-1-
يمكن أن نطرح مشكل التجديد داخل السياق الإسلامي الراهن على النحو الآتي: يتطور النظام الاجتماعي بوتيرة عالية، تكفي لخلق حالة توتر وتشكيل ضغط نسبي على النظام الديني، لكنها لا تكفي لفرض تغيير جذري عليه. ولذلك يظل النظام الاجتماعي بحاجة إلى “إقرار” يصدر عن النظام الديني بمشروعية التحديث الاجتماعي الذي وقع بالفعل، وتظهر حاجة النظام الديني لإجراء تغيير “جزئي” في مدونته التكليفية بغرض إعادة التكيف مع الواقع. التجديد –إذن- عملية “نظرية”، يجريها النظام الديني، تحت الضغط، في مدونته الموروثة، ومن خلال آلياته الداخلية ذات الطابع التأويلي.
هذا الطرح يثير سؤالين إشكاليين:
الأول: يتعلق بمن يمثل النظام الديني في هذه العملية؛ من له صلاحية اقتراح ومناقشة واعتماد التغيير بحيث يحظى بشرعية الانضمام إلى متن المدونة، في ظل غياب مؤسسة رسمية جامعة؟
الثاني: يتعلق بمضمون العملية، أعني حدود التغيير “المسموح” من جانب النظام الديني، في ظل المفهوم الدوجمائي السائد، الذي يثَبِّت الدين في جملته كمعطى نهائي مطلق غير قابل للتغير، ويسحب ذلك على مدونة الفقه الاجتهادي التاريخية التي أنتجها عصر التدوين. ويتعلق –في الوقت نفسه- بحدود التغيير “المطلوب” من جانب النظام الاجتماعي، والتي تتجاوز عادة حدود المسموح الديني، حيث لا يطرح قانون التطور نفسه في مواجهة الفقه الاجتهادي التاريخي فحسب، بل أيضًا في مواجهة “النصوص” التأسيسية، التي تشتمل إلى جوار المطلق (الإيماني الأخلاقي) على مادة “تشريعية” تفصيلية، هي بطبيعتها اجتماعية، أي نسبية قابلة للتغير.
-2-
لم يسند النص الإسلامي -بحسب التصور السني- صلاحيات “إنشائية” بعد النبي إلى أي فرد أو مؤسسة، ولم يأخذ بنظام الكهنوت الرسمي المعتمد في اليهودية والمسيحية، والذي بلغ ذروته في نموذج الكنيسة الكاثوليكية. ومع ذلك فهو يلزم الجميع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما صار يفهم كنوع من “التمثيل” على الشيوع للديانة، وسهل عملية توليد الفرق والجماعات الأصولية.
لكن مرحلة التدوين، وهي مرحلة التأسيس الثانية في الإسلام، أسفرت عن تنصيب الدولة لنفسها -بمساعدة الفقه- كحارسة للدين، متقمصة بذلك دور “المؤسسة الدينية”، فيما تقمص الفقه -بمساعدة الدولة- الجانب الآخر من دور المؤسسة كشارح للشريعة. ومع التراجع التدريجي لسلطة الدولة (الحارسة) ظل الفقه يحافظ على دوره كشارح للشريعة، وتحول إلى مؤسسة ذات سلطة “معنوية” وارثة لدور حراسة الدين. وهي السلطة التي سيجري تأميمها لاحقًا من قبل الدولة (الوطنية) الناشئة، التي حولت “الفقهاء” إلى هيئات إدارية بجهازها الحكومي، وعادت -في إطار عصري مخفف- إلى تقمص دور الدولة الحارسة للدين.
وبهذه الصفة، يشار أحيانًا إلى هذه الهيئات باسم “المؤسسة الدينية” وهي مجرد تسمية مجازية، لأنها -خلافًا للكنيسة- لم تنسب إلى نفسها صلاحيات إنشائية داخل الديانة خصوصًا من جهة اللاهوت وعملية إنتاج “النص”، واقتصر نشاطها على الوظائف الثانوية للمؤسسة التي تدور بين الإفتاء والتعليم الديني إضافة إلى خدمة الشعائر. لكنها بهذه الصفة أيضًا، ظلت تقدم نفسها، وينظر إليها على نطاق واسع كممثل حصري للنظام الديني، وصارت من ثم المرشح الأول للقيام نيابة عنه بالدور التجديدي المطلوب.
ومع ذلك، فهي لا تبدو متحمسة للقيام بهذا الدور. وعلى الرغم من توافقها المعلن مع التوجه “الحداثي” المحسوب للدولة (الوطنية)، تمتنع هذه الهيئات عن تقديم طرح تجديدي جدي له طابع كلي، فيما تواصل دورها “الوصائي” حيال أي مقاربة تجديدية تصدر من خارجها، بما في ذلك المقاربات التي يقترحها “الفكر” الإسلامي من خارج الهيئة. يتعلق الأمر هنا بالنزوع السلفي المحافظ، وهو نزوع طبيعي في الوعي الديني عمومًا، يبلغ ذروته لدى الطبقة الدينية المحترفة، التي تكتسب خصائص الكهنوت المنظم، وترتبط بمصالح اقتصادية واجتماعية معقدة.
موقف الدولة يبدو أكثر تعقيدًا، فهي على الرغم من دورها الديني “المعلن” لا تقدم نفسها كممثل مباشر للنظام الديني، وتسلم ضمنًا بهذا التمثيل “للمؤسسة الدينية” التابعة لها. مما يكشف عن مسافة غامضة بينهما، تضيق أو تتسع حسب قوة الدولة، ودرجة استعدادها للتعبير عن “طبيعتها” الحداثية الكامنة. الدولة، المحكومة هنا بحسابات التوازن السياسي، لا تزال تُظهر الكثير من التردد أمام الضغوط الأصولية على الرغم من تقلص زخمها السياسي والثقافي داخل أوساط التدين الشعبي. وهو موقف يكشف عن تراجع نسبي في حيوية الدولة الوطنية، التي كان ظهورها -في حد ذاته- واقعة تجديدية. يتعلق الأمر هنا بالدور التأسيسي للدولة كقوة تجديدية تعمل على تشجيع وتكريس التحديث الاجتماعي على أرض الواقع، أكثر مما يتعلق بتسكين هذا التحديث داخل أطر المدونة الدينية.
في هذا السياق يظهر “الفكر” كطرف ينتمي إلى “الثقافة” الإسلامية بالمعنى الواسع، ويستطيع أن يتحدث باسم النظام الديني، ويقدم -من خارج المؤسسة- مقاربات تجديدية. وعلى الرغم من أنه لا يزال يشتغل تحت سقف المبادئ الكلية للمدونة، فإنه بحكم موقعه الخارجي، يبدو أكثر وعيًا من المؤسسة بحجم التطور الاجتماعي وإشكالياته الجذرية، وأكثر جرأة منها على اقتراح تعديلات هيكلية في آليات التأصيل التأويلية المعتمدة. هذا الطرف الفكري يشير إلى لحظة ثقافية مركبة تجمع بين الوعي بسلطة المدونة وواقعة الحداثة. وهي لحظة ضرورية متكررة بالنسبة للنظام الديني عند كل مرحلة انتقالية.
-3-
مضمون العملية التجديدية يتعين بالجدل بين حجم التغيير “المسموح به” من قبل النظام الديني، وحجم التغيير “المطلوب” من قبل النظام الاجتماعي، أعني حجم الضغط الذي تشكله حركة التطور وحجم المقاومة التي تبديها المقاومة. كقاعدة عامة، تتسع مساحة التغيير المسموح به في بنية المدونة الدينية كلما زادت الضغوط الناجمة عن التطور الاجتماعي، لكن مساحة المسموح به تظل دائمًا أضيق من مطالب التطور، لسبب واضح هو خاصية التجميد الديني:
تاريخيًا، وبانتهاء مرحلتي التأسيس، تتحول الديانة من حالة التشكل العملانية المفتوحة، إلى مدونة “نصية” مغلقة، أي غير قابلة للإضافة أو التعديل، وينحصر التعاطي معها في إطار الشرح والتفسير، وبحد أقصى في إطار “التأويل” لمواجهة التغيرات الجزئية التي يفرضها الواقع. في المراحل المبكرة تكون هذه التغيرات قريبة من السياقات الاجتماعية التي تعالجها المدونة، ولذلك يمكن استيعابها في إطارها من خلال التأويل. لكن استمرار التطور يكشف عن تحولات جذرية يصعب أو يستحيل احتواؤها تأويليًا تحت سقف المدونة.
جوهر المشكل يكمن في هذه الوضعية المجمدة المحصنة بفكرة المطلق: من زاوية النظر الاجتماعية، يؤدي التجميد إلى تعطيل نسبي لحركة التغير الديني، أي تبطيء إيقاع الاستجابة للضغط الاجتماعي، لكنه لا يستطيع إيقاف هذه الحركة نهائيًا على المدى الطويل. ومن وجهة النظر الدينية لا يتعلق الأمر بحالة تجميد مرحلية، بل بطبيعة المطلق الذي يعني عدم قابلية الديني للتغير (أي للتطور أو التعدد)، ومن ثم إنكار مفهوم الضغط الاجتماعي من أصله.
واقعيًا، لم يتعرض النظام الديني عمومًا لتحدٍّ حقيقي من قبل قانون التطور قبل العصور الحديثة وتداعياتها “ما بعد الحداثية” بوجه خاص. وفي السياق الإسلامي أمكن لهذا النظام مواجهة التطورات الجزئية السابقة على الحداثة، والتي ظلت تنتمي إلى خصائص الاجتماع التقليدي، بالاعتماد على آلياته النظرية المورثة في أصول الفقه وعلم الكلام، وهي آليات ذات طابع لغوي تأويلي. وبوجه عام ظل التطور الاجتماعي بطيئًا، وظلت الإشكاليات التي يثيرها من طبيعة تفصيلية تدخل في مجال الفقه، وهو المجال الأثير لدى الثقافة الإسلامية التقليدية، والذي شهد بالفعل مسارًا تطويريًا طويلًا بين لحظة الشافعي التأسيسية في بداية القرن الثالث، ولحظة الشاطبي التجديدية في القرن الثامن. وهو مسار يشهد بثراء نظري واسع على مستوى أصول الفقه، ويلزم قراءته كسلسلة من الاستجابات المتقطعة لتحديات التطور الاجتماعي.
العقل الإسلامي المعاصر، الذي اعتاد على التعاطي مع المشكل كمسألة فقهية، يقبل مبدئيًا بفكرة النقاش حول قابلية الحكم الفقهي للتجدد بتغير الظروف الاجتماعية، أو باختلاف آليات الاجتهاد بين الفقهاء. وقد يزايد في هذا الصدد بالإشارة إلى فقه الشافعي الذي تغير بعد انتقاله من العراق إلى مصر. لكنه يحصر هذه القابلية في الأحكام الاجتهادية التي تصدر عن الفقهاء في حال غياب النص، ويتوجس غريزيًا من مقاربة النصوص على مستوى الدلالة، أو إعادة النقاش حول ثبوتها من حيث المبدأ.
المشكل الآن هو أن ما يطرحه التطور الاجتماعي لا يمثل تحديًا حقيقيًا لآليات الفقه وأصوله المنهجية التقليدية فحسب، بل صار يتجاوز هذا الإطار برمته إلى آفاق ومشاغل ورؤوس موضوعات مختلفة تمامًا، تتعلق بأصول التصور العام، وطريقة التفكير، والوعي أصلًا بمفهوم الدين ذاته وعلاقته بالإنسان والواقع. وتعيد النقاش حول المعضلات النظرية للنظام الديني التاريخي: كيف تتعاطى مقاربات التجديد مع فكرة المطلق التي يعممها على جميع مفرداته، بما ذلك الشق التشريعي الذي هو بطبيعته اجتماعي قابل للتغير؟ بعبارة أخرى: إلى أي مدى يقبل هذا النظام بالتنازل عن مبدأي “الحصرية” و”التأبيد”، أو إلى أي مدى يتقبل مفهومي “التعددية” و”التطور”؟
يتبع