-1-
بالنسبة للبعض، لا تبدو اللحظة مناسبة للفلسفة التي لا تشتغل إلا على الكليّ، والتي عليها لذلك، وحسب عبارة هيجل ” ألا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي ويتم بناؤه”. المعطيات المتاحة في اللحظة الراهنة ليست كافية لفهم “الحدث” الذي ينتصب فجائيًا ونهائيًا معًا، ويجري التعاطي معه، أو يراد لنا أن يجري التعاطي معه، وكأننا نفهم ما الذي حدث، لا أقصد بالفهم هنا شيئًا أكثر من الإدراك المباشر للحدث على مستوى الواقع، أعني تحصيل مفرداته كوقائع فجة أو عارية قبل مقاربتها بأي قراءة تفسيرية. والحال كذلك. لا يكون بوسع الفلسفة أن تعمل أدواتها التجريبية لتصدر أحكامها العامة، أو تشبع ولعها المعتاد بالتقريرات الباذخة عن تحولات كبرى في مسار التاريخ. فلكي يتحقق شرط الكلي لا يمكن الحديث عن ذلك إلا في صيغة الماضي، حيث لا يكون الفكر جزءًا منه.
في حمى البداية المرعبة، تساءل البعض عن جدوى الفلسفة للعالم وهو على مشارف الفناء: أليس عليها أن تفسح المجال لكلمة العلم أو حتى لسلطة الدولة؟ وإلى أي مدى يمكن الصبر على “حماقة” التنظير في مناخ “ذعر” كوني لا تحركه إلا غريزة البقاء؟ هل يُعد التنظير في هذا المناخ رطانًا لفظيًا لا طائل من ورائه فحسب، أم تطفلًا استفزازيًا فادحًا لا يتحمله السياق؟
لكن إذا كان العالم -يتساءل البعض الآخر- يقارف لحظة الموت فعلًا، فما جدوى أي شيء بما في ذلك العلم والدولة؟ وإذا كان العالم لا يزال قائمًا كما ندرك بالوقائع المجردة، فما الذي سيوقف الإنسان عن ممارسة التفكير؟ يبدو أن المشكل ليس في مبدأ الفلسفة، بل في شروط التفلسف ومناخاته الظرفية. تظهر الفلسفة في أسوأ حالاتها عندما تستدرج من قبل الميديا للتعليق على حدث مفتوح، فإما أن تقمع طبيعتها الكلية لحساب التفاصيل، أو تضع هذه التفاصيل في إطار كلي لم يكتمل بعد.
وفي جميع الأحوال، إذا كان الفكر لا يمتنع، فإن أفضل ما يمكن له فعله في اللحظة الراهنة هو أن يتوقف مليًا عند سؤال الواقع. كي يساعدنا على فهمه والتعاطي معه، حتى لو كان ذلك يعني –مؤقتًا- التأخر بخطوة وراء العلم وربما وراء السياسة.
-2-
طرحت مقاربات نظرية مختلفة حول الأزمة، لكنها تكاد تتفق على مدخل مشترك هو اعتبارها حدثًا فارقًا يمهد لتحولات كلية واسعة، وسببًا كافيًا لإعادة النظر في النظام الاجتماعي (السياسي/ الاقتصادي/ الثقافي/ الأخلاقي) السائد الذي يفتقر إلى العدالة والكفاءة. ومن زاوية أيديولوجية جاهزة مثلت الأزمة فرصة مواتية للانقلاب جذريًا على هذا النظام الذي تهيمن عليه الرأسمالية.
في هذا السياق، جرى الحديث -بتعجل- عن تطورات نوعية “ناجزة” أو جارية على مستوى المفاهيم والقيم؛ كمعنى “الإنسان” الذي يتحول مع اكتشاف الفيروسات إلى كائن “بيولوجي” مكشوف، أدنى من معناه الكلاسيكي الموروث كذات واعية (عاقلة وأخلاقية)، ومعنى “الوجود” الذي صار يكشف بوضوح عن طبيعته “الحيوية” غير المرئية، التي تجعل من الإنسان مجرد شيء جزئي مستباح للطبيعة. وجرى الحديث -بتعجل أيضًا- عن انزياح نسبي في موقع الدين، الذي بدأ يفقد مساحة إضافية من نفوذه لحساب العلم والدولة، وعن تحول أخلاقي هيكلي مناقض لقيم الحب والتواصل الإنساني. مثل هذه “التقريرات” تبدو سابقة لأوانها بمقتضى الشرط الإجرائي (الكلي)، وقبل النظر فيها من حيث الموضوع، الذي يحتاج بالطبع لمناقشة استقصائية موسعة.
لكن الحوار النظري حول الأزمة ظل يشتغل، كمحور رئيس، على المعنى السياسي الاقتصادي. وفيه تبرز بوجه خاص رؤية “اليسار ما بعد الحداثي” بوصفه الطرف الذي بدأ الحوار ولا يزال يوجهه، من منظوره الأيديولوجي المركب الذي يضع الرأسمالية، والليبرالية، والحداثة في سلة نقدية واحدة. في هذه الرؤية تستدعى تحليلات ماركس الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي، إلى جانب أدبيات فوكو، التي صارت كلاسيكية أيضًا، في البيولوجيا السياسية، وبالنتيجة تقع مسؤولية الأزمة بتداعياتها الكارثية على عاتق النظام الرأسمالي الليبرالي، إما عن طريق الخطأ أو بالتدبير المقصود. هذه النقطة الأخيرة –التي لم تحسم حتى الآن- تشرح “جزئيًا” ما عنيته بنقص المعطيات اللازمة لفهم الحدث، ولماذا يتعين على الفكر في هذه المرحلة أن يتريث عند سؤال الواقع، ليكشف لنا كيف حدث ما حدث.
-3-
تحمل الأزمة بالطبع ملامح ماركسية قاتمة، لكنها تبدو من زاوية بعد حداثية، كما لو كانت مفصلة على مقاس فوكو. وهذا ما عبرت عنه بالفعل المقاربات النظرية المبكرة، التي افتتحت النقاش حول الأزمة بهجوم مباشر على الرأسمالية وأنظمة الحكم الديموقراطية” أشير هنا بوجه خاص إلى المقاربات الثلاث المثيرة للجدل التي قدمها سلافوي جيجك، وجورجيو أغامبين (في أوروبا) وديفيد هارفي (في أمريكا).
جرى استخدام لغة هجائية صريحة -تظهر بوضوح لدى جيجك- موجهة إلى أداء الأنظمة الليبرالية الحاكمة في الغرب، من جهة الفشل في توقع الأزمة، وفي التعاطي معها واحتواء نتائجها، فضلًا عن توظيفها من قبل هذه الأنظمة لتحقيق “أغراض” شمولية كامنة في نزوعات السلطة كما قننتها الحداثة -وهو ما ركز عليه أغامبين- الذي يستعيد شواغل فوكو حول البيلوجيا السياسية واشتباكاتها مع الذات وعنف السلطة. لكن الاتهام الأصلي يظل موجهًا في العمق إلى “طبيعة” النظام الرأسمالي التي تؤدي بذاتها إلى إنتاج أزمات دورية غير قابلة للحصر -وهو ما يظهر في مقاربة هارفي- الذي يشرح أزمة الفيروس بالاعتماد مباشرة على نصوص ماركس.
بحسب جيجك توجه الأزمة “ضربة للرأسمالية قد تعيد اختراع الشيوعية” فهي “تشير بوضوح إلى الحاجة الملحة لإعادة تنظيم الاقتصاد العالمي بطريقة لا يبقى فيها تحت رحمة آليات السوق، نحن بالطبع لسنا بصدد الحديث عن شيوعية على الطراز القديم، بل عن شكل من أشكال التنظيم العالمي الذي يستطيع التحكم بالاقتصاد وإدارته، وبإمكانه كذلك تقييد سيادة الدول القومية في حال استلزم الأمر. كانت الدول قادرة على القيام بذلك على خلفية الحرب في الماضي. نحن اليوم كلنا نقترب فعليًا من حالة حرب طبية”.
يلفت في نص جيجك استحضاره الجريء لمصطلح الشيوعية بإيقاعه الشمولي. لكنه -واعيًا بالحمولات السلبية للمصطلح- يستدرك باقتراح صيغة جديدة من الشيوعية تستطيع التحكم بالاقتصاد وإدارته، دون أن يشرح تفاصيل الصيغة الجديدة التي يفترض فيها تلافي عيوب الشمولية القديمة.
لا يخوض جيجك في علاقة السببية بين الرأسمالية والأزمة، كيف يؤدي النظام الرأسمالي بالضرورة إلى إنتاج أزمة وباء بيولوجي؟ أو كيف أدى فعليًا إلى إنتاجها؟ وهو السؤال الذي حاول هارفي معالجته استنادًا إلى تحليل ماركس التقليدي لآليات عمل رأس المال ونزوعه الذاتي للتطور. لكن محاولة هارفي لا تبدو كافية لإثبات هذه العلاقة التي تطرح في الخطاب اليساري كمصادرة تسليمية واضحة بذاتها، فمسؤولية الرأسمالية “مفترضة”، على الأقل من جهة كونها النظام الذي يهيمن على العالم.
يخلط الخطاب اليساري عادة بين آليات الرأسمالية بما هي “نظام تاريخي” مقنن نظريًا، وآليات الاجتماع بما هي “نظام طبيعي” يعكس إكراهات الأيكولوجيا والبيولوجيا والسيكولوجيا الإنسانية. ونتيجة لذلك تصبح الرأسمالية أحيانًا مسؤولة عن فعل الطبيعة. الأمر الذي يعيد فتح النقاش حول المشكل النظري الكامن في الطرح الماركسي، وفي الأيديولوجيا بوجه عام مشكل التشابك بين الفكر والواقع.
تحبس الأيديولوجيا خطاب اليسار في إطار محدود هو إطار المواجهة مع خصم “سياسي” وهو موقف تدفع الأزمة إلى تجاوزه صوب مواجهة أوسع وأكثر تعقيدًا مع تراث الطبيعة الإنسانية.
في هذا السياق، وقياسًا إلى جيجك وهارفي، تستحق مقاربة جورجيو أغامبين مساحة أوسع للنقاش.
يتبع
عبدالجواد يسن