يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث دراسة ظاهرة تنظيم «داعش»، ويبدأ بتشريح أفكاره، عبر التركيز على الكتب التي قام بنشرها واعتمدها خلال سجالاته في الفترة الأخيرة. يتتبع الكتاب «خريطة النسب» للأفكار التي يتبناها هذا التنظيم آخذاً في الاعتبار الظروف السياسية والإقليمية والتغيرات التنظيمية والهيكلية.
تتناول أبحاث كتاب المسبار «داعش وأخواتها: الفكر- التكفير- النصوص»، (الكتاب الثالث والعشرون بعد المئة، مارس/ آذار 2017) الأيديولوجيا وتاريخ تنظيم «داعش» بالعلاقة بينه وبين تنظيم القاعدة، في ظل الخطابات التي حاولت تصوير القاعدة وكأنها جناح جهادي معتدل. وتدرس الأبحاث من خلال المنهج المُقارَن الأسس العقائدية والفكرية والفقهية لكلٍ من تنظيمي القاعدة و«داعش».
لقد خرج تنظيم «داعش» من رحم تنظيم القاعدة وانفصل عنه في كيان مستقل، ولكنه لم يطوّر الأطر العقائدية أو الفقهية، ويكاد التنظيمان يتفقان في قضايا عدة؛ فكلاهما يُكفّران الشيعة، ويعتبران العلمانية كفراً بواحاً وخروجاً على الملة، ويتهمان الأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية بالكفر. ويرى التنظيمان ضرورة استمرار الجهاد، ويسعيان في الوقت نفسه لنفي صفة الغلو عنهما، ورفض وجود أي تماثل بينهما وبين الخوارج، وغير ذلك من أوجه التوافق التام للبنية الفكرية بين الطرفين. تعتبر إحدى دراسات الكتاب أنَّ الخلاف بين تنظيمي القاعدة و«داعش»، والتكفير المتبادل بينهما يرتبطان بالتنافس على القوة الجهادية وجذب المناصرين والتأثير بالجهاد العالمي.
بحث الكتاب في العلاقة بين الجهادية السلفية وحركة حماس في قطاع غزة، ملاحظاً كيف أنَّ السلفية الجهادية وظّفت إعلان ولائها لـ«داعش» في الصراع السلفي- الحمساوي على السلطة. وقد رافق هذا التوظيف خطاب سلفي جهادي يعمل على إضعاف الشرعيّة السنية لحماس بسبب العلاقة مع إيران ومع حزب الله، أكبر التنظيمات الشيعية. إن الصلب الأساسي للخلافات بين الجهادية السلفية وحماس يبدو للوهلة الأولى عقائدياً لكنه في عمقه سياسي وإقليمي.
تطرح المقارنة بين تنظيمي القاعدة و«داعش» بُعداً آخر للخلاف، يتمثل في تنافر الأولويات. فالقاعدة كانت ترى أنَّ الجهاد يجب أن يتركز ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين رأى أبو مصعب الزرقاوي –و«داعش» من بعده- أنَّ الجهاد ضد الشيعة يجب أن يحتل الأولوية ضمن تحديد أولويات العداء التي تفصل اختيار أي عدوٍ قريب يجب أن يبدأ التنظيم به. يضيف خلاف الأولويات هذا بُعداً مهماً وضرورياً لفهم الاختلاف بين القاعدة و«داعش»؛ فإضافة لكونه نوعاً من الانقلاب السياسي الداخلي، سيحول بالضرورة إلى فهم طبيعة الحرب بين التنظيمين، فثمة اختلاف أعمق حول سياق النشأة. لقد تفجرت «داعش» في ضوء الصراعات السياسية والعسكرية في العراق إبّان الغزو الأمريكي عام 2003، وما تلاه من صعود للنفوذ الشيعي والإيراني في بلاد الرافدين. لقد رأت «داعش» أنَّ تأجيل الصراع مع الشيعة يعني منحهم قوة أكبر لتوطيد سلطتهم وحضورهم في مفاصل الحكم ومؤسسات الدولة، وأن السخط من قبل البعثيين وبعض القوى السياسية العراقية جراء تصاعد النفوذ «الشيعي الجديد» يُمكن استثماره.
يستوجب أي انقلاب على الطرف الخارج تبرير أعماله وخروجه، وفي حالة تنظيم «داعش»، كان بحاجة إلى تبرير قتاله ضد تنظيم القاعدة، أو أولئك المنتمين إلى الحركات الجهادية بشكل عام. إن دراسة مسار دوائر التكفير قدمت صورة وافية حول بداية مسألة ما يسمى الإعذار بالجهل لدى «داعش». ومن خلال استعراض الجدل الفقهي «الداعشي» حول المسألة، يتبين للقارئ أنَّ «داعش» احتاجت لتقديم حجج فقهية لمواجهة مسألة جديدة وهي: تكفير وقتال الجهاديين، فصار قتال المنافسين الجهاديين أولى من قتال المكفرين الآخرين!
ولتأصيل دوائر التفكير كانت العودة إلى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؛ حيث نشط ما عُرف بتنظيم «الناجون من النار» الذي يُعد من أكثر تنظيمات تلك المرحلة تطرّفاً وعُنفاً وخطورة. وهو صاحب نظريات تكفر الأفراد والمجتمع والجماعات والدولة، بدءاً من الانقلاب على المتدينين غير الموالين له. انضوت بعض قيادات هذا التنظيم البائد في تنظيمات إرهابية جديدة ومن ضمنها تنظيم «داعش»، كما تبرهن بعض الشهادات التي حاول الكتاب تسليط الضوء عليها.
إن ممارسات «داعش» ليست جديدة أو طارئة على الممارسات الجهادية، ولكنها طارئة على الوعي الراهن للمشاهد. فبالعودة إلى الجزائر في تسعينيات القرن العشرين، نجد أن الجماعة الإسلامية المسلحة كانت تمارس العنف بالدموية والوحشية نفسها التي نشهدها مع «داعش». والفرق -كما يبين الكتاب- هو غياب الوسيلة الإعلامية، فلقد أظهر انتشار الفضائيات العربية وتوسع «الميديا الجديدة» والاهتمام العالمي بالظاهرة «الداعشية» أن هذا التنظيم هو الأشد عنفاً في تاريخ الحركات الإسلامية الجهادية، لكن الرجوع إلى أرشيف «العنف الجهادي»، يبرهن على أن مشهدية العنف المتطرف متأصلة وعميقة الجذور وتتخطى تاريخياً جهاديي «داعش».
جاء انتشار «داعش» خارج العراق وسوريا لأسباب سياسية، ولا علاقة له بالانتماءات العقائدية. إن مقارنة أفكار هذا التنظيم بالتنظيمات الجهادية في غرب أفريقيا تمنحنا تصوراً أوسع. سعى الكتاب إلى رصد نشوء «القاعدة» في غرب أفريقيا، مركزاً على التحوّلات الجهادية الأخيرة التي أتت في صالح «داعش»، فالموارد المتنامية التي يملكها التنظيم ساعدته على تسريع انتشاره، وزادت من الانشقاقات داخل التنظيمات المنافسة.
فالانتشار لم يكن نتيجة توافق عقائدي من نوع ما، بقدر ما كان بسبب التمويل الذي يوفره تنظيم «داعش» في العراق والشام لمن يخرج على القاعدة ويُعلن الولاء له. كل ذلك يصب في النظرية التي تؤكد أنَّ تنظيم «داعش» ما هو إلا نتيجة انقلاب داخلي في قلب تنظيم القاعدة، وليس ظاهرة جديدة كما يرى بعض المتخصصين والمعنيين في الحركات الإسلامية والجهادية.
حاول الكتاب تقديم شهادات من داخل التنظيمات الجهادية، دارساً المؤثرات الفكرية والعقائدية التي أورثتها التنظيمات السابقة لــــ«داعش» وذلك بهدف فهم «شيفرة داعش» التي تمثل خطراً غير مفهوم المعالم والحدود للكثيرين. سيواصل المركز إصدار «سلسلة فكر داعش» التي تركّز على الجانب الفكري، لسد النقص في المكتبة العربية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل ماهر فرغلي، الذي نسّق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهوده وفريق العمل.
رئيس التحرير
مارس (آذار) 2017
شاهد فهرس الكتاب