داعش وتطرّف الضواحي
رشا العقيدي*
تتناول غالبية الدراسات المعنية بداعش الجانب الأيديولوجي من فكر التنظيم والبيئة السياسية للمناطق التي امتدّ فيها التنظيم، فنقرأ عن “طائفية الحكومة المركزية في العراق” والتي أسهمت في خلق تيار سنّي متطرّف كنوع من ردة الفعل. نقرأ أيضاً عن الجانب التكفيري الذي يعتمد على أصول دينية وسلفية، فتارة تحمّل “الوهابية” مسؤولية انتشار التطرّف، وتارة أخرى يوضع داعش والخلافة ضمن الإطار المفاهيمي للإخوان المسلمين والإسلام الثوري. إنّ تنظيم داعش المعقد والمتعدد الطبقات لا تفسّره نظرية واحدة ولا توجّه واحد، وإنّ ما قيل سلفاً يمثل جانباً حقيقياً من جوانبه التي تنكشف باستمرار.
من الجوانب التي تمّ إهمالها بشكل كبير في التحقيقات والدراسات الجانب الاجتماعي والفرق بين الريف والمدينة. على الرغم من أنّه لم يخف على المراقبين العدد المتزايد من أبناء الريف الذين انتموا إلى التنظيم، فإنّ الدوافع التي تذكرها الدراسات لا تقدّم التبرير الكافي لتمرد القرى على الدولة. إنّ الفروقات الطبقية والاقتصادية بين الريف والمدينة، كان لها دور كبير في دفع سكّان الأرياف إلى فقدان شعورهم بالانتماء إلى الوطن، والبحث عن لقمة العيش والديمومة منذ منتصف العقد التاسع من القرن الماضي، وقد تحوّل هذا التهميش والإهمال إلى سخط اجتماعي استغلته التنظيمات المتطرفّة بذكاء كبير. هناك أمثلة عديدة في الغرب “الديمقراطي” توازي السياق الشرقي أيضاً، آخرها إعادة إحياء الرموز اليمينية في المناطق الجنوبية والريفية في الولايات المتحدة.
منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عانى القطاع الزراعي في القرى والأرياف من الصعوبات. كانت الحكومة توفّر الدعم المالي للفلاحين وتزودهم بغالبية احتياجاتهم لضمان محصول زراعي وفير، ولكن تضاءل هذا الدعم مع استمرار الحرب الطاحنة مع إيران وانهماك الميزانية العراقية بتكاليفها. الضرر الاقتصادي والاجتماعي الآخر للأرياف بسبب الحرب كان تجنيد مئات الآلاف من شباب القرى للحرب. لم تتعافَ القرى من انعكاسات الحرب، ولم تفلح الحكومة العراقية في تعويض سكانها عن خسائرهم في الأموال والأرواح. ما كان أمام عدد كبير من سكّان الأرياف إلّا الانتقال إلى المدن الحضرية، حيث واجهتهم تحديات اجتماعية في التأقلم بسبب اختلاف العادات والتقاليد، فلجؤوا إلى العزلة عن الحياة المدنية في العواصم، والحفاظ على أساليب عيشهم التي كانت تقابل بالرفض وأحياناً بالازدراء. تولّد لدى نسبة منهم شعور بالاستياء تجاه سكّان المدن، الأمر الذي أضرّ بالنسيج الاجتماعي للبلد.
أمّا من بقي من الفلاحين، فقد عانوا من الإهمال والتقصير الحكومي، إلى جانب الظروف البيئية القاسية التي تفاقم تأثيرها مع الحصار الاقتصادي، الذي فرض على العراق بعد غزو صدام للكويت. أصبحت شبكات الري وتنقية المياه رديئة الأداء مع انعدام الصيانة، وتحوّل الريف العراقي في محافظة نينوى والمناطق الشمالية لمحافظتي صلاح الدين والأنبار إلى أراضٍ قاحلة شبه خاوية من الإنتاج الزراعي.
بحلول عام 2003، عانت هذه المناطق من صعوبة إبقاء ما يمكن من المحاصيل الزراعية لسد رمق العيش. ومع الغزو الأمريكي وتفكيك النظام الحاكم برمتهِ والانفلات الأمني الذي رافق ذلك، وجد المتطرفون في الريف القاحل أرضاً خصبة للتجنيد. ما بين الدعم المالي والوعود بالمرتبات والتحريض الطائفي والطبقي، كان خطاب المتطرفين مغرياً.
تشير الدراسات والمقالات إلى أنّ دوافع الانتماء للتنظيمات الإرهابية تختلف باختلاف البلد، وأنّ الأيديولويجة ليست شرطاً أساسياً. في الريف العراقي، كان الدافع الأساسي بالنسبة لعدد غير قليل من السكّان للانضمام إلى التنظيمات اقتصادياً واجتماعياً، ونجحت هذه التنظيمات في إضافة عنصر “الدين” إلى مجموعة المظالم المشروعة لهذه الطبقة. من الأساليب التي اتبعتها شبكات التجنيد في مناطق الريف “السنية”، نشر إشاعات حول قيام الحكومة المركزية بتزويد الريف “الشيعي” بكل ما يحتاجه، بينما تتعمد تأخير وعرقلة إيصال المساعدات والدعم إلى غرب العراق ونينوى وصلاح الدين.
بعد استعادة العراق جميع الأراضي التي كانت تحت سيطرة الدولة الإسلامية لمدة ثلاث سنوات، تلوح مشكلة جديدة في الأفق قد تكون الحاضنة القادمة للتطرّف، وهي مخيمات النازحين واللاجئين التي يملؤها أهالي القرى والأرياف.
يتوجّه سكّان المنطقة الحضرية (موصل المدينة على سبيل المثال) إلى التمدّن ورفض أفكار التشدد الديني والطائفي، بينما تتوسع فجوة الفروقات مع الأطراف أكثر بعد دمار معظم القرى. ويلاحظ المراقبون وزائرو مخيمات النازحين أنّ أهالي القرى والريف يشيدون بالخلافة وتنظيمها للحياة، بينما يعبرون عن استيائهم من الفوضى التي تديرها الحكومة. ومع استمرار الأزمة المالية في العراق والتكاليف الباهظة للحرب ومرحلة إعادة الإعمار، قد تصبح هذه المخيمات جزءاً من الواقع العراقي الجديد، ومنطقة خصبة أخرى لنشر التطرّف والطائفية ورفض الدولة، ما لمْ تتنبّه الجهات المحلية الرسمية لهذه القنبلة الموقوتة.
باحثة ومترجمة في مركز المسبار للدراسات والبحوث.*