تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه المعنون «رؤى جزائرية في التعامل مع ذاكرة الإرهاب (2002-2022): التعافي – التدين – الفنون» (الكتاب التاسع والثمانون بعد المئة، سبتمبر (أيلول) 2022) المحاولات والمبادرات والممارسات التي تبنتها الجزائر، لإدارة تداعيات العشرية الدموية (1992-2002) وأثرها على الذاكرة الجمعية الجزائرية، وكيفية التعاطي مع تبعات الإرهاب على المستويات القانونية والثقافية والتعليمية والنفسية، ويكثف تسليط الضوء على المحاولات المجتمعية والحكومية المشتركة لاستيعاب الصدمة، وتجاوزها عبر مساومات وتفاوضات محددة.
وثّق الكتاب خلفية العنف الإسلاموي الذي سبق العشرية الدموية، وغطى انفجاره في سنوات الحرب الأهلية، فاحتوى على مسرد لأبرز أحداثها المؤلمة. حاولت فاتحة الدراسات التي قدمها الأكاديمي والباحث الجزائري إسماعيل لاطرش، تمييز ردّ فعل الدولة الردعي والمباشر بعد 1992، قبل أن تتبنى استراتيجية المصالحة والحوار والعفو، وتتويج مبادرات السلم ومعالجة الذاكرة، بقوانين ومبادرات “قانون الرحمة” لسنة 1995 و”قانون الوئام المدني” لسنة 1999 و”ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” لسنة 2005، مما أدى -حسب رواية الدراسة- إلى استسلام المتطرفين والنزول من الجبال والمعاقل. ارتبطت هذه المبادرات بمشروعية النظام الجزائري الداخلية والخارجية، فتمكنت من تحقيق تسويات تصالحية، خفّفت من منسوب العنف، قبل أن ينطلق مرة أخرى تحت ستار “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”؛ الذي حاول اغتيال الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سنة 2007، ونظم اعتداء إرهابياً على القاعدة النفطية “تقنتورين” سنة 2013.
تطرق أستاذ علوم التربية والباحث والأكاديمي الجزائري عبدالله لبوز، إلى سياسة الذاكرة الجمعية الجزائرية في التعاطي مع العشرية الدموية، فناقش تعامل الجهات الرسمية مع هذا الملف الحيوي، وركز على غياب مسارات الشفاء عن المناهج الدراسية وتغييب “المأساة الوطنية” عن برامجها بحجة تغليب المصلحة الوطنية، داعًيا إلى تأسيس قيام مادة التاريخ المدرسية “بدورها في استرجاع الذاكرة، وتحويل إرث الحرب إلى دعامة أساسية لبناء مجتمع جزائري أكثر تماسكاً وتكاملاً”، مستعرضًا الظاهرة ومتوقفًا عند التسوية الضمنية بين الضحيّة والإرهابي، ملمحًا إلى مقولات البعض التي نصّت على أنّ “أولئك الذين حاربوا الإرهاب قتلوا، وأن ذكرياتهم تم تهميشها واستبعادها”، مشيرًا إلى أنّ السلطة الجزائرية التي تحدثت باسم الضحية، تبنّت نهجًا تصالحيًا، وسِم بـ”فقدان الذاكرة” وهو يحتاج إلى رؤية جديدة للتصالح ومواجهة الماضي الأليم.
وقريبًا من هذه الإجراءات اهتمت دراسة أستاذ العلوم السياسية، الباحث عبداللطيف بوروبي بالسياسة القطاعية الأمنية العامة في الجزائر، فركّزت على ملف سجناء قضايا الإرهاب، وتدابير تجاوز تداعيات العشرية الدموية. بعد تقدمة عن “المقاربة البراغماتية” التي ولجت في تنظيرات التعامل مع الظاهرة الإرهابية بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تناول الباحث الترتيبات الأمنية الجديدة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وأثرها على الجزائر عبر تطوير منظومة القوانين الوقائية، ودورها في تجربة التطرف في السجون.
أما استراتيجية مكافحة الجزائر للإرهاب، بعد العشرية الدموية، فتناولتها الباحثة والأكاديمية الجزائرية عبير شليغم، التي التقطت دراستها بذكاء، بداية الظاهرة الإرهابية في الجزائر، فأرّخت وجودها قبل مسار الانتخابات الشهير عام 1991، إذ أشارت إلى انطلاق العمليات الإرهابية مع “الحركة الإسلامية المسلحة”، التي أسسها مصطفى بويعلي سنة 1982. ثم مرت الدراسة على العنف بعد إيقاف المسار الانتخابي، وانفلات عنف الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والجماعات الأخرى، وصولاً إلى الإرهاب المنبثق عن تنظيمات مثل القاعدة وداعش العابرة للأوطان. قدّمت الدراسة السياسات التي اتّبعتها الجزائر بهدف القضاء على الإرهاب ومخلفاته، عبر سياسة المواجهة الردعية، ثم سياسة ومسار السلم والمصالحة الوطنية، التي تخلّقت في عهد الرئيس بوتفليقة، ثم برز في مشروع اليد الممدودة ولم الشمل الذي جاء به الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون عام 2022.
حاولت التدابير القانونية، والمبادرات التشريعية، التوجه بعلاج جذور المشكلة، سواء في ضبط الخطاب الديني المستورد من الخارج أو تدبير التنوع، بما يقمع “تفشي الكراهية” ويحارب الخطاب العنصري والجهوي. لذا تناول الأكاديمي والباحث الجزائري في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بوحنية قوي، التدابير القانونية الإجرائية لمكافحة الراديكالية، مشيرًا إلى خطوات ورِثت من عهد العشرية الدموية وتسوياتها، والمتمثلة في تشكيل قوى مكافحة الإرهاب، وإجراءات المناصحة وتشجيع المراجعات لفتح مسلك لترك التائبين أسلحتهم والإفادة من العفو الأمني. شرحت الدراسة إجراءات العدالة الانتقالية، بما فيها خطوات الإدماج وإعادة التأهيل، وخُتمت بإبراز التحدّيات الأمنية الإقليمية، وتدابير مواجهة خطاب الكراهية، خصوصًا بعد السابقة في قرية ايمزيزو، التي شهدت حادثة تم تأويلها على أنها سابقة عنصرية، بالإضافة إلى تصاعد التباينات الجهوية، والطائفية.
ولئن غابت المأساة الوطنية، وسردياتها عن المناهج التعليمية الجزائرية، فإنّ السُبل إلى تجاوزها لم تغب، فرصدت دراسة التربوي الجزائري عبدالله صوالح، مساعي تعزيز السلم في المنظومة التربوية، بداية من الوثيقة المرجعية، التي ألحّت على تكوين “ضمير المواطنة“، والتعريف بقيم احترام الآخر والتضامن والتعاون وروح التسامح، والقيم الوجدانية والأخلاقية، والمبادرات التي أفضت إلى دعوات لإصلاح المنظومة التربوية بعد العشرية الدموية. حلل الباحث المناهج التعليمية في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وقيَّم قدرة المدرسين على استلهام ثوابت المجتمع الجزائري لتعزيز السلم في التعليم قبل الجامعي.
أما المستوى الجامعي، فانصرفت دراسة الأكاديمي والأستاذ الجامعي عبدالرحيم بوقطه، للنظر في إعادة بناء مناهج العلوم الشَّرعيَّة في الجامعات الجزائريَّة بعد العشريَّة الدَّمويَّة. بدأت الدراسة بتمهيد تاريخي، لتغلغل الفكر الإخواني في الجامعات الجزائرية؛ والتيارات المنبثقة منه، التي تقاسمت تبني طروحات سيد قطب أيديولوجيًا، وأدبيات سعيد حوى تنظيميًا، وتأثيرات مالك بن نبي، وثورة الخميني حركيًا، فسيطرت على العمل الطلابي، في ظل صراعات دينية أصلها عرقي، إذ “شكلت الجامعة الجزائرية فضاءً خصبًا للصراعات الفكرية بين الإسلاميين وأصحاب اليسار (البربر والشيوعيون الجزائريون) حول المشاريع والمواثيق المتخذة من طرف السلطة”. نتج عن ذلك تحول استراتيجية الإسلاميين إلى الدخول في السياسة والتشكيك في شرعية الدولة “الاشتراكية”، وساهم صراعهم مع اليسار، في تبني السلطات لكتلة إسلاموية غايتها مقاومة مراكز القوى اليسارية، أفاد منها تيار مالك بن نبي، علمًا أن السلطة –كما يشير الباحث- استعانت عام 1981 برجال دين من خارج الجزائر مثل محمد الغزالي. تناولت الدراسة انعكاسات هذا الواقع في سنوات العشرية الدموية، قبل أن تنطلق إلى توصيف مناهج العلوم الشرعية في جامعة “الأمير عبدالقادر للعلوم الإنسانية” التي اتخذتها نموذجًا، فرأت فيها تقليدًا لمدارس خارج الجزائر، وبيّنت أثر التجاذبات الدعوية والسياسية في رسم مناهج تدريس العلوم الشرعية بالجامعة الجزائرية، وصولاً إلى هيكلة المناهج بعد المأساة الوطنية بما يساهم في تأمين الأمن الروحي الجزائري.
واستكمالاً لتقييم مستويات الأمن الروحي، درس أستاذ التعليم العالي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر عبدالقادر عبد العالي، التدابير الدينية، للقضاء على التطرف بعد العشرية الدموية. ركّزت الدراسة على إصلاحات مجال الشؤون الدينية، الذي حرصت الدولة على ضبطه بحظر التبرع للأعمال الخيرية والجمعيات الدينية خارج المساجد المعتمدة، فجعلت جمع التبرعات وفق رخص ممنوحة من قبل مديرية الشؤون الدينية، لاستعادة الموروث الروحي الجزائري، بإعادة الاعتبار للمدارس القرآنية والزوايا المختصة في تحفيظ القرآن وتلقين متون المذهب المالكي، وتكوين روابط علماء ودعاة لتعزيز السلم، وسط دعوات لتشييد المؤسسة الدينية في الجزائر.
كان دور المؤسسة الدينية في المصالحات الوطنية الجزائرية، محل نظر أستاذة الفلسفة في جامعة معسكر في الجزائر عقون مليكة، وقد سعت للإجابة عن أسئلة رئيسة: إلى أيّ مدى تمكنت المؤسسة الدينية نظرًا إلى تاريخها، من الإسهام في المصالحة الوطنية؟ كيف يمكنها التأثير في المجال الاجتماعي مقابل المرجعيّات الأخرى؟ وهل يمكن للسلطة ادّعاء الهيمنة على المجال الديني مستقبلًا؟ أشارت الباحثة إلى أن التيارات الإسلاموية عملت على تهميش ومحاصرة دور المؤسسات الدينية الجزائرية التقليدية، وصنعت خطابًا حركيًا موازيًا، يقوّض جهود الدولة والإسلام التقليدي، الذي اضّطرت السلطة للتحالف معه لهزيمة التطرف. دعت الدراسة إلى أهمية اعتماد المدونات القانونية الجديدة لدرء الكراهية الدينية وازدراء الأديان والتكفير، على تنظيمات تقليدية أخلاقية، ملزمة باحترام التعددية الدينية. وهو الإطار نفسه الذي بحثت تفصيله دراسة للباحث الجزائري عبدالكريم عشور، الذي تطرّق إلى استغلال الراديكاليين في الجزائر للمؤسسات المسجدية، قبل العشرية الدموية، ملاحظًا أن عودة الزوايا الصوفية والجمعيات الثقافية، المُدعّم بقانون الجمعيات المُعدّل الصادر سنة 2012، أدت إلى محاصرة بيئة الخطاب الراديكالي، وترافق هذا الجهد مع برامج تكوين الأئمة ومُدرّسي القرآن.
ثقافيًا، تناول أستاذ علم الاجتماع فوزي بن دريدي، المبادرات الثقافية لمكافحة الراديكالية. بدأت دراسته برصد وافٍ للمثقفين الجزائريين الذين اغتالتهم أيادي الغدر الإرهابية أثناء العشرية الدموية، من بين هؤلاء: بختي بن عودة (1961-1996)، والطاهر جاووت (1954-1993)، وعبدالقادر علولة (1939-1994)، وعز الدين مجوبي (1945-1995)، ومحمد بوخبزة، والشاب حسني (1968-1994)، ومعطوب الوناس (1956-1998)، وغيرهم، مما أدى لتهجير المثقفين إلى أوروبا. لذا كان إحياء الفعاليات الثقافية هو أول الوسائل لإعادة الاتّزان، وتعويض الفقد الثقافي، بمبادرات تدعمها الدولة، فرصد الباحث الموازنات المالية الداعمة للثقافة بين عامي (2002-2022).
كشفت دراسة أستاذ التعليم العالي في علوم الإعلام والاتصال زكرياء بن صغير عن دور الدراما التلفزيونية والسينمائية الجزائرية في مكافحة التّطرف وعلاج رواسب المأساة الوطنية بين عامي (2002-2022)، فعرّفت بأهم القيم الإيجابية والسلبية التي تمت معالجتها خلال المشاهد الدرامية لمجموعة من الأفلام والمسلسلات، ولاحظت غياب استراتيجية إعلامية يمكن الاعتماد عليها في ترشيد السيناريوهات والمشاهد الدرامية، التي جعلت جل الأفلام والمسلسلات، مبادرات فردية منعزلة عن السياق العام للسياسة الإعلامية الرسمية. كل ذلك لم يمنع وجود عدد من الأعمال الدرامية التي تركت تأثيرًا إيجابيًا في تعزيز المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والوطنية، مثل: “أولاد الحلال”، و”عين الجنة”، و”أنين الأرض”، و”دقيوس ومقيوس”، و”قلوب تحت الرماد”، و”معاناة امرأة”، و”اللاعب”، وغيرها من أعمال ساهمت في تعزيز المسؤولية الاجتماعية التي تقوم على البعد الوظيفي، والبعد الأخلاقي، والبعد القيمي المهني، والتي تؤدي إلى نبذ التطرف والتعصب. وركّز البحث على الأعمال الدرامية التي تناولت المأساة الجزائرية الوطنية، مثل: فيلم رشيدة، وفيلم المنارة، وفيلم المحنة، وفيلم التائب، وفيلم عطور الجزائر، وأبواب الشمس.. الجزائر إلى الأبد.
قدّم الباحث المغربي في الحركات الإسلامية منتصر حمادة، دراسة العدد، حول تأثير أعمال أحمد بن مصطفى العلاوي الصوفيَّة في مبادرات السلم الجزائرية، التي تمخّض عنها تبني مبادرة صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ خلال ديسمبر (كانون الأول) 2017، في سياق إعلان يوم 16 مايو (أيار) من كل سنة “يومًا عالميًا للعيش معًا بسلام”.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخص بالتقدير الزميل عبدالله لبوز، الذي نسق العدد، والشكر موصول للزميلة ريتا فرج عضو هيئة التحرير، التي أشرفت على التنسيق، ولزملائها الباحثين، ونأمل أن يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي