-1-
يستخدم الغرب الإسلام السياسي، ويستخدم الإسلام السياسي الغرب، في لعبة مكشوفة للطرفين. وتبدو هذه العلاقة مركبة بعض الشيء، فالغرب الذي يستخدم الإسلام السياسي (ويخلقه أحيانًا) هو غرب الدولة، أعني السياسات الحكومية كما يمثلها النموذج البريطاني صاحب الريادة في هذا المجال بوجه خاص. أما الغرب الذي يستخدمه الإسلام السياسي، فهو غرب النظام العلماني التعددي المفتوح، الذي يسمح بتشكل أقليات دينية أو إثنية مشمولة بحماية القانون، بالإضافة إلى غرب الدولة الذي يقدم أشكالًا من الدعم السياسي والمادي المكشوف أو المستتر حسب الحاجة.
ثمة مصالح متقاطعة. لكن عند نقطة معينة تكشف العلاقة عن تناقضات أصلية على مستوى الأهداف. وهو ما يتجلى بوضوح في مشكل الأقلية المسلمة في أوروبا، التي صارت تتحول بفعل الإسلام السياسي من أقلية “مسلمة” إلى أقلية “إسلامية”، أي إلى بؤر أيديولوجية مغلقة معادية لقيم الغرب، ومرشحة على الدوام لإفراز التطرف والعنف. وفي هذا السياق تبرز جماعة الإخوان المسلمين بوصفها الجماعة الأم التي خلقت ظاهرة الإسلام السياسي في الشرق العربي، والتي لعبت الدور الأكبر في تطوير هذه الظاهرة وتصديرها إلى أوروبا، وفوق ذلك بوصفها التيار الإسلامي صاحب العلاقة الأقدم والأكثر استقرارًا مع الغرب.
المشكل الإسلامي الأوروبي يرجع باختصار إلى حضور الإسلام الأصولي وسعيه للاستيلاء على الأقلية المسلمة في أوروبا. لقد تشكلت هذه الأقلية بسبب الهجرة التي شجعت عليها السياسات الأوروبية لدواعٍ اقتصادية بالأساس (الحاجة إلى عمالة تنفيذية رخيصة في مرحلة المد الرأسمالي الصناعي) وجرى ذلك في سياقات “علمانية” واضحة، ضمن مرحلة المد الأعلى للتبريد الديني التي شهدتها أوروبا طوال القرن الماضي. فالهجرة لم تتم نتيجة لاضطهاد أو تحت شعار ديني أو مذهبي، ولم ينتقل الأفراد بوصفهم “مسلمين” إلى مجتمع مسيحي، بل كباحثين عن فرص عمل في سوق مزدهر وجذاب على المستوى الاجتماعي والسياسي. وعلى الرغم من تزايد عدد الأقلية وتبلورها النسبي، لم تسفر الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية عن توترات ذات طابع ديني ثقافي “عنيف”، قبل ظهور الإسلام الأصولي الذي حول هذ الأقلية إلى كتلة سياسية منفصلة.
واقعيًا، تبدو “الرجة” الثقافية الناجمة عن حضور الإسلام السياسي في أوروبا أعلى صوتًا من الرجة التي أحدثها في الشرق الإسلامي. وهذا مفهوم تمامًا بالنظر إلى تفاوت درجة التناقض مع الأرضية الاجتماعية في الحالتين: في الشرق الإسلامي، وعلى الرغم من تناقض الطرح الأصولي مع نسق التدين الاعتيادي الدارج، والمشرب بمكتسبات حداثية نسبية، يمكن الحديث عن حد أدنى من الخلفية المشتركة مستمد من المدونة التراثية خلافًا للمجتمع الغربي، الذي لا يستطيع فهم الخطاب الأًصولي وحديثه عن الأسلمة في مناخات علمانية وذات خلفية مسيحية بالأساس.
في الشرق الإسلامي: جماعة الإخوان التي استدعت الأصولية السياسية، مسؤولة عن قطع مسار التطور الحداثي الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، وخلق أجواء من التوتر الديني والسياسي داخل مجتمع حديث عهد بالتحول المدني (لم تؤد الأصولية إلى تفعيل الطاقة الإيجابية للدين على المستوى الأخلاقي أو توفير السعي للتطور). وفي الغرب العلماني: تظهر مسؤولية الإخوان كمساهم رئيس في تصدير الحالة الأصولية، وخلق حالة من التسخين الديني السياسي، ساعدت على إيقاظ النوازع الشعبوية، وتوليد تيارات ذات نفس أصولي مضاد.
-2-
تمثل العلاقة بين بريطانيا والإخوان النموذج الكلاسيكي الأقدم للاستخدام الغربي للإسلام السياسي. وقد بدأت هذه العلاقة منذ المراحل المبكرة لنشأة الجماعة في مصر أوائل القرن الماضي. وبالنسبة للبعض لا يمكن فهم هذه النشأة بمعزل عن السياسات البريطانية في الشرق العربي منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، بغض النظر عن النفي الإخواني وشعاراته الخطابية المتكررة حول معاداة الغرب “المتآمر” على الإسلام.
وبحسب مارك كيريتس في دراسته الموثقة “شؤون سرية: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام الراديكالي” (وهي دراسة تستند إلى وثائق رسمية بريطانية وشهادات إخوانية مفصلة) تبلور في بريطانيا بعد انتهاء الحرب خيار استراتيجي بالتحالف مع القوى الإسلامية بغرض توظيفها “كمتاريس ضد الشيوعية والحركات القومية في الشرق الأوسط”. وتحول هذا الخيار بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء إسرائيل إلى سياسة بريطانية ثابتة عبر الحكومات المحافظة والعمالية على السواء. ووفقًا لكيرتس، “تواطأت بريطانيا لعقود مع القوى الإسلامية المتطرفة بما فيها المنظمات الإرهابية. وقد تآمرت معها، وعملت إلى جانبها، وأحيانًا دربتها ومولتها”لتحقق الهدف الدائم لسياستها الخارجية: “السيطرة على المصادر الأساسية للطاقة، وتثبيت موقع بريطانيا في نظام مالي عالمي موائم للغرب”. في هذا الإطار جرى استخدام القوى الإسلامية “كقبضة يد محافظة” لضرب القوميين المطالبين بالاستقلال، وتعزيز مواقع الأنظمة المساندة للغرب، وأحيانًا “كقوة صدم” لزعزعة الحكومات، وإحداث تغيرات داخلية فيها، أو إسقاطها عبر حروب تتم بالوساطة.
كان على بريطانيا تثبيت حضور القوى الإسلامية الناشئة، أو تحفيز ظهور القوى الموشكة على الحضور، أو إيجادها ابتداءً. وفي هذا الإطار، كانت الإخوان هي الجماعة الإسلامية الأولى ظهورًا في المنطقة كقوة دينية قابلة للتوظيف السياسي. وقبل الحديث عن أشكال التواطؤ المتنوعة بينها وبين بريطانيا على مدى العقود الماضية، يدور نقاش حول دور بريطاني “إنشائي” في عملية “إخراج” الجماعة، وما إذا كانت قد خلقت خلقًا على يد بريطانيا في سياق سياساتها المصرية إبان الاحتلال، للمساعدة في احتواء المد الشيوعي وحركات المقاومة الوطنية المتنامية في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي.
لكن، في الحد الأدنى المتيقن، وبحسب الوثائق البريطانية التي تم الكشف عنها، لا مجال للشك في دور “تسهيلي وتحفيزي” واعٍ، ساعد على تثبيت الجماعة وتصعيد حضورها السياسي، من خلال التمرير الإداري والدعم المالي، بالتعاون مع القصر الملكي والحكومات المصرية المتعاقبة بما في ذلك حكومة الوفد. (في هذا السياق تبرز الروايات المتواترة عن عملية التمويل المبكرة لحسن البنا في الإسماعيلية من خلال هيئة قناة السويس. وبحسب الوثائق، حظيت الجماعة بداية من 1940 برعاية القصر الذي وجد فيها قوة سياسية قادرة على موازاة الوفد، الحزب الأكثر شعبية في البلاد، وشرع في تمويلها بطرق مختلفة. أما حزب الوفد نفسه فوجد فيها قوة دينية قادرة على مقاومة التوجهات الشيوعية، وبدأ في تمويلها سنة 1942 بالتنسيق مع البريطانيين الذين كانوا يمولونها بالفعل. وتكشف الوثائق عن اجتماع في 18 مايو (أيار) 1942 لموظفي السفارة البريطانية مع رئيس الحكومة المصرية أمين عثمان، نوقشت خلاله العلاقات مع الإخوان، وتقرر “أن المساعدات المالية السرية من حزب الوفد إلى الإخوان سوف تتكفل بدفعها الحكومة المصرية، وأنها سوف تطلب عونًا ماليًا في هذا الشأن من السفارة البريطانية. كما تكشف وثائق الخارجية البريطانية عن اجتماعات متعددة مع قيادات إخوانية، وعن أن الحكومة المصرية بالتنسيق مع السفارة البريطانية كانت تقدم “رشاوى ضخمة” -حسب تعبيرها- إلى حسن الهضيبي المرشد الجديد للإخوان بعد مقتل حسن البنا).
آلية مضمونة سلفًا، فالنتائج المطلوبة تخضع لعوامل اجتماعية ونفسية متحركة وغير قابلة للحصر، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بحركة دينية. ولذلك بدا استخدام الإسلاميين -في الغالب- سلاحًا ذا حدين وأدى إلى نتائج عكسية (كنموذج واضح يشار إلى استخدام السادات للتيار الإسلامي للمساعدة في تقليص التوجه اليساري الناصري، والذي انتهى بالتوسع الأصولي واغتيال السادات نفسه). الأمر يتعلق بتناقض المصالح وتصعيد الأهداف داخل منطقة متحركة اجتماعيًا.
ولا يظهر الاستخدام السياسي في جميع الأحوال بشكل مباشر أو مكشوف خصوصًا في البداية، بحيث يكون الطرف المستخدم واعيًا بكونه مجرد أداة، وفي الغالب لا يكون هذا الوعي حاضرًا لدى القواعد التحتية للجماعة المستخدمة، أو لدى كوادرها الوسطى أو حتى لدى بعض القيادات. وبالنسبة للوعي الشعبي مثَّل التعاون مع قوة الاحتلال نوعًا من الخيانة الوطنية، وظل الغرب بعد الاستقلال يمثل خصمًا سياسيًا في ظل التوجهات القومية اللاحقة، لكن البراجماتية الإخوانية كانت قادرة على تقديم لائحة دفاعية مركبة، تتراوح بين النفي، والهجاء الخطابي للغرب، والتبرير التأويلي على أساس التقية والخداع الاستراتيجي وتمرير مقولة: نحن في الواقع من يستخدم الغرب.
يتبع