-1-
الجدل النظري الدائر حول الأزمة بدأ بمقاربة المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين، التي نشرها في فبراير (شباط) الماضي، وأثارت في حينها جملة من ردود الفعل الغاضبة. وعلى الرغم من التحول النسبي في إيقاع الجدل بعد تجاوز مرحلة الذعر المبكر، لا تزال لهذه المقاربة أصداؤها التي تشيع جوًا من التوتر الفكري، ربما لأنها تلامس منطقة حساسة وتستبقي النقاش قريبًا من أسئلة “الواقع” التي لم تحسم بعد، والتي يلزم، لذلك، أن تمثل صلب المسألة.
لا يتعلق الأمر بتفاصيل الطرح الموضوعي الذي يدور حول تداعيات الأزمة فحسب، بل بالفكرة الخلفية المضمرة في هذا الطرح، والتي تشير باختصار إلى أن الصورة ليست بالضبط ما تبدو عليه. وهي الفكرة التي صارت تتوافر بمرور الوقت على شواهد إضافية “صادرة عن دوائر غير مؤدلجة تنتمي إلى المجتمع العلمي” ولا يجوز إغفالها تحت هاجس الترويج لنظرية المؤامرة.
منذ البداية، اعتبر أغامبين أن حالة الحظر التي تفرضها الحكومات على الشعوب للحد من انتشار العدوى مبالغ فيها، ولا مبرر لها إلا توسيع سلطاتها الاستثنائية التي تحركها نوازع القمع الكامنة أصلًا في فكرة السيادة. جوهر المشكل، كما يجب أن يقرأ الآن، لا يكمن في خطورة المرض بل في خطورة العواقب السياسية والأخلاقية لطريقة التعاطي معه: “أول شيء تظهره موجة الذعر التي شلت البلد، هو أن مجتمعنا لم يعد يؤمن بشيء سوى الحياة العارية. بات واضحًا أن الإيطاليين على استعداد –عمليًا- للتضحية بكل شيء -ظروف المعيشة الطبيعية، والعلاقات الاجتماعية، والعمل، وحتى الصداقات، والمعتقدات الدينية والسياسية- لتجنب خطر الإصابة بالمرض. الحياة العارية وخطر خسارتها، ليست أمرًا يوحد الناس بل يعميهم ويفصل بينهم. كما في الطاعون الذي وصفه مانزوني، لا ينظر إلى الآخرين إلا كملوثين محتملين يجب تحاشيهم بأي ثمن، أو على الأقل الحفاظ على مسافة متر منهم. الموتى –موتانا- ليس لهم حق الجنازة، ومن غير الواضح ما الذي سيحدث لجثامين أحبائنا. لقد تم محو إخواننا البشر، ومن الغريب بقاء الكنائس صامتة حول هذه النقطة. ماذا سيكون واقع العلاقات الإنسانية في بلد يتم تعويده، لأمد لا يعرفه أحد، على العيش بهذه الطريقة؟ أي مجتمع ذاك الذي لا قيمة لديه سوى قيمة البقاء؟”.
الأمر الثاني -يواصل أغامبين- الذي “يظهره الوباء بوضوح، وهو ليس أقل إزعاجًا من الأول، هو حقيقة تحول حالة “الاستثناء” وهي حالة بدأت الحكومات بتعويدنا عليها منذ سنين، إلى حالة طبيعية بالفعل. لقد سبق وكان هناك أوبئة أكثر خطورة، ولكن لم يفكر أحد في إعلان حالة طوارئ من الحاصلة الآن، حالة تمنعنا حتى من الحركة. لقد أصبح الناس على درجة عالية من التعود على العيش في ظروف أزمات وطوارئ دائمة، بحيث لا يبدو أنهم يلاحظون أن حياتهم قد تم تفصيلها إلى حالة بيولوجية محضة. حياة لم تفقد كل بعد اجتماعي وسياسي فحسب، بل وحتى البعد التواصلي العاطفي. إن مجتمعًا يعيش في حالة طوارئ مستمرة لا يمكنه أن يكون مجتمعًا حرًا. نحن نعيش في مجتمع ضحى بالحرية لصالح ما يسمى “الدواعي الأمنية”، وبالنتيجة حكم على نفسه بالعيش في حالة دائمة من الخوف وعدم الأمان.
لا ينكر أغامبين خطورة المرض، لكنه -مع ذلك- يستنكر أن يكون ثمن تجنبه هو أن نتخلى عن نمط الحياة الاجتماعية (السياسية/ الأخلاقية) لصالح نمط الحياة العارية (البيولوجية / العضوية)، إن ذلك يعني تثبيت حالة الاستثناء (الطوارئ) وتحويلها إلى وضعية دائمة مقبولة سياسيًا، وتكريس حالة التباعد الإنساني والضمور العاطفي التي يعاني منها الإنسان المعاصر بالفعل، نتيجة لتداعيات الحداثة (نسق التفكير المادي الآلوي/ نمط الإنتاج الرأسمالي). بالنسبة إلى أغامبين ثمة مخاطر فادحة تهدد الحرية والتواصل الإنساني، وهي أشد فداحة من تفشي الفيروس.
-2-
ينحدر أغامبين من مدرسة فوكو، التي انتقلت باليسار إلى مشاغل بعد حداثية أبعد من فكرة الصراع الطبقي. في واقع الأمر انتقلت به إلى مشاغل فوكو الذاتية التي تدول حول السلطة والحرية والجسد. بالنسبة إلى فوكو مبحث الفلسفة الرئيس هو السلطة في علاقتها بالذات. تنزع السلطة “الحداثية” إلى تقييد حرية الذات من خلال المراقبة. لقد وفرت الحداثة -وهذا أحد أوجه النقد الرئيسة الموجهة إليها- آليات واستراتيجيات جديدة للتحكم في الذات، وأضفت عليها شرعية قانونية وعقلانية.
في هذا السياق نحت فوكو مصطلح “البيولوجيا السياسية” ليشير إلى صيغة جديدة للتحكم (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) في الذات من خلال الجسد بدءًا من القرن الثامن عشر. قبل هذا القرن وبامتداد العصر الكلاسيكي ظلت الممارسة الرئيسة لسلطة التحكم تكمن في “حق الموت” الذي يملكه الملك. ومع الرأسمالية جرى التحول تدريجيًا نحو تقنية سياسية تهدف إلى تعزيز الحياة وتنمية مردوديتها. بحسب فوكو يؤدي الاهتمام “بالحياة” إلى تأسيس “بيولوجيا سياسية للسكان” تقوم على الجسم كنوع، وتسعى لتنظيم العمليات الحيوية التي تؤثر على السكان (المجتمع هنا كتلة سكان لا عدة طبقات) مثل المواليد، والوفيات، مستوى الصحة، فترة الحياة. لقد زاد الاهتمام بالجسد لضمان صحته، ولكن أيضًا لضمان طاعته وضمان إنتاجيته، في هذا النموذج حيث تُجرى ممارسات القمع في إطار من المشروعية القانونية، يكون هدف السلطة ليس مجرد الاستيلاء على الحياة من أجل قمعها، بل العمل على تعزيزها لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الكتلة السكانية الخاضعة لها.
بحسب فوكو، وضعت “السلطة البيولوجية” الحياة في قلب النظام السياسي، حيث لم تعد السيطرة على الأفراد تتم من خلال الوعي أو الأيديولوجيا، بل من خلال التحكم في الجسد. ومن هذه الزاوية يجعل فوكو من البيولوجيا السياسية ركنًا أساسيًا من أركان الحداثة الغربية، ويربط بين ظهورها وتأسيس المجتمع الرأسمالي الذي يسعى إلى إنتاج وتنمية القوى البشرية، بدلًا من إخضاعها أو تدميرها وفق النموذج القديم للسيادة.
التحول في نموذج السيادة يعني التحول في آليات السلطة التأديبية، فالهدف من السياسة التشريحية” (anatomic-politique) كما يشرح فوكو في كتابه الشهير “المراقبة والعقاب” هو التركيز على تكييف الأفراد في شكل عمال منضبطين، حيث تقوم السلطة بخلق هذه القوى والعمل على استدامتها، وتشكيل ذواتها، من خلال برامج الرعاية الاجتماعية التي ترعاها الدولة، والتركيز على المنظمات الخيرية، وأيضًا من خلال ابتكار خطابات تأديبية على مجموعة واسعة من الذوات خصوصًا الجنسانية. وهو الخطاب الذي يمثل أهمية خاصة بالنسبة إلى فوكو (تظهر خصوصًا في كتابة “تاريخ الجنسانية”).
-3-
يتبنى أغامبين مفهوم البيولوجيا السياسية في الإطار العام الذي طرحه فوكو، لكنه خلافًا للأخير، لا يعتبر هذا المفهوم من صنع الحداثة، بل من بنية السلطة ومنطق السيادة الذي هو منطق الاستيلاء على الحياة. لقد أدت الحداثة إلى توسيع نطاق السلطة الحيوية الموجودة أصلًا في تراث الغرب السياسي، وإلى تكريس نتائجها السلبية على حساب حرية الذات. وهي المسألة التي يناقشها أغامبين في كتابيه الشهيرين: “حالة الاستثناء” و “سلطة السيادة والحياة العارية”.
يشتغل أغامبين على نموذج السيادة في الدولة الحديثة من خلال مفهومين مرتبطين: مفهوم “الاستثناء”، ومفهوم “الحياة العارية”. في هذا النموذج تتحول حالة الطوارئ من خلال القانون إلى وضعية دائمة ومبررة عقلانيًا. السلطة البيولوجية هنا هي النموذج المثالي لشرح الطريقة التي تمارسها الدولة الحديثة من الاستيلاء على الحياة العارية (البيولوجيا الخالصة) للإنسان. وهي النموذج المثالي لشرح الطبيعة الشمولية للسلطة، التي تختبئ خلف القانون، في الديموقراطيات الغربية المعاصرة. القانون يجعل الاستثناء دائمًا، والديمومة تجعله قانونيًا. وهذه المصادرة الأخيرة هي الصرخة التي يحاول أغامبين أن يطلقها في مقاربته المثيرة حول الفيروس: إجراءات الحظر الممتدة تكرس القبول بمجرد الحياة العارية وتحول الاستثناء إلى حالة طبيعية دائمة.
تبدو أزمة الفيروس مناسبة تمامًا لنظرية أغامبين؛ فثمة بالفعل موقف بيولوجي صريح، يصنع حالة خطر/ منع استثنائية توحي بالتمدد. وهي بحسب أغامبين حالة مصطنعة، أو على الأقل، جرى انتهازها من قبل الحكومات لتوسيع الاستثناء وتحويله إلى وضعية دائمة. أثار هذا الطرح حوارًا نقديًا موسعًا حول توافر الشروط الحقيقة للاستثناء، وما إذا كان يتحول بالفعل إلى وضعية دائمة. وفي حمى الذعر المبكرة اعتبره البعض طرحًا استفزازيًا متعجلًا، ودليلًا على حماقة الفلسفة، كما صرح المفكر الإيطالي سيرجي بينفينتو. واعتبره البعض محاولة من أغامبين لترويج نظريته التي لا تتسع لاحتواء الموقف كما يشير المفكر الفرنسي جان لوك نانسي الذي علق بقوله: “يتوجب علينا الحذر لتجنب رمي الهدف الخاطئ. فنحن أمام نوع من الاستثناء الفيروسي- البيولوجي والعلمي/ الحاسوبي والثقافي- يسمى بالجائحة، والحكومات هنا ليست سوى آلات تنفيذ مقيتة، وتوجيه سهام النقد إليها يبدو لي نوعًا من المناورة المفضية إلى التشتيت، لا نوعًا من التفكير والتنظير السياسي”.
لكن هذا الحوار يوفر فرصة للنقاش من حيث المبدأ حول مفهوم البيولوجيا السياسية. بالنسبة لي، نحن حيال فكرة غامضة، فضلًا عن كونها جزئية وفقيرة موضوعيًا، أعني لا تحمل إضافة من حيث المضمون، فالبيولوجيا هي الطبيعة الإنسانية التي لم تكن يومًا خارج النظام السياسي. يتساءل المرء متى كانت السياسة خارج الحياة، ومتى كانت الحياة خارج السياسة؟ لقد لفت هذا الغموض نظر النقاد، ففي كتاب “الإمبراطورية” نقرأ قول هارت ونيجري: “إذا سألنا فوكو ما “الحياة السياسية” (bios) المخالفة “للحياة البيولوجية” (zoe) فإن رده سيكون فائق الوصف أو لا شيء على الإطلاق”.
يمكن بالطبع فهم المصطلح كآلية “إجرائية” للتحليل السياسي، لكني لا أستطيع فهم البيولوجيا السياسية ذاتها كتحول جوهري في بنية السلطة. لقد استخدمها فوكو بالفعل “كآلية” لشرح التطور في نموذج السلطة الناتج عن تحولات الحداثة الكلية، لكنه يوحي في صياغاته النقدية بأنها تمثل كنه التطور. في واقع الأمر لا يشير المصطلح إلى تغير جوهري في موضوع السلطة، بل إلى تحول إجرائي يتعلق بتفاصيل الإدارة الحكومية، التي تعكس -كتحصيل حاصل- تطور المستوى العلمي والتقني والطبي، والإحصائي والإداري، مع تزايد عدد السكان بارتفاع نسبة المواليد وانخفاض نسبة الوفيات، والتحسن العام في معدل الصحة.
مع ذلك تبقى للمصطلح أهميته الإجرائية في سياق الأزمة الراهنة، لطرح عدد من الأسئلة الضرورية: هل يتجه العالم إلى الدخول في مرحلة الطبيب الذي بدأ يكتسب تدريجيًا سلطة القسيس كما طرح فوكو؟ هل نخضع كما يلمح أغامبين “لدولة الطب” أم “لطب الدولة”؟ أم لسلطة فوقية غامضة توجه الطب والدولة؟ وقبل ذلك كله كيف سيتعاطى العالم من الآن فصاعدًا مع المخاطر الفادحة التي تنطوي عليها البيولوجيا “العلمية” وليس “السياسية”؟