مقدمة
تريثت في حسم أمر عنوان الكتاب «إخوان الصفاء… إعجابٌ وعجبٌ»، وهكذا نُشر ملحقاً بالمجلة العربية الصَّادرة بالرِّياض، لشهر محرم (2012)، آخذاً بنظر الاعتبار أولاً عدم وضوحه، وثانياً التَّأكد مِن قناعتي في الإعجابِ والعجبِ معاً. في هذه الطبعة يرد العنوان «إخوان الصفاء المُفترى عليْهم… إعجاب وعجب»، وكان المقترح مِن النَّاشر صاحب المركز، باعتبار أنَّ الكتاب في فصوله الأربعة جاء ردّاً على ما شاب تاريخ هذه الجماعة.
بدءاً مِن إنكار وجودهم ومحاولات غمط حقِّ إخوان الصفاء وخِلان الوفاء في تأليف الرَّسائل، ونسبتها لأكثر مِن شخصية، إلى زجِّهم في صراعات سياسية مذهبية، وتكفيرهم وتفسيقهم، ورميهم بالشَّعوذة ورداءة التَّأليف، إلى جانب ما ورد في كتابنا هذا، في الفصل الثَّاني، بتوضيح إهمال ظلالهم على مقدمة ابن خَلدون (تـ: 808هـ)، حتى بنى مجداً معرفياً بفضل ما أخذه مِن رسائلهم، مِن دون الإشارة إليهم ولو بكلمة.
لهذا نرى أي دراسة، أو تحقيق مخطوطة، لمقدمة ابن خَلدون، تبقى ناقصة من دون الاهتمام بهذا بذلك، أيّ ما هو سرّ التّشابه بين نصوص الرّسائل ونصوص المقدمة، وليس بالضرورة الاتفاق على القول بالانتحال، ولكن الإشارة إلى مَن سبق صاحب المُقدمة بالنَّص والفكرة، وهذا مِن أولويات البحث العلميّ، أنْ يُنظر بمصادر الكتاب المحقق أو دراسته؛ وللأسف هذا ما لا نجده عند معظم محقّقي المقدمة، ولا لدى الذي كتبوا دراسات في المقدمة، وأعدّ ذلك لأمرين: اعتبار ابن خَلدون صاحب تلك الآراء ومؤسساً لتلك النّظريات، تعصباً وعناداً، أو الجهل برسائل إخوان الصفاء، وفي الحالتين نجد خلافاً لأُصول البحث العلميّ.
ما تناوله إخوان الصفاء وخِلان الوفاء من قضايا، قد تتوجس منها شرائح مازالت تعيش عنعنات الماضي؛ بل ثقافة الكهوف المظلمة منه، فكرية وفقهية على حدٍّ سواء، مؤثرة في عصرنا الحاضر، إلى درجة الطّعن بدين من يتناول شأن هؤلاء العُلماء، بما يوجب الإعجاب بآرائهم؟!
أي ما جاء في رسائلهم، من أفكار وإيماءات، في النّظر إلى ظواهر الطّبيعة، بعقول مبصرة في ذلك الزَّمن الغابر، القرن الرَّابع الهجري/العاشر الميلادي، ودفاعهم عن الفلسفة أو الحكمة، التَّي وصل الحال آنذاك، وحتَّى اليوم، إلى منعها وتحريمها، وكم قتيل سُفك دمه دونها، ولمحمد مهدي الجواهري (تـ: 1997) ما يُطرب العصور كافة، عندما قال في مبصر المعرة وفيلسوفها أبي العلاء (تـ: 449هـ)، وهو ما يقترب مِن هذه الجماعة، أكان بالمباشرة أو غير المباشرة (قصيدة قف بالمعرة: 1944):
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا
بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا
بعد الإعجاب بآراء هذه الجماعة، يأتي العَجب لما تضمنته رسالتَّهم في السّحر والعزائم، ودفاعهم عن التَّنجيم والمنجمين؛ كون ما قرأناه في هذه الرِّسالة جاء نقيضاً لِما ورد من علمية وواقعية وعقلانية في بقية رسائلهم، في النّظر إلى ظواهر الكون الطّبيعية منها والاجتماعية، قياساً بزمانهم وزماننا أيضاً فهو الآخر مازال مشوباً بالرداءة، كذلك كان طعنهم في الجدل والمناظرة، يثير العجب والتَّعجب في الوقت نفسه! أي كيف لمحبي الفلسفة إلى هذا الحد مِن الانفتاح العقلي، يعترضون على المناظرة؟ وهل هناك فلسفة وفكر وعلم بلا جدل؟!
هذا ما كنت أشعر به، وتأكد لي بعد البحث في رسائل إخوان الصفاء وخِلان الوفاء قبل إنجاز هذا الكتاب، وهو عذري في وسمه بـ«الإعجاب والعجب» بعد عبارة «المُفترى عليهم»، فمهما بلغ عجبي وتعجبي إلا أنَّ الانحياز يبقى لجرأتهم وأفكارهم في نبذ التَّعصب قائماً. نقصد الإعجاب بما ورد في الرّسائل مِن نصوص علمية، مناسبة لزمانهم وما بعده، ومواقف منحازة للحرية، وفي القرن الرّابع الهجري.
أثار عجبي ودهشتي أيضاً من خزعبلات وشعوذات زماننا الحاضر (القرن الخامس عشر الهجري)؛ فهناك مازال أناس ينظرون إلى الأرض بأنها مسطحة، وهي واقفة لا تدور، ويرون تداوي الأمراض المستعصية، وغير المستعصية، بطرد الجن من الأبدان، وهو مازال جارياً. يُذاع هذا التقهقر عبر أرقى التَّكنولوجيا، أي الأقمار الصّناعية، فهناك فضائيات خاصة بهذا الغثّ، ووسائل الاتصال الإلكترونية مشغولة به.
يُضيف إخوان الصفاء وخلان الوفاء لعنوانهم، الذي اشتهروا به، في أول سطر من فهرست الرّسائل: «أهل العدل وأبناء الحمد»([1]) ، وهم جماعة عراقية بصرية، ظهرت في القرن الرّابع الهجري، حسب شهادة أغلب مجايليهم، وأحد أبرز أدباء عصرهم، مثل أبي حيان التَّوحيدي (تـ: 414هـ)، وشاعت رسائلهم، وذاع صيتهم في الورّاقين، أي أسواق الكتب، بلا أسماء المؤلفين، إنما كجماعة، نشبههم بالجماعات التي توقع بياناتها الفكريّة أو الأدبيّة، كالبنيويين، أو الفلاسفة المشَّائين، أو جماعة الفن الحديث إلى غير ذلك.
لقد أكثرَ القائلون في سبب كتمان هذه الجماعة لأسمائهم، ولم يضعونها في غرة رسائلهم، منه مخافة سلاطين زمانهم، مع أنه ليس في رسائلهم فعل يفسر بالثَّورة أو الخروج، وإذا قلنا كان سبب كتمانهم حفظاً على تنظيمهم السّري، لكن لا أجد لديهم تنظيماً، مثلما حاول معاصرون تأويل ما ورد في الرّسائل على أنه تنظيم سري ثوري؛ شبيه بالأحزاب السّرية اليوم، فهذا مجرد إسقاط الحاضر على الماضي لا أكثر([2]).
لقد أفصحوا عن سبب الكتمان، وأبطلوا التوقعات كافة: خشية أن تقع الرّسائل بيد من لا يفهمها، ولا يقدِّر مضمونها، فيُساء لها، وهم يرون أن يكون الكلام على قدر العقول، والرّسائل كتبها أناس على مستوى من العلم والحكمة. صحيح أن الظاهر مِن هذا التعليل أنهم يقصدون العامة مِن النَّاس، لكن هذا لا يمنع أن يتضمن خشيتهم مِن السُّلطان أو القاضي أو الفقيه المفتي، الذي لا يفهم ما في الرسائل فيرفع ضدهم سيف التكفير!
لولا رواية التَّوحيدي، في «الإمتاع والمؤانسة» لضاع خبر هذه الجماعة، وما كان له أن يخبر عنهم لولا سؤال ابن سعدان (تـ: 375هـ)، وهو وزير صمصام الدّولة بن عضد الدّولة البويهي، العام 373هـ، لما بادره بسؤال وتشكيك عن زيد ابن رفاعة، بما يعني أنَّ الوزير كان له علم بهذه الجماعة.
لذا سأل عن اختلاف رفاعة إليهم، وليس هناك رواية شافية عن أبي الخير زيد بن عبدالله بن رفاعة الهاشمي، المعاصر للوزير الصّاحب إسماعيل بن عباد (تـ: 385هـ)، وربَّما ياقوت الحموي (تـ: 626هـ) ذكر ذلك قياساً على معاصرة التَّوحيدي للوزير الصّاحب بن عباد، وتصنيف كتاب في الصّاحب وابن العميد (تـ: 363هـ)، وَسَمَه بعنوان «مثالب الوزيرين» أو «أخلاق الوزيرين»([3])، وهو كتاب مطبوع، صدر بتحقيق إبراهيم الكيلاني. نود في هذه الطَّبعة التّنبيه إلى معلومة توهمناها خطأً، في الطبعة الأولى والثَّانية، وهي اعتبارنا لكتاب «المقابسات» لأبي حيان التَّوحيديّ مصدراً آخر لوجود إخوان الصفاء، بعد «الامتاع والمؤانسة»، والحقيقة أن محقق المقابسات حسن السّندوبي، أخذ ما ورد في الإمتاع وجعله نصاً في مقدمته، مِن دون الإشارة إلى المصدر، فما ورد عن التّوحيديّ مصدره الوحيد هو كتابه «الإمتاع والمؤانسة» لا غيره.
مع ظهور أسماء إخوان الصفاء، حسب رواية التَّوحيدي، إلا أن مؤرخين وكُتّاب نسبوها إلى أسماء عدة، ومنهم مَن صحح خطأه بعد الاطلاع على معلومة التَّوحيدي. فقد نُسبت إلى المعتزلة، وإلى أحد الأئمة العلويين، ولم ينته الأمر عند القدماء الذّين لم يطلع بعضهم على ما كتبه التَّوحيدي، إنما ظل الحال حتَّى عصرنا الحالي، فهناك مَن نسبها إلى أحد الأئمة الإسماعيليين أحمد بن عبد الله، جاء في الطّبعة الهندية (1887) ما نصه: «كتاب إخوان الصفاء وخلان الوفاء للإمام قطب الأقطاب مولانا أحمد بن عبد الله، رحمه الله تعالى، وهو على أربعة أقسام»([4]).
لكننا من خلال قراءة الرّسائل، لا نقف على مذهب لهم، بل نجد مذهبهم اللامذهبية، ولو كانوا على مذهب الإسماعيلية لبان ذلك في عبارة أو إشارة، على العكس نلاحظهم ينفون عنهم الانتماء لأي مذهب كان، وإنما يقدمون أنفسهم حركةً فكريةً ودعوةً ثقافيةً، لا يدعون الثّورة، ولا الحقَّ بالإمامة، فهم أنصار الفلسفة إلى أبعد ما يكون، يعتبرون الأنبياء، ويعبرون عنهم بالشّريعة، والحكماء أي الفلاسفة، ويعبرون عنهم بالفلسفة أو الحكمة، معاً هم المنقذين للإنسانية مِن الجهل والظّلم، حتَّى القربان فسروه بقربان ديني شرعي، وقربان فلسفي، مثلما سيأتي ذكره في محله مِن الكتاب.
أتينا على مَن كتب عنهم، أو جاء على ذكرهم من الأقدمين، وهم ليسوا كثر، لكن نجد العديد من أفكارهم مبثوثة، وأحياناً نصوصاً، في مقدمة ابن خَلدون، لذا أفرزنا فصلاً كاملاً لهذه القضية، ولو جاء ابن خَلدون على ذكرهم، كبقية مَن أخذ عنهم لهان الأمر، لكنه لم يذكرهم، لا من بعيد ولا من قريب، مع وجود رسائلهم في مقدمته، بما هو بعيداً عن توارد الخواطر، الذّي له حدود وأصول، فلا يأتي بهذه الشّمولية وهذا الاتفاق بالعبارات، في العديد من فصول المقدمة.
أما في العصر الحديث، استهوت رسائل إخوان الصَّفاء عدداً، غير قليل، من المستشرقين والأكاديميين والباحثين؛ الغربيين والشّرقيين، العرب والأعاجم، فمن غير ما ذكرنا في الفصل الأول من بداية الاهتمام بهم، في القرن التَّاسع عشر والنّصف الأول من القرن العشرين، نقرأ مادة غزيرة عنهم في كتاب العلَّامة اللُّبناني حسين مروَّة (اغتيل: 1987) «النّزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، ومروَّة يحاول بعث الطّابع العقلي والثّوري مِن التراث الإسلامي، بما يتلاءم مع فكره الماركسي الدّيالكتيكيّ، وتوجه البحث في كتابه، الذّي صدر بجزأين العام 1978، بعد عمل في البحث والدِّراسة استغرق عشرة أعوام([5])، وكانت رسالتَّه في نيل شهادة الدّكتوراه من الاتحاد السّوفييتي.
كذلك تأتي دراسة الباحث محمد فريد حجاب، الموسومة بعنوان «الفلسفة السّياسية عند إخوان الصفاء»، الصّادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة 1982)، وهي دراسة ركَّزت على المنحى السّياسي لدى هذه الجماعة. ثم يأتي الباحث عادل العوا في كتابه «حقيقة إخوان الصفاء»، بجرد موثق لما كتب في الجماعة والرّسائل، متعرضاً لمجمل أفكارهم، وصياغة رسائلهم، ومذهبهم الانتقادي.
بعدها، ظهرت دراسة أكاديمية لفؤاد معصوم، لنيل شهادة الدّكتوراه مِن مصر، في أطروحته التَّي صدرت كتاباً تحت عنوان «إخوان الصفاء فلسفتهم وغايتهم» عن دار «المدى» العام 1998. كان بحثاً أكاديمياً شاملاً ورصيناً، لما ورد عنهم وقيل، وتتبع أفكارهم عبر رسائلهم ليتوصل إلى أنَّ غايتهم «هي إعداد الإنسان، وليس إعداد نفوسهم، للوصول إلى السّعادة القصوى، ولا تتحقق هذه الغاية إلا في مجتمع فاضل»([6]). إلا أنه جعل لهم فلسفة، وأرى ما ورد في رسائلهم واعترفوا به أنها انعكاس للفلسفة اليونانية، لكن ذلك لا يلغي تقديمها بأسلوبهم وأفكارهم الخاصة في العديد من النّواحي، ولنا حسابها فلسفة في التّراث الإسلاميّ.
كذلك، اطلعنا على كتاب أحمد صبري «إخوان الصفاء بين الفكر والسّياسة»، الصّادر بالقاهرة (2005)، ووجدناه يهتم، في أغلب الكتاب، بنفي الإسماعيلية عنهم، محاولاً ردَّ ما كتبه عارف تامر (تـ: 1998) وآخرون، ممن أصرَّ على إسماعيليتهم. هذا غيض من فيض، وما توفر لدينا من الكتب مطبوعة من دراسات وبحوث في إخوان الصفاء ورسائلهم، أما الكتب التَّي افترضت لهم تحركاً ثورياً، وتنظيماً خلوياً، فكثيرة، ولا أرى عبرة بذكرها، لأنها مبنية على تخيل، وإسقاطات على الماضي، مثلما ذِكرنا ذلك.
ما ورد في رسائل إخوان الصفاء، واعتمدنا في قراءة فكرهم، على ثلاث نسخ: الأقدم هي النّسخة الهندية، المطبوعة طباعة حجرية (العام 1887-1888) ببومباي، وجعل الباحث عادل العوا الذّي طبع الكتاب على نفقته، نور الدّين بن جيواخان محققاً لها([7])، بينما النّسخة صدرت بلا تحقيق، وما كان المذكور إلا منفقاً على طباعتها ونشرها، حسبما ورد في غلاف الكتاب، والذّي وصف نفسه، بعد نشر إعلان يحذر فيه إعادة طبع الكتاب، بـ«تاجر الكتب»([8]).
النّسخة الثّانية من الرّسائل، التَّي اعتمدنا عليها في المقابلة، هي ما راجعه وأصدره العام (1928)، صاحب «معجم الأعلام» المعروف، خير الدّين الزّركلي (تـ: 1976). أما النّسخة الثّالثّة المعتمدة أكثر مِن غيرها، فهي التَّي أصدرتها دار صادر (العام 2006)، وكانت طبعتها الأولى قد صدرت (العام 1957)، وظهرت بتقديم اللبناني بطرس البستاني (تـ: 1969)، وكي لا يتوهم القارئ أشير إلى أنه غير بطرس البستاني الأديب المعروف (تـ: 1883)، صاحب دائرة المعارف، التَّي ضمت مادة غنية عن إخوان الصفاء ورسائلهم، الموسوعة التَّي أكملها فؤاد أفرام البستاني (تـ: 1994) وسُجِّلت باسمه، وهو الذّي كتب تلك النّبذة عنهم، فقد أورد فيها مراجع صنفت بعد وفاة بطرس بكثير!([9]).
خصَّ الفصل الأول من الكتاب حقيقة «وجود إخوان الصفاء»، ووصول رسائلهم إلى الأندلس مبكراً، واطلاع الكُتَّاب عليها، فمن استحسنها، ومن ذمها مِن معاصريهم. ويختص الفصل الثّاني بما أثير حول اقتباس أو انتحال العلامة ابن خَلدون من الرّسائل «إخوان الصفاء وابن خَلدون». ثم الفصل الثّالثّ ويهتم بتطلعات إخوان الصفاء واتجاههم «إخوان الصفاء عبر رسائلهم». أما الفصل الرّابع، وهو الأهم، فيتضمن أفكارهم وآراءهم، التَّي آثرنا ألا نطلق عليها عنوان النّظرية أو الفلسفة، فهي أولاً، ليست نظرياتهم الخاصة، إنما اعترفوا من البداية، أنها للحكماء في الغالب منها، وثانياً، أنها لم تصل إلى مستوى النّظرية العلمية.
أما الفصل الخامس فارتأينا أن يكون خاصاً بقضية نظرية «أصل الأنواع» واعتبار القرد جد البشرية، والنَّزاع الذي ساد في نهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين حولها، وضحنا فيه شيوع النَّظرية وتصدي فقهاء المسلمين لها، وعلى وجه الخصوص بالعِراق إبان العهد العثماني. لم نتوسع به إلى فقهاء المشرق والمغرب إنما اقتصرنا الأمر على فقهاء العِراق، ولعلهم أول المتصدين للرَّد عليها، بطبيعة الحال بمنطقهم الدِّيني عبر الآيات والأحاديث، وليس عبر المختبرات العلمية.
فلا نجد مبرراً لدعوتها بالفلسفة، بالمعنى الدّقيق للفلسفة، خارج ما عُرف بحب الحكمة كمعنى حرفي لها، إنما هي النّظر في الوجود. فما قدمه إخوان الصفاء، كان مجرد قناعات، فيها العلم والفلسفة، وفيها ما يشبه الشّعوذة أيضاً، وهي مثلما تقدم لمجموعة حكماء اليونان.
لكن رجاحة التَّفكير والتَّطلع العلمي لإخوان الصفاء كانت طاغية عليها، سواءً كان ذلك في الاقتناع بما فسره الحكماء من ظواهر الطّبيعة، أو ما تبناه إخوان الصفاء أنفسهم في ما سميناه بالليبرالية المبكرة، وقناعتهم في ما نسميه في عصرنا الحالي بالتَّكنوقراط، أو المهنية والحرفية في إدارة أمور الصّنائع، أو فكرتهم عن الدّولة ككيان نامٍ وهالكٍ، وما قدموا من إشارات في العمران، وما ورد بصياغتهم بالعربيَّة.
كذلك، إنَّ ما ورد من قناعاتهم الإيجابية ضد المذهبية، واستغلال الدّين فيها، مع علمنا أنهم من أهل القرن العاشر الميلادي، أي قبل أكثر مِن ألف عام، كان إشارةً إلى رقي اجتماعي موجود ومبثوث في حياة ذلك العصر، قل أو ندر، يُعد قياساً بعصرنا الحاضر، المشحون بالمذهبية والطّائفية، أمراً لافتاً للنَّظر والإعجاب في الوقت نفسه.
لكلِّ هذا، نعد إخوان الصفاء، بما وصلنا مِن رسائلهم، وهي على ما يبدو تامة لا نقص فيها، مع كثرة الإشارات إلى وقت تأليفها في ذلك القرن، ظاهرة فريدة في التَّراث العربيّ الإسلامي، ودليلاً على أنَّ ما ترجم مِن الكتب الخاصة بالفلسفة اليونانية أثر في هذه الشّريحة، فظهرت بقناعات وأفكار متقدمة.
أجزم لو سُمح لهذه العصبة ولغيرها، مثل المعتزلة، بالاستمرار لتفجر التَّطور العلمي، بل والنّهضة الحديثة، حيث عاش إخوان الصفاء وخِلان الوفاء، أي بالبصرة العِراقية قبل طوكيو وباريس. ربَّما أفكارهم ورؤاهم لا تنتج مثل هذا الانفجار، لكنَّ استيعابهم وتبنيهم لها، وأفق المعرفة المفتوح في رسائلهم على العلم والفن، بما أطنبوا في فن الموسيقى، كلها إشارات إلى تقدم ونهضة، وبعد تراكمها قد لا تبقى خامدة خاملة متأخرة إلى عصر النّهضة الأوروبية المعروف، الذي يؤرخ لبدايته في القرن الرَّابع عشر الميلادي.
على أية حال، في عصر النّور والظّلام، في الوقت نفسه، وهو عصرنا الحاضر، ننظر إلى ما كتبه إخوان الصفاء وخلان الوفاء بإعجاب وتعجب، إعجاباً بما حوته الرّسائل من أفكار متقدمة، مضيئة لعصرهم وعصرنا، نحاول استخدامها للتخفيف من جماح الطّائفية والمذهبية، والتَّراجع المريع في ذهنية الإنسان، فقد أعطوا رأيهم واضحاً فيها. إخوان الصفاء الذّين لا نعرف شواهدَ لقبورهم، ولا أسماء حقيقية لهم، تركونا نغُرب ونُشرق في أمرهم، وأمر رسائلهم، وظاهرتهم على العموم.
هذا إلى جانب عجب، مثلما تقدم في مستهل المقدمة، لما ورد من خزعبلات في آخر رسالة من رسائلهم، والتَّي اختصت بالسّحر والطّلاسم وغيرها، وسماح القرن العاشر الميلادي، والبصرة بالذّات، بوجود أناس يفكرون بكلِّ هذا التَّفكير المتنور، لتُضاء به جانب من ظلمة عصرنا.
ذلك إذا علمنا أنَّ رسالتَّهم في الموسيقى، وهي من أغزر الرّسائل بالفكر والانفتاح، يستشهد بها كمثال مقارن على تراجع رهيب في المكان نفسه، بعد دهر دهير. فالبصرة حرّمت الموسيقى والغناء رسمياً، مؤخراً ليس بقرار رجل دين، إنما بقرار حكومي، أصدره مجلس المحافظة (أيار/ مايو 2012)، في واحد مِن المهرجانات في ذلك العام، فالسِّياسي تحوَّل إلى رجل دين ظلاميّ، ونشخصه بالظّلامي لوجود رجال دين بعدوا عن الظّلمة إلى النُّور، اعتمر السّياسي العِمامة وأطلق اللحيَّة، فهما عدة السياسة والسُّلطة في الوقت الحاضر، وحذاري مِن حاسر الرأس الحزبي عندما يعتمرها!
بينما رسائل إخوان الصفاء، ومنها رسالتَّهم «الموسيقى» كانت تُعرض في أسواق الوراقين بالبصرة وبغداد، العام 373هـ، أي العام 963 ميلادية، ولكم قياس النِّسبة بين الإعجاب والعجب، وهذا هو دافع التَّأليف عن إخوان الصفاء ورسائلهم. إنّه بحد ذاته عنوان هجاء لعصرنا الحاضر، وهو غارق في الماضي الغابر، في الجانب المكسوف منه. فالجانب المضيء ما أثار إعجابنا بما طرحه إخوان الصفاء، وعجبنا بما عصرنا قد ابتُليَ به، وكأننا غدونا خارج الأزمنة، والبكاء والحنين على الماضي، فهو الأفضل، هذا ما ينبئنا به التابعي الزَّاهد يونس بن ميسرة (تـ: 132هـ) بالقول: «ما لنا لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه، و لا ولىّ عنا زمان إلا بكينا عليه»([10])، ومِن المعاصرين قالها محمد مهدي الجواهري (قصيدة أفتيان الخليج: 1979):
ٍوقائلةٍ أمَالك من جديد
أقول لها: القديمُ هو الجديدُ
هذا، وليس عذراً للكاتب عن النَّقص، ما حصل في طبعة الكتاب الأولى والثّانيّة، وهذه الثّالثة، ولنا القول: مهما حرص المؤلف على تقديم الصّواب لا يجد نفسه إلا عاجزاً. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ: 243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه»([11]). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدئ تأليفه»([12]). كذلك استعير قلق إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ: 364هـ)، وقوله: «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه»([13]).
الطبعة الأولى: 2012
الطبعة الثّانية: 2013
الطبعة الثَّالثة: 2024
[1] إخوان الصفاء، الرسائل 1 ص 21.
[2] مثل تلك الإسقاطات وقع فيها المستشرق الروسي، الفلسطيني الأصل، بندلي جوزي (تـ: 1945)، عندما اعتبر القرامطة (بدايتهم العام 278هـ) حزباً اشتراكياً على نمط الأحزاب الشيوعية اليوم، انظر كتابه (تـاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، بيروت: دار الروائع).
[3] الحموي، معجم الأدباء 3 ص 1335.
[4] طبعة مطبعة نخبة الأخيار، بومباي- الهند 1305هـ (1887)، حسب صفحة الغلاف.
[5] راجع: حسين مروة ولدت شيخاً وأموت طفلاً، سيرة ذاتية في حديث أجراه معه عباس بيضون، بيروت: الفارابي 1990م.
[6] معصوم، إخوان الصفاء فلسفتهم وغايتهم، ص 306.
[7] العوا، حقيقة إخوان الصفاء، ص 399 مسرد المراجع.
[8] يبدو أنه بعد صدور الجزء الأول (1887) تعرض لإعادة طباعة، فوجه ناشر الرسائل تحذيراً من إعادة الطّباعة جعله في الصفحة الأولى من الأجزاء الثلاثة، التَّي صدرت بعد صدور الجزء الأول.
[9] انظر: يوسف، تتمة الأعلام للزِّركلي 2 ص 94.
[10] الزَّمخشريّ، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 1 ص 75.
[11] الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز، ص 113.
[12] الحَمويّ، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء) 1 ص 11.
[13] البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق 1 ص 14.