-1-
إلى أي مدى يمكن التعويل على الدولة في إنجاز عملية التجديد الديني؟ وهل يمكن التعويل أصلًا على دور تجديدي “حقيقي” للمؤسسة الفقهية؟ ما طبيعة العلاقة بينهما في اللحظة الإسلامية الراهنة، وكيف يمكن أن تؤثر سلبًا أو إيجابًا على هذه العملية التي تحتاج إلى إقرار فقهي وسلطة سياسية معًا؟ هل تفكر الدولة دينيا من خلال المؤسسة كجزء من جهازها الإداري، أم تعمل بغريزة السلطة على تجاوزها بوصفها قوة تقليدية ذات نفوذ معنوي مزاحم أو مرشح للمزاحمة؟ وهل تفكر المؤسسة سياسيًا من خلال الدولة بوصفها قوة حداثية ذات نفوذ فعلي يصعب تجاوزه، أم لا تزال قادرة، من وقت لآخر، على الوعي بذاتها كقوة “مستقلة” على الرغم من انضوائها العضوي في إطار الدولة؟
من موقع سياسي نقدي، يتحدث البعض عن تماهٍ صريح للمؤسسة مع موقف الدولة (الحداثي) مستدعيًا فكرة “فقيه السلطان” التابع تاريخيًا لإرادة الحاكم، فيما يتحدث البعض عن تماهٍ معاكس للدولة مع موقف المؤسسة (المحافظ) مشيرًا إلى حسابات التوازن السياسي التي صارت تجريها الدولة تحت الضغط الأصولي، والتي تكشف عن بقايا سلفية كامنة تحت سطح القشرة العلمانية. الاستدعاء الأول يعبر عن رؤية الأصولية السياسية المتطرفة، التي تعارض من حيث المبدأ فكرة “الدولة الوطنية”، والإشارة الثانية تعكس وجهة النظر العلمانية المتطرفة، التي تعارض من حيث المبدأ أيضًا فكرة “المؤسسة الدينية”، لكن المسألة في الواقع تبدو أكثر تعقيدًا.
-2-
تاريخيًا، اكتسب الفقه سلطة نظرية واسعة داخل الثقافة الإسلامية، لكن التراث القابض للدولة بامتداد التاريخ “السني” ظل يطغى على سلطة “الفقهاء” كطبقة ذات نفوذ سياسي فاعل. وذلك باستثناءات متقطعة تظهر في فترات ضعف الدولة (كما حدث -مثلًا- في فترة الاضطراب التي انتهت بانتقال السلطة العباسية من الأمين للمأمون)، أو في حالات تكوين دولة جديدة ذات مرجعية دينية (كما حدث -مثلًا- في مرحلة التأسيس المبكرة للدولة السعودية الأولى).
كان على الدولة الوطنية الناشئة حديثًا في القرن التاسع عشر تأميم هذه السلطة النظرية وتوظيفها سياسًا باحتواء الفقهاء داخل جهازها الحكومي. وعند هذه اللحظة اكتسبت الطبقة الفقهية -لأول مرة- في السياق السني، قوامًا مؤسسيًا، أو بالأحرى شبه مؤسسي. لكنه ظل قوامًا داخليًا تابعًا يستمد حضوره من بيروقراطية الدولة، ولم يتحول إلى مؤسسة دينية بشكل كامل أو بالمعنى الضيق المعروف في الكنيسة الكاثوليكية، والذي يشير إلى صلاحيات سلطوية ونظرية مباشرة، مستمدة من نصوص الديانة ومستقلة عن سلطة الدولة.
مع ذلك، ولأسباب مبدئية مفهومة تتعلق بطبيعة تكوينها وبطبيعة تكوين الدولة، ظلت هناك مسافة “موضوعية” فاصلة بينها وبين الدولة، تضيق أو تتسع وفقًا لقوة الدولة وإرادتها في التعبير عن خصائصها ذات الجوهر العلماني.
كان ظهور الدولة الوطنية -في حد ذاته- واقعة تجديدية معاكسة لتوجهات النظام الديني القائم. لكن هذه الدولة لم تكتسب خصائص الدولة العلمانية الخالصة، ولم تتحول قيم الحداثة الشكلية المستعارة من الغرب إلى خصائص بنيوية داخل الثقافة، بسبب غياب أرضية التطور الاقتصادي والاجتماعي “اللازمة” لهذا التحول. وعلى الرغم من تفاقم التوجهات الحداثية على مستوى الشرائح العليا، وتبلور بيروقراطية مدنية واسعة، ظلت الدولة واعية بالخصائص التراثية المحافظة داخل التدين الشعبي وارتباطه الموروث بالثقافة الفقهية. وظلت واعية -من ثم- بأهمية الدور الاحترافي الوسيط الذي يمكن أن تلعبه الطبقة الفقهية، خصوصًا في احتواء حالة التطرف التي فرضتها الأصولية السياسية.
ومع ذلك يدرك الجميع الآن أن مطلب التجديد الديني المفروض بضغط التطور، أوسع من غرض احتواء التطرف الأصولي، الذي يتراجع تدريجيًا على كل حال. وقد ظهرت الحاجة إلى التجديد وجرى التعبير عنها بشكل واضح في غضون القرن التاسع عشر، أي قبل ظهور التيار الأصولي الذي لم يتبلور كحركة سياسية “واسعة” قبل منتصف القرن الماضي.
وطوال هذه الفترة التي شهدت ظهور “قوى” تحديثية سياسية وثقافية متعددة، لم تكشف المؤسسة الفقهية عن توجه تجديدي جدي، ولم تقدم أي مساهمة نظرية بارزة على مستوى الأصول حتى في مجال التطوير الفقهي، بل وضعت نفسها في مواجهة هذه القوى كخصم مباشر يدافع عن فكرة “التراث” الذي يختلط معناه بمعنى الدين على نحو فج، وظلت تحافظ على المسافة الضمنية الفاصلة بينها وبين الدولة.
في هذا السياق يطرح السؤال عن دور “تعطيلي” تلعبه المؤسسة حيال عملية التجديد المطلوبة، ويعاد فتح النقاش حول قابليتها -من حيث المبدأ- للتحمل بدور تجديدي يتجاوز فكرة الوقوف في وجه التطرف والعنف، إلى فكرة التصدي لإشكاليات التحول الكبرى التي يواجهها الإنسان المعاصر في المجتمعات الإسلامية على المستوى الاقتصادي/ الاجتماعي/ العقلي والروحي. وهي إشكاليات “جديدة” لا تمثل تحديًا جوهريًا لمنطوق المدونة وآلياتها التقليدية فحسب، بل صارت تلامس المناطق التأسيسية للنظام الديني ككل ومعضلاته البنيوية، بما في ذلك خصائصه الحصرية الدوجمائية التي تناقض قوانين الاجتماع الطبيعي، خوصًا قانون التعدد وقانون التطور. مما يعني أن مشكل التجديد لم يعد مجرد مشكل فقهي أصولي، أي لم يعد مجرد مشكل “تأويلي” يتعلق بشروط قراءة النص، بل أيضًا مشكل “الواقع” الذي صار يفرض تحديات جادة في مقابل سلطة النص ذاتها.
بهذا المعنى الشامل، تبدو فكرة التجديد مناقضة جوهريًا لطبيعة المؤسسة بتكوينها النظري، ومصالحها العملية المرتبطة بتثبيت الوضع على ما هو عليه. ويبدو سلوكها “التعطيلي” نتيجة نزوعية مفهومة. لكن لديها في المقابل -وبحكم التكوين والمصالح ذاتها- قابلية للانضواء تحت السلطة. ولذلك فإن قدرتها على فرض التعطيل تظل محكومة بحدود القوة الفعلية للدولة، وتظل العملية التجديدية عملية “سياسية” تتوقف في المقام الأول على قوة الدولة، أعني على مدى جديتها في التعبير عن “إرادة” التغيير، وهي مسألة تخضع عمليًا لحسابات توازن ثقافي واجتماعي مركبة.
تاريخيًا وعلى المستوى العملي، تمثل الدولة القوة الأهم بين القوى التجديدية (الفكرية والسياسية والاجتماعية) التي تعكس ضغوط التطور الاجتماعي؛ أولًا: بحكم طبيعة الدولة مطلقًا أو الدولة “في ذاتها” ككيان “واقعي” محمل بغريزة السلطة. وثانيًا: بحكم طبيعة الدولة “الوطنية” التي نشأت أصلًا كواقعة حداثية مضادة لفكرة التجميد الديني، والتي ورثت في السياق الإسلامي بالذات صلاحيات سلطوية أوسع. وهي لذلك، القوة الأقدر على كبت أو تحجيم النزوعات التعطيلية لدى المؤسسة الفقهية.
سأعمق النقاش حول هذه النقطة بشكل تطبيقي، بقراءة مقارنة في تاريخ العلاقة بين الدولة الحديثة والمؤسسة الفقهية المرتبطة بها في النموذجين المصري والسعودي: الأزهر، والطبقة الفقهية الوهابية.
يتبع