-1-
“أتوقع نهاية التسامح المفهوم بشكل خاطئ.. أيديولوجيا الإسلام السياسي تهدد الحرية ونموذج العيش الأوروبي.. سنستحدث جريمة جنائية باسم الإسلام السياسي حتى نتمكن من اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين ليسوا إرهابيين لكنهم يخلقون أرضية خصبة لتوليد الإرهاب”. هكذا عبَّر المستشار النمساوي سباستيان كورتز عن موقف حكومته عقب حادث فينا الأخير (2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) الذي راح ضحيته أربعة قتلى وخمسة عشر جريحًا على يد متطرف إسلامي من تنظيم داعش.
وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد عبر عن الموقف ذاته على نحو أكثر تفصيلًا في إطار التعقيب على حوادث القتل التي طالت فرنسا في الشهر الماضي، والتي بدأت بقتل المدرس الفرنسي صامويل باتي وقطع رأسه قرب باريس، ثم قتل ثلاثة فرنسيين بكنيسة في نيس من بينهم امرأة تم قطع رأسها أيضًا، وذلك ضمن مسلسل التداعيات الدموية لواقعة الرسوم الكاريكاتورية، الذي لم ينقطع منذ سنة 2015، والذي أسفر عن مقتل (300) شخص في فرنسا وحدها حتى الآن.
وبدورها عبرت المستشارة الألمانية ميركل عن تأييدها للموقف النمساوي الفرنسي معلنةً أن “مكافحة التيارات المتطرفة هو كفاحنا المشرك” وفي بيان نشرته صحيفة “فيلت” الألمانية، دعت شخصيات تنتمي إلى التحالف المسيحي الحاكم إلى اتخاذ إجراءات أكثر حزمًا ضد الإسلام السياسي في ألمانيا. وتقدمت مونيكا هولهايمر ولينا ديبوت عضوا هذا التحالف بمقترح إلى البرلمان الأوروبي يهدف إلى مكافحة التيارات الإسلامية في أوروبا بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين.
-2-
تبدو أوروبا مؤخرًا وكأنها تعيد اكتشاف المشكل، مشكل الوجود الإسلامي في الغرب، سواء من جهة تكييفه أو آليات التعاطي معه: الأقلية المسلمة التي تتكاثر بنسب عالية يتزايد خضوعها للتيارات الأصولية، وتتحول إلى مجتمعات صغيرة أو جيتوهات أيديولوجية مغلقة. تحمل ثقافة معادية للغرب وكارهة للاندماج فيه. هذا التحول المضطرد يجري بشكل تدريجي ممنهج من خلال عدد لا حصر له من الجمعيات والمؤسسات والمراكز، التي تعمل كمنظمات مجتمع مدني مرخصة من قبل السلطات، والتي تقدم نفسها كتيارات “معتدلة” تقبل الحوار وترفض العنف وتعمل على احتواء التطرف.
من خلال هذه التنظيمات التي ترفع لافتة الاعتدال، تروج جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، لنفسها كممثل وحيد للأقلية المسلمة أمام السلطات الأوروبية، وتسوق نشاطها في إطار مساعدة الدولة على إدارة الأقلية وضبط إيقاعها بعيدًا عن التطرف والعنف.
ويتفاقم الوعي بأن هذه التنظيمات، التي تنتمي على اختلافها إلى جماعات الإسلام السياسي، تشتغل لحساب أجنداتها الخاصة ذات المرجعية الأصولية، وأن النشاط الذي تمارسه في المجال التعليمي والخدمي وعلى مستوى الشحن السياسي، من شأنه توفير مناخ موات لتكريس حالة الفصل الديني، وتوليد ثقافة التعصب التي تقود إلى الإرهاب.
الجديد هنا ليس التنبه إلى خطر الإسلام السياسي “المعتدل” كمصدر مرشح لإنتاج التطرف والعنف في المدى الطويل، فهذا المعنى مطروق على مستوى النقاش النظري، الذي يجادل في صحة دعوى الاعتدال بالنسبة لتيار سياسي ينحدر من ثقافة دينية “أحادية”، وتراث تاريخي مشبع بالعنف في خلفياته البعيدة والقريبة على السواء (من سجل الغزو والفتوح وصراعات السلطة، إلى السجل الدموي لجماعة الإخوان التي انبثقت منها جماعات التكفير والجهاد). وهو معنى مطروق أيضًا على مستوى الوعي الدارج في الشارع السياسي الأوروبي خصوصًا لدى اليمين.
الجديد في الموقف الأوروبي الأخير هو تبنيه كوقف رسمي معلن من قبل حكومات رئيسة، في خطوة تشير إلى تطور مخالف للتوجه الغربي التقليدي، الذي دشنته السياسات البريطانية بالذات قبل نهاية الحقبة الاستعمارية (سيجري تكريسه لاحقًا بفعل الضغط الأمريكي). وهو يقوم على فكرة استيعاب الإسلام السياسي (وأحيانًا خلقه) بغرض توظيفه لحساب المصالح الغربية الخارجية (بداية من تحجيم ومقاومة المد الشيوعي والحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، إلى المساعدة في أغراض اقتصادية وتجارية معروفة). وعلى المستوى الأوروبي الداخلي باحتضانه كتيار سياسي لاجئ إلى الغرب هربًا من القمع الشرقي، وقابل في الوقت نفسه للاحتواء والسيطرة بآليات النظام العلماني وقوانين الدولة المدنية.
في هذا السياق، ومع ظهور الجيل الثاني من الأصولية الإسلامية (الأكثر تشددًا وعنفًا، والأقل قابلية للاحتواء) وتمدده إلى الغرب، برزت فكرة “التيار المعتدل” الذي يمكن توظيفه داخل الإسلام السياسي لامتصاص التطرف وصد العنف. وهي الفكرة التي تلاقت مع مصالح الإخوان كجماعة براجماتية ذات تكوين “سلفي حداثي مزدوج”، وجدت ملاذًا آمنًا ومجالًا مناسبًا للحركة بعيدًا عن ضغوط الرفض المتنامية في بلادها الأصلية.
بعيدًا عن التحفظ التقليدي الذي يضع بريطانيا عادة على مسافة خطوة واحدة من أوروبا، تتشكل ملامح واضحة لموقف أوروبي جديد، تقوده فرنسا وألمانيا لمواجهة خطر الإسلام السياسي “المعتدل” وفي مركزه جماعة الإخوان المسلمين. “على المدى الطويل، التهديد الذي تشكله الإسلاموية الشرعية (المرخصة من قبل الحكومة) تجاه النظام الليبرالي أكبر من التهديد المتطرف. إنهم يطمحون إلى نظام إسلامي، لكنهم مستعدون للسماح بعناصر ديموقراطية معينة ضمن هذا الإطار، ولهذا السبب بالكاد يمكن التعرف على تطرفهم للوهلة الأولى” (ولاية شمال الراين، وستفاليا، ألمانيا 2018).
وعلى الرغم من الدعم “الرسمي” الواسع للتصعيد الفرنسي الألماني، لا يزال هذا الموقف يواجه بعض الصعوبات من جهة تمريره في البرلمان الأوروبي، بسبب تحفظاته التقليدية الحذرة حيال الإجراءات المتعلقة بالحرية وحقوق الأقليات. الأمر الذي يكشف عن الطبيعة المعقدة للمشكل، ويفتح النقاش من جديد حول قدرة النظام العلماني التعددي على التكيف مع نظام ديني أحادي يحمل أجندة تشريعية سياسية، وحول دعوى الاعتدال التي يرفعها الإسلام السياسي ممثلًا في جماعة الإخوان المسلمين. يتبع.