يرصد مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «داعش بعد البغدادي» (الكتاب التاسع والخمسون بعد المئة، مارس (آذار) 2020) التطورات والتحولات الأيديولوجية التي مر بها تنظيم داعش الإرهابي، وتأثيرها في تماسكه التنظيمي؛ خصوصاً بعد مقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي. قدمت الدراسات قراءات جديدة في فهم التنظيم، بالتركيز على محتوى السجالات العنيفة الجارية داخله، وتحليل جذورها العميقة، وأثرها في هيكليته، وأجرت مقارنة بين استراتيجيات التعامل مع خطره وامتداداتها على المدى المتوسط.
ناقش الكتاب المخاض الأيديولوجي العسير الذي مرّ به التنظيم، في تكوّنه الأول بين فكر سيد قطب ونظريات تنظيم القاعدة؛ ثم تشكل تيارات جديدة داخله، تتنافس فيما بينها في التطرف والتكفير. لقد حاول «الإداريون» في التنظيم التحكم به، عبر قتل أكثر من ألف متطرفٍ من المنتمين إليه! ولا تزال تداعيات هذه المواجهات الداخلية مستمرة، وقد درسها الكتاب مستحضراً أبعادها بما فيها احتمال بزوغ جماعات جديدة تنتهج فكراً إرهابياً أكثر تطرفاً، تطوي صفحة «داعش» لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ الإرهاب.
في ضوء تصاعد السجالات التكفيرية داخل التنظيم قبل مقتل زعيمه واستمرارها بعده، خرج المنظِّرون الإرهابيون بخلاصات أشد عنفاً، مما آلت إليه الأيديولوجية السابقة أو القديمة، فاعتبروا التكفير أصلاً من أصول الدين، ونادوا بعدم العذر بالجهل، واعتبار قيام الحجة من مسائل الفطرة والعقل، ومسائل أخرى أشد عنفاً تتجه به أكثر فأكثر نحو الراديكالية، لا سيما أن ثمة صراعات حادة داخله على مستوى «الفكر الجهادي الحركي»، قد تكون الأعقد منذ تأسيس نواته الأولى مع «جماعة التوحيد والجهاد» عام 2003. بيَّنت إحدى الدراسات تأثير التيارات المتصارعة في داعش ودرست احتمالات امتدادها، وذلك في ظل الإرباك الذي أصاب الوسط الجهادي عقب مقتل البغدادي، مما يشي بهشاشة التنظيم، ويسقط مقولة صلابته الأيديولوجية، وهذا سوف يثير الجدل من جديد بين الباحثين في الظاهرة الإسلاموية حول نتائج تشظي التيار الحركي الجهادي، ومآلاته الأشد عنفاً؛ وقدرته على تجاوز الأزمات وامتصاص الضربات النوعية.
سعى الكتاب إلى الإجابة عن سؤال أساسي: كيف انتقل داعش من الخلافة المكانية إلى العنقودية؟ فرضت خسارة التنظيم لـ«دولته المزعومة» تغيير رؤيته الاستراتيجية على مستوى المواجهة والتمدد والتشظي إلى خلايا أشد عنفاً، إذ شكلت الخلافة المحكومة بمركزية مفرطة، وما تقتضيه من شروط ومتطلبات، عبئاً عليه؛ لذلك –وكما تبين إحدى الدراسات– صار التحول الاستراتيجي الذي عرفه داعش، وانتقاله من الخلافة المكانية إلى الانشطارية والشبكية، تحولاً حتمياً أملته المتغيرات الجديدة.
يرى محلِّلون أنه لا يمكن تمييز الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع «الظاهرة الإرهابية» عن تلك المتبعة مع تنظيم داعش. توقف الكتاب عند الكيفية التي تعاطت بها واشنطن مع الحركات الإرهابية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 وحتى مقتل البغدادي، فحاول تبيان نقاط التشابك والاختلاف، وطرح مجموعة من الفرضيات عكستها التطورات الميدانية أواخر عام 2019 وبدايات عام 2020؛ من ضمنها سيناريو متوقع لولادة بؤر داعشية جديدة، أو فورة في التنظيمات الإرهابية على خط التصدعات الإقليمية والتوترات الأمنية والسياسية، كما هو الحال في الأنموذج الليبي والسوري والصومالي، مع إمكان عودة «داعش» إلى العراق بهدف تكثيف نشاطه هناك، والإفادة من هشاشة الدولة العراقية والصراع الأمريكي – الإيراني في البلاد.
عرض الكتاب لشهادات ممن عاشوا في الأراضي التي استولى عليها داعش في العراق وسوريا، وكشف عن الفظائع والظلم والعدوان الذي ارتكبته عناصر التنظيم عبر تجارب شخصية لنساء ورجال، انضووا تحت لواء «دولة الخلافة» والتي كثرت بعد سقوطها. كما تحقق من الأسئلة الآتية: هل إعلام داعش غيَّر استراتيجيته وجدد طرق ترويجها على وسائل التواصل الاجتماعي بعد مقتل البغدادي، أم فقط عدّل من آليات اشتغالها وأعاد ترتيب أولويات خطابها؟ ما واقع الآلة الحربية الإعلامية لتنظيم الدولة؟ وما حجم تأثير الهزائم العسكرية على خطه التحريري؟ وهل تغيرت أساليب الترويج في العالم الافتراضي بعد سقوط خلافته وموت زعيمه؟
شكّل مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في 3 يناير (كانون الثاني) 2020 ضربة موجعة لإيران، والمليشيات الإرهابية، فكيف انعكس ذلك المنعطف الخطر على التصعيد الأمريكي – الإيراني في العراق؟ وهل سيصبح مسرح المواجهة المباشرة بين أمريكا والحرس الثوري من أسباب عودة تنظيم داعش؟ حاول الكتاب الإجابة عن هذين السؤالين، محلِّلاً التموضعات الجديدة التي قد يتخذها التنظيم الداعشي بعد سليماني.
وأخيراً، أُجريت قراءة في كتاب «داعش… التتمة» (Daech; la Suite) للأستاذ في العلوم السياسية الفرنسي، سيباستيان بوسوا، ناقش فيه المخاطر الناجمة عن المقاتلين العائدين من صفوف التنظيم بعد انهيار دولته، وما يشكلونه من تهديد أمني للدول الأوروبية والعربية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل ماهر فرغلي الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهوده وفريق العمل.
هيئة التحرير
مارس (آذار) 2020