-1-
أزمة الرسوم الكاريكاتورية هي التجلي الأخير لما صار يظهر الآن كمشكل إسلامي أوروبي جديد. مصطلح “الأزمة” يشير إلى حالة توتر وقتي ذات مظهر سياسي قابلة للاستيعاب، فيما يشير مصطلح “المشكل” إلى وضعية تناقض ثقافي واجتماعي أعمق مرشحة لإفراز المزيد من التوترات السياسية، أما وصف “جديد” فيلفت إلى النسخ التاريخية السابقة من المشكل، التي تعود مفرداتها التراثية إلى الظهور فوق سطح الثقافة العلمانية “الراهنة”.
في النسخ المبكرة جرى الاحتكاك بين الإسلام وأوروبا من الخارج، أي في شكل مواجهة ممتدة بين “دولتين” متجاورتين، نتيجة لحركة الفتوح التي وضعت الإسلام في نقطة تماس مباشر مع الدولة البيزنطية (المسيحية). التغيرات الديموغرافية الناجمة عن الفتوح أسفرت عن وجود أقليات مسيحية داخل الأراضي الإسلامية، خلافًا للوضعية الراهنة: أقليات مسلمة داخل الأراضي الأوروبية. لكن الفارق الأهم هنا هو أن هذا الاحتكاك الخشن كان يجري على وقع العصور الوسطى، أي في ظل الهيمنة الطاغية للدين على بنية الاجتماع ومجمل الثقافة. ومن هنا ظهر المشكل بوجهه الديني الخالص والصريح، خلافًا للنسخة الراهنة التي تحاول تغطية هذا الوجه بعناوين علمانية معلنة.
عند منتصف القرن الماضي، كانت العلمانية قد تحولت إلى ثقافة سائدة في الوعي الأوروبي العام، حيث كانت الكنيسة قد تخلت بوضوح عن هيمنتها التقليدية في المجال العام، وفقدت الكثير من نفوذها في المجال الخاص، وبدا وكأن الدين قد كفّ تمامًا عن لعب دوره المعتاد كمثير رئيس للتوتر الاجتماعي والسياسي. لكن الدين الذي توارى عن صدارة المشهد، ظل يلعب دوره الطبيعي كرافد تراثي كامن في الثقافة، ومكون من مكونات الذات القومية. ومع التراجع “الدوري” لزخم الحداثة في الغرب، ظل الدين يكشف عن ثبات نسبي داخل المجال الخاص، وجرى تقييم هذا الثبات “كحضور” ديني جديد في إطار ما بدا ظاهرة عالمية لعودة المقدس.
في الواقع، لا مجال للحديث عن طفرة دينية صاخبة أو ذات طابع أصولي. فقط، تباطأت وتيرة “التراجع الديني” عن معدلاتها المضطردة، المعتادة في الغرب منذ القرن الثامن عشر. وهي “نتيجة” ترجع جزئيًا إلى النشاط النقدي الواسع لتيارات ما بعد الحداثة، التي انقلبت نظريًا على مسلمات الحقبة التنويرية بامتداد القرن العشرين، لكنها برزت بوضوح في سياق رد الفعل على تفاقم الأصولية الإسلامية بالذات. وهو التفاقم الذي صنع الظاهرة بالأساس.
ملامح المشكل الجديد أخذت تظهر في أوروبا قبل بداية القرن الحالي، مع تضخم الحجم النسبي لكتلة السكان المسلمين بسبب الهجرة، وتزايد الحجم النسبي للأصولية السياسية داخل هذه الكتلة لأسباب تتعلق جزئيًا بالسياسات الحكومية الغربية. وفي ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وصعود التيارات اليمينية (المتطرفة)، لم تتهيأ الظروف أمام المهاجرين للاندماج في المجتمع، الذي ظل بدوره “محافظًا” حيال فكرة الهجرة عمومًا والمسلمة بوجه خاص.
في غضون ذلك، كان الجيل الثاني من الأصولية الإسلامية (الأكثر تشددًا وعنفًا) يظهر مزيدًا من التحرش بالغرب، وأخذت التوجهات اليمينية تكتسب نبرة دينية جديدة، جرى استدعاؤها بسهولة من المخزون التراثي الجاهز والمحمل بشحنة خصومية كامنة حيال الديانة الإسلامية بالذات، وصارت التوترات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن العزلة أو التهميش تكرس حقيقة التناقض الثقافي، وتعبر عن نفسها بشكل ديني سياسي صريح.
-2-
في التكييف الأوروبي -كما عبر عنه الرئيس ماكرون- يكمن المشكل في “الإسلام الراديكالي الذي يريد فرض قوانينه الخاصة، وتكوين مجتمع مضاد” الأمر الذي يهدد وحدة المجتمع، ويشكل خطرًا على قيم الدولة المدنية العلمانية. وفي مقدمتها حرية الرأي/ التعبير “التي لا يجوز كبحها لحماية مشاعر فئة بعينها” تحمل ثقافة ماضوية، غريبة.
وفي التكييف الإسلامي –كما يعبر عنه ممثلوه الأكثر اعتدالًا- يكمن المشكل في نظام الدولة العلمانية الأوروبية، الذي لم يستطع الوفاء بوعوده النظرية حول المواطنة والعدالة المدنية وحماية الأقليات، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بحق الأقلية المسلمة في حماية مشاعرها الدينية. الإسلام الراديكالي لا يستغرق هذه الأقلية، والتحول الراديكالي لدى بعض أفرادها لا يرجع إلى عدوى المد الأصولي فحسب، بل أيضًا إلى سياسات التهميش والفقر الاقتصادي، فضلًا عن ممارسات الاحتواء والتلاعب السياسي من قبل الحكومات الغربية، التي ساهمت في تكريس المد الأصولي ذاته.
يعبر التكييفان عن مواقف التيارات الأقل تشددًا على الجانبين؛ فكلاهما يحاول طرح المشكل بوصفه سجالًا سياسيًا بين العلمانية الأوروبية والأصولية الإسلامية، لا بوصفه مواجهة دينية بين المسيحية والإسلام. ومع ذلك فالمقابلة بين التكييفين تكشف عن فجوة “ثقافية” واسعة: الأول يتجاهل حساسية “الرموز المقدسة” بالنسبة لثقافة دينية تقليدية (قبل حداثية)، والثاني يتجاهل حساسية الحقوق المدنية وخصوصًا حرية التعبير بالنسبة لثقافة علمانية (بعد حداثية). ومن هنا يظهر الفارق الثقافي كتناقض رئيس يلخص جوهر المشكل، ويظهر القانون كآلية قاصرة عن احتواء حركة الاجتماع السياسي، عبر صيغة توازن حاسمة بين حرية التعبير واعتبارات السلم الأهلي (ثمة نصوص دستورية وقانونية أوروبية تضفي بعض الضوابط على حرية التعبير لصالح الحساسيات الثقافية والإثنية، لكنها تظل نظرية بالقياس إلى “فعل” الواقع الاجتماعي).
ويظهر هذا التناقض الثقافي بصورة أوضح لدى التيارين الأكثر تشددًا على الجانبين: اليمين الأوروبي المتطرف، والسلفية الإسلامية المسيسة؛ الأول يستدعي الإسلام ذاته إلى المواجهة، كفاعل أصلي مسؤول عن خلق المشكل، وبوصفه ديانة راديكالية مناقضة بطبيعتها للحرية والتعدد، ومهيأة على الدوام لإفراز العنف. المشكل في صميمه هو مشكل الإسلام المأزوم تاريخيًا مع الحضارة الغربية الحديثة ذات الجذور المسيحية. وهو الطرح الذي يستفز الأوساط الإسلامية “المعتدلة” بما في ذلك هيئات الإسلام الرسمي خارج أوروبا، ويجرها إلى حلبة السجال بشكل دفاعي، يتقاطع أحيانًا مع الخطاب الأصولي المتشدد. وعلى الرغم من أن المسيحية لا تحضر كطرف صريح في المواجهة مع الإسلام، فإنها صارت تحضر بشكل ضمني في ثنايا الخطاب اليميني الإثني الشعبوي.
في المقابل، تظهر المسيحية في الخطاب السلفي بوصفها الطرف الذي يواجهه المسلمون في أوروبا. المشكل في جوهره صراع إسلامي- مسيحي مهما تعددت راياته المرفوعة على الجانب الآخر باسم الحداثة والعلمانية. وفي هذا السياق يجري استدعاء التراث الخصومي الطويل بدءًا من حروب “الروم” البيزنطية، إلى الحروب الصليبية، والحروب الإسبانية، حتى الحروب التركية، وصولًا إلى مرارات الحقبة الاستعمارية.
يتبع