تعليق على مقال “سياسة قطر الخارجية: النخبة في مواجهة الجغرافيا” لمروان قبلان، مدير وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
يهدف مقال قبلان إلى تقديم تفسير عقلاني للسياسة الخارجيّة القطريّة، وقد وجد أنَّ أغلب باحثي العلاقات الدوليّة لم يستطيعوا تقديم تفسيرٍ معقول لتلك السياسة، فسعى من خلال مقاله إلى إقناع القارئ بأنَّ قطر حالة استثنائية، ولأجل ذلك عجز الأكاديميّون والباحثون والمحلّلون عن إدراك معقوليّتها.
يقول قبلان: “يعترف عدد من الأكاديميين المهتمين بدراسة قطر وسياساتها الخارجية، بصعوبة تفسير خياراتها الدبلوماسية في إطار النظريات المركزية في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، في حين يذهب آخرون إلى القول بأن هذه السياسة تتحدى كل تفسير، ودفع هذا الارتباك البعض إلى قلب الصورة من خلال القول إن سياسة قطر الخارجية هي التي تفتقر إلى التماسك، ما يجعل فهمها صعباً. بينما رأى البعض الآخر أن قطر لا تقوم بأكثر من استخدام قدراتها المالية الكبيرة، من أجل الحفاظ على أمنها، وانتزاع اعتراف دولي وإقليمي بدورها”.
لا يحتاج قارئ المقال إلى أنْ يكون خبيراً في نظريّات العلاقات الدولية ليدرك أنَّ من يقلب الصورة هو قبلان نفسه، فالنظريّات السائدة للعلاقات الدوليّة تعتبر أنَّ بعض سياسات قطر الخارجية غير عقلانيّة، ولكنَّه يقلب الصورة ليقول بشكل جازم إنَّها لا يُمكن أنْ تكون إلا عقلانيّة، وإذا كان ثمّة غموض وقصور في فهم تلك العقلانية، فهذا لأنَّ قطر تحتاج إلى نظريّة خاصة بها؛ وبلا شك فإنَّه لا توجد أي نظريّة يُمكنها تفسير كل شيء، ولا نظريّة يُمكنها تقديم توصيات لكلِّ حالة، ولكن أيضاً لا يُمكن تسمية تبرير سياسة خارجية لدولة ما بأنَّها نظريّة.
لقد لخّص قبلان سياسة قطر الخارجية في أنَّها “استراتيجيات النخبة القطرية في مواجهة البنية”، وقدّم تبريرات مُختلفة لهذا الاستراتيجية، بتوظيف مصطلحات أكاديمية، ليبدو وكأنَّه يطرح نظريّة جديدة تناسب حالة الدول الصغيرة، ولا جديد في كون بعض الدول، صغيرة كانت أم كبيرة، تواجه بنية النظام الإقليمي أو الدّولي، بل هذا في لُبِّ ما تدرسه نظريّات العلاقات الدوليّة، فأهمَّ النظريّات تفترض أنَّ الدولة التي تُحسن فهم البنية الدولية، وتحسن اتخاذ القرارات المناسبة في هذه البنية، ستنجح، في حين ستفشل الدول التي تتخذ قرارات واستراتيجيات خاطئة.
إنَّ السياسة الخارجية، وفق نظريّات العلاقات الدولية، ما هي إلا -في كثير من تفاصيلها- قصّة تعامل صاحب القرار مع البُنية الدوليّة، والسياسة الخارجية الناجحة هي التي تستطيع تحقيق نجاحات لصالح الدولة، وليست السياسة التي تواجِه وتتحدَّى؛ واستراتيجية قطر في مواجهة البُنية الدولية، هي تحديداً ما جعل الكثير غير قادرٍ على فِهم وجه العقل في بعض السياسات الخارجية القطرية، لأنَّ مواجهة البُنية أشبه بنطح الجبال وهو أمرٌ يصعب وضعه في الإطار العقلي.
وإذا قبلنا وجود استثناء قطري فلن نجده في اختيارات قطر، وإنَّما في نتائج تلك الاختيارات؛ بمعنى آخر كان على قبلان أنْ يُبيّن لنا كيف يكون تحدّي البنية ناجحاً، لأنَّه حتى الآن يبدو للجميع أنَّه فاشل.
قبلان يقول بالفعل إنَّ الاستراتيجية القطرية “قد حدّت كثيرًا من تأثير القيود والعوامل البنيوية”، أي أنها نجحت في تحدي البنية الدولية، وهذا لو صح سيكون بالفعل استثناء، ولكنّه لا يقدم الأدلة على هذا النجاح، إنَّ تحدي البنية الدولية يؤدي إما إلى انهيار الدولة، أو إلى رفع كُلفة البقاء للدولة، وفي الحالة القطريّة فإنَّ من يدّعي لامعقولية السياسة الخارجية القطرية يستند إلى رفع كُلفة البقاء على قطر، ومن يريد أنْ يُثبت معقولية الاستراتيجية القطريّة في تحدي البنية الدولية، فإنَّ عليه في المقابل أنْ يُثبت أنَّ كُلفة تحدي البنية الدولية أقل من كلفة الانسجام معها، وهذا ما لم يقم به الكاتب.
إن ما قام به قبلان هو استعراض المحاولات القطريّة لتحدّي النظام الإقليمي والتي لخصها بقوله: “تبنت [أي قطر] إستراتيجية هجومية في محاولة لبناء نظام إقليمي جديد، تتبوأ فيه مكانًا قياديًا، ويتعارض مع إرادة القوى الكبرى الأخرى في الإقليم ومصالحها”.، ولكي يمكن له القول بأنَّ قطر حالة استثنائية كان يجب أنْ يُقيّم نتائج هذه الاستراتيجية الهجومية، وحتى الآن فإنَّ أبرز نتيجتين هما استجلاب القوّات التركية، ومقاطعة أو حصار الدول المحيطة بقطر، فكان عليه بالتالي أنْ يقيّم كُلفة هذا وذاك، مُقارنة بالخيارات الأخرى التي كانت تملكها قطر.
أيضاً كان عليه أنْ يقارن بين الاستراتيجية الهجومية المضادة للبنية الدولية والإقليمية، التي اتخذتها قطر بعيد ما سمي بالربيع العربي، وبين الاستراتيجيات القطرية قبل ذلك، والتي لم تكن مضادة للبنية، وأيضاً كان يُمكن فهمها في إطار عقلي، وخصوصاً استجلابها قاعدة أمريكية، ولعبها دور المصلح؛ فاستجلاب القاعدة الأمريكية أمر مفهوم وفق منطق توازن القوى، والانسجام مع البنية الدولية، ولِعْب دور المُصلح الدولي مفهوم، وفق منطق البحث عن دور في مجال القوة الناعمة، في غياب خيارات البحث عن دور في مجال القوة الماديّة؛ تلك المقارنات كانت ستبيّن ما إذا كانت قطر بالفعل استثنائية أم لا، وستبين أيضاً معقولية القرار القطري من عدمه، وأما الافتراض المُسبق بأنَّ كل ما تقوم به قطر هو عقلاني، فهذا مجاله الدعاية “البروباغاندا”، وليس البحث الأكاديمي.
ولذلك -في رأيي- فإنَّ المفيد في المقال، إذا حذفنا الجزء النظري منه، ليس إلا سردُ سلوك قطر، المخالفِ لتوصيات نظريات العلاقات الدولية.
لقد سعى قبلان في مقاله إلى تبجيل الاستراتيجية الخارجية القطرية، وتقديمها وكأنّها نضال على المستوى الدولي، بل وأنَّها استعصت على الفهم لكونها كذلك. يقول: “لقد تحدت قطر بهذا السلوك أكثر فرضيات نظريات العلاقات الدولية والسياسة الخارجية قبولاً، وعلى رأسها إذعان القوى الصغرى للقوى الأكبر مقابل الحماية، أو الدخول في تحالفات تساعدها على البقاء، والحفاظ على استقلالها.” يقولها وكأنَّ قطر بهذا تخدم مصالحها القومية عندما تتحدى البنية الدولية، وفي المقابل نجد أغلب الخبراء يقولون إنّ سياسات قطر هي إما سياسات استنزاف ذاتي، أو سياسات انتحار، ولقطر الحقُّ في حماية أمنها، وفي تحقيق حضورٍ دولي لها، ولكَّنها لن تنجح في ذلك بتحدي البُنية الدوليّة.
كما سعى قبلان لعرض الاستراتيجية، وكأنّها تمثّل حالة فريدة تستحق أنْ تُشكّل منطلقاً لنظريّة، وفي حين أشار إلى العديد من المصادر عن نظريّات العلاقات الدوليّة ودراسات حول السياسة الخارجية القطرية، إلا أنّه لم يشر إلى أي دراسة معتبرة اهتمت بقطر من حيث كونها استثناءً.
إنَّ قطر لم تتحدّ منظّري العلاقات الدوليّة -كما يدّعي قبلان- ولم تمثّل مُشكلة نظرية بالنسبة لهم، لأنَّهم دائماً يواجهون دولاً تحاول أنْ تتحدى البنية الدولية، أو دولاً لا تفهم متطلبات البقاء فيها.
كنّا سنستفيد من مقال قبلان لو أنَّه تجنّب تبجيل الاستراتيجية القطرية المتحدية للبنية الدولية، وسعى بدلاً من ذلك إلى الإجابة على أسئلة من نحو: ما هي مآلات استراتيجية تحدّي البنية دولياً؟ هل هي استراتيجية مستدامة؟ ما كُلفتها على الدولة القطرية؟ وما هي الخيارات الأخرى أمام قطر؟
عبدالله حميد الدين*
كاتب وباحث سعودي. حاصل على دكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة كنغز كولدج (لندن – بريطانيا)، وعلى درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية. ناشط في حقوق الإنسان وحوار الأديان والحضارات والإصلاح. يكتب مقالاً أسبوعياً في صحيفة «الحياة». له عدد من الإصدارات والبحوث منها: الكينونة المتناغمة. العنف وبيئة التسويغ الديني. الوسائط الاستراتيجية للتنمية.