-1-
تظل تركيا ضالعة -كطرف رئيس- في صلب المشكل الإسلامي الأوروبي، سواء في نسخته القديمة التي امتدت من أواخر العصور الوسطى حتى نهاية الحرب الأولى، أو في نسخته المعاصرة الآخذة في الظهور منذ بداية القرن الجديد.
في النسخة المبكرة، قدمت الدولة العثمانية نموذجًا قروسطيًا تقليديًا للدولة الناشئة التي تتمدد في محيطها الإقليمي تحت راية دينية، أو للإسلام السياسي القديم في صيغته الدولية. وبصرف النظر عن مدى “التمثل” العثماني أو حقيقة “تمثيله” للإسلام بالمقاييس المدرسية، قوبلت التوسعات التركية في أوروبا “الوسيطة” بوصفها غزوًا إسلاميًا يستهدف الأراضي والمصالح المسيحية، وجرت مقاومته تحت رايات صليبية “مقدسة” توجهها الكنيسة الكاثوليكية.
تقليديًا، ظل الوعي الأوروبي الدارج يخلط بين مفردتي “مسلم” و”تركي” ويستخدمهما بشكل تبادلي للتعبير عن معنى واحد. وفي جانب كبير منها، ترجع الصورة النمطية السالبة للإسلام في هذا الوعي إلى ثقافته الموروثة من تاريخ الحروب التركية- الأوروبية، التي لم تنقطع طوال ستة قرون (من القرن الرابع عشر حتى أوائل القرن العشرين). وعلى الرغم من تداخل الأغراض والمصالح الاقتصادية، والتطورات الثقافية الواسعة، التي أدت إلى تراجع “المعنى الديني”، وحولت الصراع التركي- الأوروبي في نهاية المطاف إلى مشكل سياسي مباشر، فإن هذا المعنى ظل كامنًا داخل الذاكرة القومية للطرفين كحاجز “ثقافي” لا واعٍ.
بالنسبة لأوروبا، لا يزال هذا الحاجز الثقافي هو السبب الأول (الحقيقي) الذي يحول بين تركيا والانضمام الكامل للاتحاد الأوروبي، قبل النظر في جدية الأسباب المعلنة التي تدور حول “المعايير” الأوروبية للأداء الاقتصادي وتطبيق الديمقراطية والحقوق المدنية، والتي تبدو تعجيزية في بعض الأحيان.
يطفو هذا الحاجز في فلتات لسان أوروبية تصدر من وقت لآخر عن الكنيسة أو بعض التيارات اليمينية، ويجري التلميح به الآن في ثنايا الموقف الأوروبي الجديد الذي تتبناه فرنسا لمقاومة المد الأصولي الإسلامي المتفاقم في أوروبا برعاية تركية.
وعلى الجانب المقابل، أخذ الرفض الأوروبي المتكرر يشكل “عقدة” جديدة للوعي القومي التركي، الذي صار يتغذى على مثيرات “إسلامية” متصاعدة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة سنة 2003. يلوح أردوغان اليوم بعثمانية جديدة، يداعب بها خيال الذاكرة القومية التركية الجريحة من تمنع أوروبا، ويلعب بها في الوقت نفسه على مشاعر الإسلام السياسي الذي يسعى “لقيادته واحتوائه” في المنطقة. ومن جديد تبدو تركيا وكأنها تعاود التحرش “إسلاميًا” بأوروبا بأشكال سياسية مختلفة:
أعلن أردوغان بنبرة تهديدية، أن تركيا لن تفرض قيودًا على انتقال اللاجئين عبر أراضيها إلى الاتحاد الأوروبي. وفيما نصب نفسه مدافعًا عن المهاجرين المسلمين عمومًا، حرض الجاليات التركية في أوروبا على البقاء والتكاثر: “أنجبوا خمسة أطفال وليس ثلاثة، أنتم مستقبل أوروبا”. ودعا هذه الجاليات إلى الحفاظ على هويتها وعدم الاندماج في المجتمع الأوروبي. وفي خطاب ألقاه في كولونيا (سنة 2018) أمام جمهور من المسلمين الألمان ذوي الأصولي التركية، ردَّ على دعوة المستشارة ميركل لدمج الأتراك بشكل أكبر في الثقافة الألمانية، بأن “الاندماج والاستيعاب جريمة ضد الإنسانية”. (لغة استفزازية بأي معيار سياسي. ماذا تعني المواطنة -وهي مفهوم سياسي مجتمعي معًا- بدون درجة من الاندماج الثقافي؟ وإلى أي مدى تقبل فكرة العلمانية وفكرة الدولة ذاتها بوجود “كيان موازٍ” للسلطة؟ تبدو المسـألة وكأنها دعوة إلى “الاستيطان” تسيء فهم واستخدام العلمانية).
-2-
على وقع النبرة الإسلامية المتصاعدة لحزب العدالة والتنمية، يطفو نوع من التوتر التركي- الأوروبي الجديد. وفيما عاد الهجوم على أوروبا إلى لغة الخطاب السياسي في تركيا، صار هذا الخطاب يحمل صراحة مفردات “دينية” قديمة (من نوع صليبي/ فاتيكان/ مسلم). وفي حشد انتخابي واسع في إستنبول (مارس 2017) قال أردوغان حرفيًا: “إن اجتماع قادة دول الاتحاد الأوروبي في الفاتيكان بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس الاتحاد أظهر تحالفهم الصليبي.. لماذا اجتمعتم في الفاتيكان؟ ومنذ متى كان الفاتيكان عضوًا في الاتحاد الأوروبي.. إن الاتحاد الأوروبي يرفض عضوية تركيا لأنها دولة مسلمة”.
بات واضحًا بالنسبة للتوجه الأوروبي الجديد الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي ماكرون “أن المشروع التركي كما هو عليه الآن مشروع سياسي ديني وأنه يمثل جزءًا من صميم المشكل الذي تواجهه أوروبا اليوم مع الإسلام السياسي، ويتزايد الشعور بأن حزب العدالة والتنمية يحاول ركوب الموجة الأصولية القائمة في أوروبا ويساهم في تفاقمها، وذلك من خلال السيطرة على الهياكل المدنية التي يهيمن عليها الإسلاميون، ويسعى بوجه خاص لتوظيف الجاليات التركية الكبيرة في (ألمانيا وفرنسا)، وبناء جسور دعم اقتصادية واجتماعية مع الأحزاب الإسلامية الأوروبية (التي يؤسسها أتراك غالبًا).
بحسب التفسير السياسي السائد، يهدف أردوغان إلى تحقيق مكاسب انتخابية مباشرة داخل كتلة تصويتية واسعة يسهل شحنها أيديولوجيًا في مناخ المد الأصولي الراهن، مع الترويج، وسط الأقلية المسلمة لفكرة الظلم والتهميش الاقتصادي والاجتماعي (ينتشر في أوروبا حوالي “8” ملايين تركي، منهم “2.5” مليون لهم حق التصويت في الانتخابات التركية. وقد حصل الحزب بالفعل داخل هذه الكتلة على نسبة تصويت أعلى مما حصل عيله داخليًا في الانتخابات الأخيرة). ويهدف في الوقت نفسه إلى خلق آلية ضغط جديدة لخدمة المصالح التركية، في ظل التباعد الواضح بين الموقف الأوروبي وسياسات تركيا الراهنة في شرق المتوسط (قبرص/ اليونان)، وإلى حد ما في المنطقة العربية.
-3-
تبقى الصورة مركبة أو ملتبسة بعض الشيء: لقد وصل حزب أردوغان إلى السلطة بتنسيق أمريكي وموافقة أوروبية، وذلك في إطار الاستراتيجية الغربية التقليدية التي تقضي بالتحالف مع قوة إسلامية “معتدلة” في المنطقة لمقاومة المد اليساري، ثم لاحقًا لاحتواء التطرف الإسلامي الأصولي ذاته. منذ البداية طرح حزب العدالة والتنمية إسلامًا سياسيًا “مخففًا” حتى بالقياس إلى بقية التيارات المعتدلة، وقدم سياسات مقبولة غربيًا على المستويين الداخلي والخارجي. لكنه -بعد الاستقرار في الحكم وتحقيق نجاحات اقتصادية وسياسية ملموسة، وعلى الرغم من بقائه عمليًا داخل الإطار الغربي المقبول- صار ينزع تدريجيًا إلى استخدام خطاب “إسلامي” يبدو زاعقًا في بعض الأحيان، الأمر الذي ظهر بشكل واضح بعد مرحلة “الربيع العربي” ومن خلال دعمه الصريح لجماعة الإخوان.
لكن ذلك لا يعني أن حزب العدالة والتنمية يتحول إلى حزب ديني أصولي على الطراز العربي (السلفي) المعروف، أو أنه يخرج عن استراتيجية التحالف المحسوب مع الغرب (وهي استراتيجية مرنة تسمح بهامش واسع للحركة). في جميع الأحوال يلزم قراءة السلوك التركي الراهن قراءة سياسية لا أيديولوجية: تطلعاته الخارجية في المنطقة، والبحث عن دور في أوروبا، تعبر عن طموحات ناتجة عن فائض القوة لنظام “قومي” تجاوز مرحلة إثبات الذات. أما موقفه الداعم للإخوان -والذي يتم بالتناغم مع الاستراتيجية الأمريكية- فيجري في سياق السعي لاحتواء الإسلام السياسي التقليدي والحلول محله في عموم المنطقة.
يتبع