة.
ولفهم الانعكاسات على الهند، التي بدأت بالعلاقة مع جهات معارضة لطالبان، أرّخ الباحثان تور ريفسلوند هامنغ (Tore Refslund Hamming) وعبد السيد (Abdul Sayed)، لظهور «تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية»، فعرضا أيديولوجيته وعلاقاته مع التنظيم المركزي، والشخصيات البارزة المساهمة في تأسيسه (أسامة محمود، وعاصم عمر، وأحمد فاروق)، وسعيه للعمل على كامل أراضي شبه القارة الهندية، وعلاقته مع حركة طالبان. حاول الباحثان وضع سيناريوهات مبنية على تصريحات وتصرفات التنظيم وحركة طالبان، وبالتحديد شبكة حقاني، فكشفا عن أوجه التعاون المشتركة بينهما، لاستشراف مستقبل التنظيم، ومدى قدرة طالبان على ضبط تحركاته.
كان تحييد الإرهابي أيمن الظواهري (قتل في 2022)، في العاصمة الأفغانية كابُل، وبالقرب من مشهد ومرأى عناصر استخباراتية لطالبان، كاشفاً لأمرين: الأول استمرار العلاقة الطالبانية القاعدية، والثاني تسريب محل إقامة العناصر الإرهابية. وكلا الأمرين استدعى عملًا طالبانيًا مضنيًا لخلق سرديات بديلة لهما. لذا تناول تقرير مجمّع قراءة لأبرز التقارير الغربية التي رصدت علاقة طالبان بمقتل الظواهري من عدمها.
وحول مستقبل القاعدة، تناول الباحث المصري أحمد فؤاد، رؤية أبرز المرشحين لتزعم التنظيم الإرهابي بعد مقتل الظواهري، كاشفًا عن مصادره الفكرية، وأسباب تبنيه للفكر القطبي التكفيري، وعلاقته بجماعة الإخوان وبعض الأجهزة في إيران، وموقفه من البقاء في أفغانستان.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخص بالشكر والتقدير الأستاذ عبدالله بن بجاد العتيبي، الذي اقترح المشروع، والشكر موصول للزميل أحمد لطفي دهشان، الذي نسق العدد، ونأمل أن يسد هذا الكتاب ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
أكتوبر (تشرين الأول) 2022