حوار الأديان وعقدة الاختلاف
محمد الحدّاد*
الحوار بين الأديان والحضارات هو إحدى نتائج العولمة التي فتحت المجتمعات على بعضها البعض، وجعلت الآراء المختلفة معروضة أمام أنظار الجميع. ويتطلّب هذا الوضع الجديد تغييراً جذرياً في العقليات كي تواجه هذا التحدّي، وأول شروط هذا التغيير القدرة على تقبّل الرأي المختلف مهما بدا بعيداً عن المألوف والسائد. والتقبّل هو غير القبول، لأن الاطلاع على رأي مخالف لا يعني الحكم عليه بالصحة أو الخطأ، فالمعرفة قيمة مطلوبة لذاتها، والحكم مرحلة ثانية تأتي بعد المعرفة، فإذا سبقتها كانت مصادرة على المطلوب وخللاً منهجياً واضحاً.
وليس الانفتاح على الرأي المخالف بدعاً في الحضارة العربية الإسلامية، فقد كانت حركة الفتوحات قد أنتجت وضعاً يشبه –جزئياً- عولمة اليوم، بما أنها جعلت العرب بعد الإسلام يحتكّون، في أقل من قرن، بأغلب المذاهب والآراء والديانات القديمة. ويكفي أن نقرأ كتاب “الملل والنحل” للشهرستاني –مثلا- كي نتبيّن الطيف الهائل من الآراء التي كانت رائجة بين المسلمين، وقد عرضها الشهرستاني دون عُقَد، لأنه عاش العصر الذهبي لعلم الكلام الإسلامي الأشعري، وكان واثقا من قدرة هذا العلم على مجادلة كل المخالفين، فلم ير حرجاً في أن يعرض الآراء بما أمكن له من الدقة والحياد، على اعتبار أن تحريف رأي المخالف للردّ عليه، إنما يسيء إلى قيمة الردّ أكثر من إساءته إلى رأي المخالف.
قد يستغرب القارئ اليوم لكتاب الشهرستاني التعارض بين التزام الرجل القوي بالمذهب الأشعري ومضمون الكتاب نفسه، والحقيقة أن لا وجود لتعارض حقيقي. فالأشعري كان يحمل رؤية صارمة حول الحقيقة الدينية مفادها أن الأشعرية وحدها هي الفرقة الناجية. لكنّ كتابه عرض آراء الملل والنحل بأريحية ودون توتر. فعندما عرض الشهرستاني آراء المعتزلة -مثلاً- لم يحرفها أو يعتمد مصادر خصومها فقط، كما صنع قبله عبدالقاهر البغدادي في “الفرق بين الفرق”، بل نراه قد اعتمد –أيضا- مصادر معتزلية أهمها كتاب “مقالات الإسلاميين” لأبي القاسم الكعبي البلخي. أما الفرق غير الإسلامية فقد قسمها إلى: أهل كتاب، ومن لهم شبهة كتاب، وأهل الأهواء، ومع أن هذا التقسيم يتضمن حكما تقييميا، فإن العروض لم تتسم -هنا أيضا- بالتوتر، بل بدا الشهرستاني متعاطفاً مع الفلسفة التي عدّها بين فرق الأهواء، حتى نراه يرفع بعض أعلامها إلى مرتبة الأنبياء، كما قال عن هرمس (الفيلسوف الإغريقي): إنه “المحمودة آثاره المرضية أقواله وأفعاله الذي يعد من الأنبياء الكبار، ويقال هو إدريس النبي عليه السلام”. ومن الطريف أيضاً أنه عدّ المجوسية بين الديانات الكتابية وفصّل آراءها التي استقاها -كما يقول- من مجوس دخلوا الإسلام، أو من كتب مجوسية كانت متداولة في عصره. ولم يتحرّج من نقل الحجج المخالفة للعقائد الإسلامية، ومن أمثلة ذلك الحوار الطويل الذي نقله بين الصابئة والحنفاء، أو الأدلة المفصلة التي نسبها لمنكري النبوّات، لقد عرض ذلك على مدى صفحات طويلة دون حرج أو تدخل.
فالشهرستاني لم يخف أحكامه على الأديان والعقائد التي عني بنقلها، لكن ذلك لم يمنعه من التزام نوع من الحياد المنهجي عند نقلها، أي إنه حاول الفصل المنهجي بين أحكامه الخاصة وعروضه للآراء المختلفة. وقد كان الشهرستاني ينتمي إلى جيل يشعر بالثقة بالنفس فلا يتحرّج من الخلاف ولا يهابه، وكان يدرك أن أفضل الردود هي التي تنطلق من فهم جيّد للرأي المخالف، وإلاّ وجد المتكلم نفسه محجوجاً عند المناظرة، إذا استعد للردّ على آراء لا تعبر بدقة عن مذاهب أصحابها.
إنّ التخلص من عقدة الاختلاف هي الخطوة الأولى في كل عمل منهجي، مهما كانت مقاصده بعد ذلك. والخطوة الثانية المطلوب تحقيقها اليوم، هي التخلص من الرؤية الأحادية للحقيقة، والعقلية الكلامية برمتها، كي ننتقل إلى عصر حوار الأديان والحضارات.
* آكاديمي تونسي، أستاذ كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان.