ثمة محاولات متفرقة بتاريخنا المعاصر لتحركات “إسلاموية”، رافعة شعارات واسعة، حول “توحيد الأمة” و”أسلمة المجتمع”، بهدف إقامة الدولة الإسلامية.
تتداخل تلك الأقطاب في ظروف وملابسات عدة، وتتشعب جغرافياً وثقافياً في أقطاب متفرقة. والشاهد أن هناك أربعة أقطاب رئيسة: القطب الشرق أوسطي العربي، وقطب شبة القارة الهندية، والقطب الإيراني، والقطب التركي.
حول الوصول للهدف المنشود، تنقسم تلك الأقطاب ما بين ثوريين وإصلاحيين. الأول يرى أن أسلمة المجتمع لا يمكن لها أن ترى النور إلا عن طريق الدولة وسلطتها، والثاني يرى أنها تتم من خلال نشاط اجتماعي وسياسي يستهدف القاعدة من أسفل لأعلى. وعليه تنتج الاختلافات في تعامل الحركات الإسلامية الموالية لتلك الأقطاب في طريقة التعامل مع السلطات في نطاقها الجغرافي، فمنهم من يرى فيهم التكفير، ومنهم من يتجه نحو المعارضة، ومنهم من يتجاهل أو يتعاون بقدر يحقق منه أهدافاً ومصالح تخدم فكرته الأم. جغرافياً عادة ما تبدو تلك الأقطاب محلية أو قطرية ثم تتحول للأممية، وفكرياً غالباً ما تبدو إصلاحية ثم ثورية.
التواصل بين تلك الأقطاب تاريخياً، ارتبط بالمراحل الاستعمارية ووجود غطاء ومبررات لتلك الجماعات للظهور والتفاعل، وللاتصال والتواصل فيما بينها كما حدث بين الإخوان المسلمين في الوطن العربي، وإسلاميي تركيا، وحزب جماعت إسلامي في شبه القارة الهندية، والذي استمر فترات مع ظهور التيار القطبي بالإخوان المسلمين، وتأثر الحركات الإسلامية في أفغانستان به، ومبدأ “الحاكمية” والجهاد الأممي لدى عبدالله عزام.
مع الوقت، وباتساع رقعة الجماعات والانشقاقات عالمياً إلى جانب المضايقات الأمنية وفهم استراتيجية وخطط عمل التنظيمات الصغيرة وتزايد القدرة على ردع العمليات الإرهابية البدائية من قبل تلك التنظيمات، وسعياً لبقاء تلك التنظيمات وتطوير قدراتها ليكون لها أثر، أصبحت عوامل التواصل والاتصال والموالاة، ليست مقتصرة على الأفكار أو التشارك في الأهداف، وإنما أصبح العامل الأهم بها التمويل وقدرة التنظيم الأممي الساعي لكسب أتباع على تلبية الاحتياجات المحلية والإقليمية للتنظيمات المستهدف كسب ولائها، خاصة في ظل ظهور تنظيم داعش الذي خفف من المركزية والهرمية التي كان يتبعها تنظيم القاعدة في التعامل مع الموالين، وهذا ما فسره ظهور الانشقاقات عن القاعدة ومبايعة داعش في أوج فتراته.
نحاول من خلال تلك السلسلة التعرف على خريطة نشاطات الأقطاب الإسلامية الأربعة عام 2019، وإمكانية التواصل والاتصال فيما بينهم، ووسائل ذلك حال حدوثه.
نخصص قراءاتنا الأولى، للحديث حول تنظيم القاعدة. فاليوم ومع دخول تنظيم داعش مرحلة إعادة التمركز والسعي نحو البقاء في ظل التكاتف الدولي للقضاء عليه نهائياً، ومع التساؤلات حول مستقبل تنظيم القاعدة واحتمالية العودة للمشهد مرة أخرى ودخوله المرحلة الخامسة -مرحلة الانطلاق- من نظرية المراحل التي عدها منظر الجماعات الإرهابية أبو مصعب السوري (مصطفي ست مريم)، لا بد من الوقوف حول تحركات تنظيم القاعدة ومستقبلها، والإجابة عن التساؤلات حول مدى قدرة التنظيم على العودة للأممية والسيطرة على خريطة التنظيمات الإرهابية عالمياً.
أولا: التنظيم الأم وفروعه:
في مقابلة أجراها “بن والاس” وزير الأمن البريطاني مع صحيفة ذا صنداي تايمز البريطانية قرب نهاية العام الماضي، صرح بأن التنظيم يتطلع لتنفيذ هجمات إرهابية على طائرات الركاب والمطارات، وأن التنظيم قام بتطوير تكنولوجيا إسقاط الطائرات، “جلست القاعدة بهدوء في الزاوية وحاولت تحديد ما يبدو عليه القرن الحادي والعشرون”[1].
الوزير البريطاني وحديثه حول استمرار التنظيم وعمله على إعادة هيكلة ذاته، أكد أنه أمر حقيقي، فالتنظيم المركزي الهرمي الذي استمر على مدار عقود، زرع التطرف في العديد من مناطق العالم، تلك الفترة لا يمكن له أن يتجاوزها بسهولة.
وما يؤكد ذلك الزيادة التدريجية في عدد العمليات الإرهابية التي نفذها التنظيم والموالون له مع ضعف تنظيم داعش وفقدان نفوذه في الفترة من 2016 إلى 2018 حيث زاد عدد العمليات بنسبة نحو (100%) عام 2018 عن عام 2016:
وزعت تلك العمليات وفقاً للنطاق الجغرافي في إطار (19) دولة، جاءت نسبة (66.7%) منها في نطاق دولتي “مالي، واليمن”:
وفقاً لفروع التنظيم يأتي عدد العمليات الأكبر لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بواقع (88) عملية، ثم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية بواقع (38) عملية، ثم عمليات باسم التنظيم الأم بواقع (11) عملية، وأخيراً أربع عمليات لتنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية.
أ- القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي:
يعد الفرع الأكثر نشاطاً للتنظيم على مدار السنوات الثلاث الماضية، حيث بلغ عدد عملياته (88) عملية أسفرت عن سقوط (347) ضحية:
وزعت عملياته على مدار الثلاث سنوات الأخيرة جغرافياً على (9) دول:
تزايد عدد العمليات تدريجياً في السنوات الثلاث الماضية إلى جانب تشابك التنظيم مع السكان المحليين في نطاقه الجغرافي، يفيد بكون العام الحالي ربما يشهد نشاطاً أكثر للقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، خاصة حالما تشهد بعض البلدان اضطرابات سياسية تعزز وجود غطاء يستغله التنظيم في التشابك داخلها بصورة أكثر توسعاً.
ب- القاعدة في بلاد شبه الجزيرة العربية:
يعد ثاني الفروع من حيث النشاط، وعدد عملياته (38) عملية أسفرت عن سقوط (238) ضحية:
اقتصرت عملياته على مدار الثلاث سنوات الأخيرة جغرافياً على اليمن
على الرغم من أن التنظيم زاد عدد عملياته في السنوات الثلاث الماضية في اليمن تدريجياً، فإنها شهدت انخفاضاً في عدد الضحايا، وهذا ما يفيد بكون العمليات هناك هي محاولة لإظهار الاستمرارية والبقاء.
بصورة عامة، تعد اليمن ذات مكانة عالية في صفوف تنظيم القاعدة منذ النشأة، حيث كان ينظر لها ابن لادن وأتباعه على أنها مصدر للمد بالمجندين، كما اقترح البعض على ابن لادن –وفقاً لرسائل أبوت أباد- أن تكون اليمن محطة انطلاق الخلافة المزعومة بفكر القاعدة، إلا أنه رفض ذلك.
ويرتبط وجود التنظيم في اليمن باستمرار عدم الاستقرار في الداخل، وهذا ما يغذي شوكة التنظيم ويساعده على تقوية ذاته وتوطيد علاقاته بالسكان المحليين.
د- القاعدة في شبه القارة الهندية:
أفقر الفروع من حيث النشاط على مدار الثلاث سنوات السابقة، وعدد عملياته (4) عمليات أسفرت عن سقوط ثلاث ضحايا:
ووزعت بالتساوي ما بين “الهند، وبنجلاديش”:
على الرغم من أن هناك بعض التقارير أشارت إلى أنها قدمت بعض الدعم العسكري لحركة طالبان بالعام الماضي، فإنها لم ترتقِ لأن تصبح تهديداً حقيقياً في شبه القارة الهندية.
“الشباب المجاهدين” الصومالية حصان القاعدة في أفريقيا:
حركة “الشباب المجاهدين” الصومالية من أكثر الحركات الإرهابية نشاطاً على الساحة في السنوات الثلاث السابقة، فتزيد عدد عملياتها سنوياً عن عدد عمليات تنظيم القاعدة وفروعه الرئيسة، حيث بلغ عدد عملياتها في 2016/ 2018 نحو (257) عملية إرهابية أسفرت عن سقوط نحو (2149) ضحية:
يلاحظ أنه على الرغم من زيادة عدد العمليات التي قام بها التنظيم عام 2018 عن عام 2017، فإن عدد الضحايا انخفض بنسبة تقترب من (45%) مما يفيد بضعف في فاعلية تلك العمليات مقارنة بالعام السابق، وهذا ما يفسر وجود تشديدات أمنية أكثر على التنظيم، إلا أنه ليس من المتوقع أن تنخفض العمليات أو فاعليتها هذا العام بصورة كبيرة عن العام السابق، ومن المحتمل أن يركز التنظيم على عمليات نوعية ترتبط بالمصالح الغربية ومصالح الولايات المتحدة بنطاق الصومال وكينيا، التي تشهد فاعلية لنشاط التنظيم الذي يعد المسيطر على خريطة العمليات الإرهابية بكينيا في الفترة من 2013 حتي 2018.
علاقة “الشباب المجاهدين” بـ”القاعدة”:
منذ عام 2008 تحاول جماعة الشباب المجاهدين الصومالية بصورة كبيرة التودد لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ففي خطاب نشر في 31/8/2008 بعنوان “انفروا” تحدث فيه صالح النبهاني واستهل حديثه بالقول: “تحياتي إلى القائد الشجاع وزعيمي: الشيخ أسامة بن لادن (حفظه الله وأتباعه)” طالباً التعزيز من السودان واليمن. بعد ذلك بدأت الحركة في التوجه نحو القضية الأم المزعومة لدى تنظيم القاعدة: القضية الفلسطينية.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 بدأت حركة الشباب الصومالية بالتوجه في خطابها نحو القدس، مهددة الجانب الإسرائيلي بشن حرب مقدسة عليه جراء الاعتداءات المتكررة على الدولة الفلسطينية، ومنها الاعتداء على المسجد الأقصى آنذاك. وسط خروج تظاهرات بالعاصمة الصومالية مقديشو مناهضة لإسرائيل استجابة لدعوات الحركة الإسلامية. وحضر بعض تلك التظاهرات مسؤولون من حركة الشباب وعلى رأسهم “مختار روبو أبو منصور” الذي ألقى خطاباً جاء فيه: “اليهود بدؤوا يهدمون أجزاءً من المسجد الأقصى الشريف، كما يواصلون قتل إخواننا الفلسطينيين، لذلك فإننا مطالبون بأن ندافع عن إخواننا الفلسطينيين” كما صرح قيادي الحركة “عبدالفتاح عويس أبو حمزة” بقوله: “سوف نوسع معاركنا وننقلها إلى الشرق الأوسط، وسوف نخوض حرباً للدفاع عن المسجد الأقصى وتحريره من الإسرائيليين”. بالإضافة إلى ذلك أعلنت حركة الشباب على لسان القيادي “عبدالله جاب” تأسيس “سرية القدس” بهدف إرسال أفراد إلى المناطق الفلسطينية لبدء العمليات ضد الطرف الإسرائيلي.
ثلاثة أشهر كانت كافية بعد ذلك لإعلان حركة الشباب مبايعتها لتنظيم القاعدة في فبراير (شباط) 2010 في بيان رسمي، جاء فيه: “إن الجهاد في القرن الأفريقي يجب أن يكون جزءا من الجهاد الذي يخوضه مجاهدو تنظيم القاعدة على المستوى العالمي”. صحيح أنه قبل هذا البيان في نهاية عام 2009 ظهر “محمد عبدي غوداني” زعيم حركة الشباب في تسجيل مصور، وأعلن ولاءه لتنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، إلا أن الإعلان الرسمي كان في فبراير (شباط) 2010.
لا يترك التنظيم فرصة لإثبات ولائه للقاعدة إلا وكان حاضراً بها، وأقربها العملية الإرهابية التي قام بها أتباعه (كتيبة صالح النبهاني) 15 يناير (كانون الثاني) 2019 في منطقة ويستلاندز بمجمع ريفر سايد درايف بالعاصمة الكينية نيروبي، والتي أسفرت عما يزيد عن (21) ضحية، وبرر البيان الذي أصدره التنظيم حول العملية قيامهم بها تنفيذاً لتعليمات زعيم القاعدة الإرهابي أيمن الظواهري.
ختاماً:
كافة المؤشرات تفيد بأن تنظيم القاعدة يدخل مرحلة الإفاقة والعودة مرة أخرى على الساحة الإرهابية بفاعلية، وإن كانت التحركات -وفقاً للتنظيم وفروعه- لا تنذر باتساع النطاق الجغرافي للتنظيم، إلا أن استمرار عدم الاستقرار السياسي بالمناطق الفاعل بها التنظيم، واحتمالية حدوث عدم استقرار بمناطق أخرى يعيش فيها التنظيم حالة سكون، إلى جانب الصعود والهبوط المرتبط بالأقطاب الأخرى والذي سنتعرض له في المقالات الأخرى، ربما تدفع نحو المزيد من النشاط واتساع الرقعة الجغرافية والتهديدات من قبل تنظيم القاعدة.
[1] -Al Qaeda plotting plane attacks in Europe: UK Security Minister Ben Wallace, Hindustan times, Dec 25, 2018, URL: