-1-
يعتقد الغرب أنه يستخدم جماعة الإخوان، وتعتقد الجماعة أنها تستخدم الغرب، وفيما يدرك كل طرف نوايا الطرف الآخر، تبدو العلاقة بينهما قائمة على جملة من الأوهام. الوهم الرئيس بالنسبة للغرب يكمن في رهانين: الأول: رهانه على توظيف الدين لتوجيه حركة الاجتماع السياسي داخل المنطقة الإسلامية لخدمة مصالحه السياسية والاقتصادية، والثاني: رهانه على إمكانية السيطرة على نشاط ديني مسيس داخل محيطه الأوروبي العلماني. في كلا الرهانين يصطدم التخطيط الغربي بطبيعة الفعل الاجتماعي المعقدة والعصية على التحكم خصوصًا في إطار الدين. وعلى الرغم من أن الغرب نجح بالفعل في تحقيق بعض النتائج المستهدفة جراء استخدامه للإسلام السياسي في المنطقة، فإنه –في المحصلة النهائية- ظل يواجه نتائج معاكسة انقلب فيها السحر على الساحر (النماذج واضحة في ارتدادات الحركة “الجهادية” المصنوعة غربيًا على المصالح الغربية الخارجية، وارتدادات التوغل الإخواني والسلفي داخل المجتمع الأوروبي).
أما الوهم الرئيس بالنسبة للإخوان فيأتي من جهة التمادي في تصعيد الأهداف، إلى حد الحديث عن عملية إعادة “غزو إسلامي” لأوروبا قبل الوصول إلى “أستاذية العالم”. عبر حديث تلفزيوني في ديسمبر (كانون الأول) 2002، أعلن الشيخ يوسف القرضاوي أن “الإسلام سيعود إلى أوروبا فاتحًا ومنتصرًا بعد طرده مرتين؛ الأولى من جنوب القارة في الأندلس، والثانية من شرقيها في أثينا. لكن هذه المرة لن يكون الفتح بالسيف وإنما بالدعوة والفكر”.
-2-
في هذا الإعلان الخطابي يستدعي القرضاوي عبر مصطلحات الفتح والطرد والانتصار والعودة، فكرة “الصراع الديني” كمسار دائم يحكم علاقة الدول والشعوب. وهي فكرة خشنة لا تعبر عن جوهر الدين، وتنتمي ببساطة إلى ثقافة العصور الوسطى التي تجاوزها الوعي الإنساني الحديث. لكنه يعود فيغلف هذه الفكرة بغطاء حداثي -أو يبدو بالنسبة له حداثيًا- عبر الكلام عن “الفكر” بدلًا من “السيف” كوسيلة لإنجاز الفتح والانتصار. في الحالتين ثمة صراع، وعلى الرغم من أن غرض الصراع المعلن هو عقيدة الناس، فإن موضوعه هو “أرض” الناس التي يجري الاستيلاء عليها في نهاية المطاف، وفي الحالتين الاستيلاء “مشروع” لأنه يجري باسم الدين. لكن هذا -في جوهر الدين وفي الوعي الحداثي معًا- تأصيل تبريري لا يقل زيفًا عن التأصيل الذي قدمه الاستعمار الغربي لمشروعية الغزو باسم الحضارة.
يمثل القرضاوي -وهو شيخ ريفي أزهري، يتوافر على مادة تراثية تقليدية ودرجة متوسطة من الثقافة- جزءًا مما يمكن وصفه بـ”حالة إعلامية مصنوعة” جرى خلقها وترويجها على يد الغرب، ضمن عملية الدعم الواسعة للإخوان في إطار أجندته الراهنة للتوظيف الإسلامي. وهو يقدم هنا نموذجًا مدرسيًا لطريقة التفكير الإخواني بخصائصه “التوفيقية” التي تجمع بسذاجة بين ثقافة العصر الوسيط “الفقهية” وقشور من مفردات الحداثة. يعبر الإخوان -كما شرحت سابقًا- عن شريحة فكرية ذات وعي “تراثي حداثي” مختلط. وهي شريحة يتكرر حضورها في أي اجتماع سياسي يواجه أزمة تحول. (الإخوان ليست جماعة أصولية خالصة، بل صيغة حداثية للتعبير السياسي عن الأصولية وهي تقاوم ضغوط التغير. إحدى صيغ المقاومة التي تعكس أزمة “النظام الديني” مع نظام اجتماعي جديد آخذ في التطور. ولذلك فهي تبدو أكثر تعقيدًا وقدرة على إثارة التوتر السياسي والاجتماعي، قياسًا إلى صيغ المقاومة التي تمثلها التنظيمات السلفية الخالصة).
-3-
لا يمتلك القرضاوي ملكات سيد قطب التنظيرية. لكنه يتميز عنه ببضاعته الفقهية التقليدية، التي يحاول إعادة صياغتها بحثًا عن مخارج مقبولة دينيًا لإشكاليات عصرية شائكة (اقتصادية/ اجتماعية/ سياسية). وهو نشاط إفتائي فرعي بدا، بالنسبة للتيارات الأكثر سلفية تلفيقيًا ومتساهلًا، فيما جرى تسويقه إخوانيًا بوصفه اجتهادًا عصريًا لا غنى عنه في مواجهة التحديات الحداثية.
كان القرضاوي قد نشر سنة 1990 كتابًا بعنوان “أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة”، حيث قدم تصورًا توجيهيًا لأداء التيارات المختلفة للإسلام السياسي، الذي تقوده بالطبع جماعة الإخوان بوصفها الجماعة الأم. (الخطاب موجه إلى مجمل “الحركة الإسلامية”، وليس فقط إلى الجماعة، التي يرتبط معها بعلاقة “ملتبسة” على المستوى التنظيمي، خصوصًا حينذاك).
خصص القرضاوي مساحة واسعة من كتابه للأقلية المسلمة في أوروبا. وبالنسبة له، يمثل وجود هذه الأقلية فرصة تاريخية غير مسبوقة أمام الحركة الإسلامية، التي يمكن “أن تلعب الدور القيادي المفقود للأمة الإسلامية”، والتي عليها العمل “بجميع اتجاهاتها وجماعاتها في توجيه وتشكيل عقول المهاجرين المسلمين الذين يعيشون في الغرب”.
مرة أخرى يعبر الطرح “القرضاوي” عن الخصائص التوفيقية المزدوجة للتفكير الإخواني: فهو من ناحية، يؤيد سياسة الانفتاح على غير المسلمين، ويرفض -في هذه المرحلة على الأقل- سياسة المواجهة، التي لن تضر إلا بالحركة، ويحرض على استراتيجية التسرب التدريجي إلى المؤسسات الأوروبية، والعمل من خلالها للحصول على ثقة الحكومات لتمثيل الجالية المسلمة. لكنه يدعو في الوقت نفسه إلى “أن تكون للمسلمين مجتمعاتهم الصغيرة ضمن المجتمع الكبير، وإلا ذابوا فيه كالملح في الماء”.
في هذا السياق، وفيما يشجع على تصعيد الهجرة إلى أوروبا “لتكثير سواد” المسلمين، يقترح عليهم الاستفادة من التجربة التاريخية لليهود: “ما الذي حافظ على الخصوصية اليهودية طيلة القرون الأخيرة في المجتمعات الأوروبية؟. إن ما حافظ على الأفكار والعادات هو العصبة الصغيرة التي تسمى “الجيتو اليهودي”، فلتسعوا –إذن- إلى إقامة “الجيتو الإسلامي” الخاص بكم في أوروبا”. أما إدارة هذا الجيتو فسوف تسند بالطبع إلى “علماء” إسلاميين للتصدي بشكل شرعي للتحديات التي تطرحها حياته اليومية. (عملية تسكين ثيوقراطي تقليدية تذكرنا بملاحظات “نيتشه” الثورية حول تاريخ الكهنوت).
وكما لاحظ ألكسندر ديل فال (الباحث لدى مركز الشؤون الخارجية والسياسة الفرنسي، ورئيس تحرير صحيفة فرانس سوار السابق)، يتدخل “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث” -الذي كان القرضاوي يرأسه حتى وقت قريب- في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمسلمي أوروبا، وبات يشكل كيانًا موازيًا للدولة ومنافسًا لها. إذ اعتبر المجلس نفسه المشرع الأوحد للقوانين التي تخص الجالية الإسلامية، وشكل بالتالي وعيها الجمعي تجاه أدق القضايا الحياتية اليومية. ويضع المجلس على رأس أولوياته تطبيق الشريعة في المجتمعات التي توجد فيها الجاليات الإسلامية لمحاصرتها بأفكار التنظيم الإخواني”.
فكرة “الكيان الموازي” للدولة والمجتمع، هي الخطر الذي أفرزته استراتيجية الاستيطان أو تكثير السواد، والجيتو الإسلامي الخاضع لسلطة ثيوقراطية داخلية. لقد أطلق “ديل فال” هذا التحذير في كتابه المشترك الذي أصدره قبل أكثر من عام تحت عنوان: “المشروع: استراتيجية الإخوان للغزو والتسلل في فرنسا والعالم”. الأمر الذي بدأت أوروبا أخيرًا بقيادة فرنسا وألمانيا في التعاطي معه بجدية، والذي يشرحه ماكرون بقوله: “الإسلام الراديكالي يشكل خطرًا على فرنسا لأنه يطبق قوانينه الخاصة، ويؤدي إلى خلق مجتمع مضاد”. يتبع