الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 2015
قراءة: منير أديب[1]*
قال أسامة بن لادن في أكتوبر (تشرين الأول) 2001 في حوار أجراه معه تيسير علوني: إن فرضية صراع الثقافات صحيحة بلا شك، فالقرآن يرى وجود هذا الصراع، وفكرة السلام العالمي ليست أكثر من أسطورة غربية. وتلك الرؤية لوضع العالم الراهن تجمعه بكل من بات روبرتسون ( Pat Robertson ) وجيري فالويل ( Jerr Falwell ) وغيرهما من أعضاء النظام الأصولي اللاهوتي المحافظ في الولايات المتحدة الأميركية وكذلك مُنظري السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية.
بهذه المقدمة افتتح الفيلسوف واللاهوتي الألماني هاينريش فيلهلم شيفر (Heinrich Wilhelm Schäfer) كتابه “صراع الأصوليات.. التطرف المسيحي- التطرف الإسلامي والحداثة الأوروبية“. تركز فكرة الكتاب الأساسية على الصراع الدائر بين الأصوليات والحداثة، سواء كانت ممثلة في التطرف المسيحي أو التطرف الإسلامي؛ ووصل إلى نتيجة فحواها أن هذا الصراع سوف يظل موجودًا طالما كان هذا التطرف موجودًا، عارضًا صورة واقعية مقربة للأصولية التي تحكم العقل الإسلامي والمسيحي معًا، ومدى تفاعلها مع الحداثة التي رأى المؤلف أن أوروبا تمثلها.
قسم المؤلف كتابه إلى محاور خمسة بدأها بالمعطيات الفكرية التي تناول فيها مفاهيم الأصولية والحركات الدينية وأوجه الحداثة، بينما كان “في دار الإسلام” عنوان المحور الثاني الذي قسمه إلى حداثة الكفار بوصفها سلطة، وعقد مقارنة بين السلطة والإسلاموية، وقسم هياكل الصراع- الحداثة بوصفها خضوعًا مزدوجًا، ثم انتقل إلى المحور الثالث الذي أعطاه عنوان “أميركا أميركا”، ليعرض مقاربات تتعلق بالثورة الدينية المضادة، وانتقل إلى المحورين الرابع بعنوان “منطقة الصراع والإنذار” مقسمًا إياه إلى السلطة والعدالة- الموارد العالمية والبراء والسقوط- أنواع اللاهوت السياسي، والخامس بعنوان “أوروبا”، وقد عرض فيه الثورة والسياسة والدين عن الوضع الخاص لأوروبا والتكنوقراطية والديمقراتورية- أصول الحداثة والحرية والمساواة والأخوة- سياسة الهوية الأوروبية.
أولاً: الأصوليون وصراع الثقافات
يرى المؤلف أن الأصوليين يحتاجون إلى صراع بين الثقافات والأديان؛ لأنهم يحتاجون إلى فصل الحدود وترسيم خطوط المواجهة، وهذا هو السبب الذي جعل الكتابات الأصولية في الغرب منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين في أعقاب انهيار الشيوعية التي كانت موجودة فعليًا، يطغى عليها النظر إلى الإسلام على أنه بطبيعته عدو للمدنية الغربية، ومن هنا يرى الفكر الأصولي أن صراعات الثقافات اليوم تنسحب في المقام الأول على العلاقة بين الإسلام والمسيحية.
يذهب المؤلف إلى أن فرضية صراع الثقافات تطورت في العقد ونصف العقد الماضيين، منذ إعلانها حتى أصبحت نموذجًا فكريًا أو “بارادايم” قويًا يُحدد معالم السياسة العالمية، وكلما تعاطى الأصوليون الدينيون مع نموذج العالم هذا، رفعوا سقف تأثيرهم السياسي وزادوا من حدة تطرف ذلك النموذج، وإذا لم يكن هذا النموذج أصوليًا منذ البداية، فإنه يتحول على أقصى تقدير الآن إلى أداة في صراع الأصوليين على اختلاف مشاريعهم، بعضهم ضد بعض وفرض سيطرتهم داخل إطار ثقافاتهم المختلفة. لذا يستغل الأصوليون الحديث عن صراع الثقافات ليعطوا الانطباع بأن صراعهم هو صراع الجميع، وأنهم هم الممثلون الشرعيون للمدنيات التي يعيشون في كنفها.
يركز المؤلف على صراع الأصوليات الإسلامية في الولايات المتحدة الأميركية وموقف أوروبا الوسيط بينها، والانطباع بأنه لا يجد في الدول الإسلامية وفي الولايات المتحدة الأميركية أشخاصاً يتميزون بالفكر الليبرالي المتسامح، بل العكس هو الصحيح!
يقول المؤلف تحت عنوان “معطيات فكرية”: تُعتبر الحركات أصولية؛ إذا كانت تجعل القناعات الدينية مُطلقة، أيًا ما كان محتواها العقائدي، وتُستمد منها استراتيجية هيمنة اجتماعية تحاول إخضاع الحياة الخاصة والعامة لإملاءات قناعاتها الدينية، وإذا كان السياق لمثل تلك الاستراتيجية هو التسييس الجوهري لجميع ظروف الحياة في عمليات التحديث.
الحركات الدينية:
يعتبر المؤلف الأصولية الدينية نوعاً وطريقة خاصة لبناء الهويات والفعل الاجتماعي، ويمكن أن يحدث ذلك على مستوى فردي أو جمعي أو مؤسسي، وأكثر أشكال التنظيم شيوعًا في الحركات الاجتماعية، وهي شكل تقليدي في الحداثة الأوروبية وغيرها، وتختلف عن التبعية الإقطاعية أو الاتحاد القروي، كما كان شائعًا في حرب الفلاحين في الفترة الأخيرة من العصور الوسطى.
أوضح المؤلف أن الحركات الاجتماعية تعتبر من ناحية رد فعل على أزمات نظرية الحركات الاجتماعية الجديدة، ومن ناحية أخرى تتصرف بطريقة تتواءم مع الإمكانات والضغوط (الفرص والقيود) في نظرية تعبئة الموارد الأميركية. تعتمد الحركات الدينية على تعبئة أعضائها بدرجة كبيرة على التأويل ذي المغزى لظروف الحياة. وهذا ما يسري بالدرجة الأولى على مواقف الأزمات، ومن الأمور المساعدة على التعبئة بصفة خاصة “الحرمان النسبي”: أي خبرة أنه بالمقارنة بالأشخاص الآخرين، فإن الفرص والتوقعات المستقبلية الخاصة محجوبة، أو أن الانحدار الذي يتهدد البعض لا يمكن إيقافه. تعمل تلك التأويلات الدينية لمثل خبرات الحرمان تلك غالبًا على إبراز العامل الزمني، فتعمد إلى استخدام تصورات دينية للزمن -مثل نهاية العالم- منطقًا للتعبئة.
يلفت ناشطو الحركات الدينية عمومًا النظر إلى منطقهم العملي بداية عن طريق تسمية أزمة ما، ثم يحددون يوطوبيا دينية، أو بالأحرى وعداً، باعتبارها إجابة، وبعدها يقومون بتوصيف موقف الحركة بناء على هذه المقومات، ثم يحددون الأسباب الدينية أو غيرها، ويستقون من ذلك طريقة عملهم ويطورون من خلال العملية في مجملها هويات واستراتيجيات متسقة.
يذهب المؤلف إلى نتيجة في هذه المساحة مفادها تخصيص الأصوليات في تصعيد الصراعات وخصوصًا من خلال التسويق لها على أنها صراعات هوية. ولا نرى أمامنا سوى ذلك عندما يدعي البعض أن الصراعات في الشرق الأوسط وما يرتبط بها من إرهاب هي صراع ثقافات أو أديان.
يمكن بالتأكيد رفض مثل هذا الادعاء بوصفه ينطوي على تلاعب، أما إذا اعتبر أحدٌ أن هذا الادعاء صحيحًا، فإنه يُصبح في الحال هو نفسه مشاركًا بهويته الثقافية والدينية، ولا يستطيع وقتها إلا أن ينحاز إلى طرف، فأساس صراعات الهوية هو القناعات التي يعيشها أشخاص حقيقيون وليس (أو فقط في بعض الحالات الخاصة) مجرد الاستخدام الاحتكاري لمصطلحات دينية، يعرف الأصوليون جيدًا أن الأمر يدور في الأديان حول الهويات، وأن الهويات الدينية تتعلق بالكل.
يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها وجود حداثات متعددة في العالم، فالحداثة في أوروبا تختلف عن الحداثة في الولايات المتحدة الأميركية أو في أميركا اللاتينية أو الشرق الأوسط. فقد نشأت الحداثة في الولايات المتحدة الأميركية مع نشأة الدولة، أما في أميركا اللاتينية فقد جاءت الحداثة مع الانفصال عن أوروبا الكاثوليكية وفي معظم الدول الإسلامية مع الاستعمار الأوروبي، تبعًا لاختلاف عمليات تشكل الحداثات تختلف أيضًا الأصوليات.
يشير المؤلف إلى أن الأصوليين يعتبرون الصراعات في الشرق الأوسط، وما يرتبط بها من إرهاب هي صراع ثقافات أو أديان. يمكن بالتأكيد رفض مثل هذا الادعاء كونه ينطوي على تلاعب، أما إذا اعتبر أحدٌ أن هذا الادعاء صحيحًا، فإنه يُصبح في الحال هو نفسه مشاركًا بهويته الثقافية والدينية، ولا يستطيع وقتها إلا أن ينحاز إلى طرف. فأساس صراعات الهوية هو القناعات التي يعيشها أشخاص حقيقيون وليس (أو فقط في بعض الحالات الخاصة) مجرد الاستخدام الاحتكاري لمصطلحات دينية يعرف الأصوليون جيدًا أن الأمر يدور في الأديان حول الهويات، وأن الهويات الدينية تتعلق بالكل.
ثانياً: دار الإسلام والكفر والحداثة
ينتقل المؤلف من معطيات الأفكار إلى تفسير القول في ما طرحه تحت عنوان “في دار الإسلام”، فيعرف ذلك بأن الاستعمار الأوروبي يفرض الحداثة في الدول الإسلامية، وهذا على العكس مما حدث في أميركا اللاتينية، حيث ترتبط الحداثة بالتحرر من الاستعمار الإسباني، وبهذا تم إدخال فكرة الدولة القومية العلمانية في ثقافة قام فيها الدين دائمًا بدور في تنظيم الشؤون الاجتماعية والسياسية. مما أدى إلى نشوء وجه شرقي خاص للحداثة -غالبًا أنظمة ديكتاتورية- إلا أن التقابل بين الشرق والغرب ينطوي على التوتر بين النظام العلماني السياسي واليوطوبيا الدينية منذ البداية.
يفسر المؤلف ذلك بالقول: جاءت الحداثة إلى الثقافات الإسلامية في صورة الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وكانت ساعة ميلادها في الشرق الأوسط عام 1798 في المعركة التي دارت رحاها أمام الأهرامات، وارتبط اسمها في بادئ الأمر بنابليون ثم تطورت بتأثير بريطاني، كان في البداية تحت إدارة نواب الملوك الخديويين في القرن التاسع عشر، وبعد معركة التل الكبير عام 1882 أصبحت تحت السلطة البريطانية المباشرة.
رأى المسلمون في الهند أنفسهم في وضع مشابه بعد هزيمة القيصر المغولي في القرن الثامن عشر، حيث خضعوا بصورة متزايدة لتأثير الحملة البريطانية في الهند الشرقية، ثم خضعوا للسلطة البريطانية بصورة مباشرة بعد هزيمة انتفاضة الجنود عام 1857، وقد حدثت تطورات مشابهة في الهند وفي الشرق الأوسط في أثناء الصراع مع قوى الاستعمار.
ظهر في بداية القرن الماضي برنامج ديني إسلامي مُضاد، وكان أبو الأعلى المودودي من أكبر منظري الإسلام السياسي تأثيرًا، حيث نجح من خلال انشغاله بالتاريخ الإنساني والاجتماعي الأوروبي أن يُطور منشور الحداثة. واستطاع بهذا المنشور أن يعيد صياغة التراث الإسلامي، حيث أعاد الاجتهاد في فهم التراث في ضوء متطلبات الحداثة.
خرج أبو الأعلى المودودي -كما أشار المؤلف- بنموذج الدولة الإسلامية المنفتحة على الحوار، ونموذج الفرد المسلم الذي يتخذ الجماعة وجهة له، وقد اتّبعت الجماعة الإسلامية التي أسسها في باكستان هذا البرنامج في المقام الأول بالعمل السياسي في المجالات الديمقراطية، وفي بعض فترات تاريخها عن طريق المقاومة باستخدام العنف. يعتبر المودودي والجماعة بكل تأكيد إسلاميين مبرمجين، إلا أنهم قياسًا على مفهوم الأصولية الذي أوردناه ليسوا أصوليين، كان لفكر المودودي تأثيرٌ على حركة أكثر أهمية فيما يتعلق بقضية صراع الأصوليات هي الإخوان المسلمين في مصر.
أوضح المؤلف أن قيام حسن البنا عام 1928 بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في إطار العمال الموجودين في شركة قناة السويس، كان بمثابة رد فعل ديني على إلغاء قانون الخلافة وسيطرة قوى الاستعمار “العلمانية”.
يزعم الكاتب أن تحور جماعة الإخوان المسلمين، يشبه التطور الذي شهدته ثاني أكبر منظمة إسلامية في بدايتها، ألا وهي الجماعة الإسلامية في باكستان. إذ تعمل المنظمات في البداية على إيجاد الذات الدينية لمجموعة معينة من الناشطين، ثم تتفاعل مع الأوضاع الاجتماعية السيئة وتبدأ في تقديم خدمات اجتماعية وخيرية. وبعد ذلك تدعم بناء الشعب وتخرج على الملأ بمطالب سياسية مهمة، تتطرف مثل تلك المنظمات عادة في مواجهة القمع السياسي، وفي آخر الأمر إما أن يذهبوا في طريق العنف أو يبدؤوا الزحف عبر المؤسسات، أو أن ينقسموا على أنفسهم ويفعلوا كلا الأمرين.
سجل حسن البنا في بيانه التأسيسي سجل هذا التضارب الأساسي، الذي يميز الحداثة الإسلامية من المنظور الإسلامي: التضارب ما بين الغرب الاستعماري والإسلام. يضع الإخوان المسلمون -مثل اتحادات إسلامية أخرى- تحديد القيم الإسلامية في مراكز عملهم، لذا يقومون بالدعوة العلنية ويبنون المساجد ويُحاربون الأمية عن طريق تأسيس المدارس والمستشفيات والوحدات الصحية، أي باختصار يبلورون لأنفسهم صورة لدى الشعب بوصفهم جمعية خيرية ذات توجه ثقافي.
قام الإخوان المسلمون في الثلاثينيات من القرن العشرين بتسييس حركتهم بصورة أكبر، فألف البنا كتابين (نحو النور عام 1936، وصناعة الموت 1938) حيثُ أدخل في الحوار مواضيع تأسيس نظام الدولة والمجتمع الإسلاميين، و”الجهاد المسلح ضد غير المسلمين”، والاستشهاد بوصفه وسيلة من وسائل الكفاح. قامت الجمعية العمومية الخامسة في 1939، وكان عدد أعضاء المنظمة قد بلغ (50000)، بتعريف النظام الإسلامي، حيث اعتبرت الإسلام نظامًا متكاملًا يقوم على القرآن والسنة، وهو قابل للتطبيق في كل مكان وزمان. وبذلك تحولّ ادعاء العالمية إلى برنامج.
ثالثاً: الحداثة والإسلاموية
يزعم المؤلف أن الحداثة في كل الدول الإسلامية -تقريبًا- لم تكن نتاجًا للثورات، وإنما نشأت من خلال وجود قوى الاستعمار الغربي وأذرعها الداخلية المتمثلة في النخب العلمانية، مما يُعطي الحداثة طابعًا خاصًا بوصفها مقومًا لنشأة الأصولية الدينية. بالنسبة للرأي العام الإسلامي لا ترتبط الحداثة بالكفاح الجمعي من أجل الحرية، وإنما يرتبط بها الخضوع المزدوج للقوى المذكورة.
خلص المؤلف إلى أن الأصوليين يتعاطون على اختلاف مشاريعهم مع ثورات الحداثة بطرق مختلفة عن بعضها البعض تماماً. إلا أنهم -على أي حال- يأخذون خبرات الشعب ويؤولونها ويضعونها أمام أفق ديني، ويلجؤون في ذلك إلى التراث الديني، ويبدو أمرًا متناقضًا -وخصوصًا من وجهة النظر الأوروبية- أن يتم الدخول في الحداثة عن طريق التوجه الديني تبعًا لقناعات دينية عن عهد ما قبل الحداثة.
يستخلص نتيجة مفادها أنه يجب أن تكون هناك علاقة معقولة بين الأفكار الدينية وبين ما يُدركه الأشخاص من مجتمعاتهم، وخصوصًا الأزمات والمشاكل، حيث إن طريقة إدراك النّاس لها والعلاقة التي يرونها بينها وبين الرموز الدينية، تعتبر أمرًا حاسمًا لنشأة وعمل الحركات الدينية، وهنا يطرح السؤال نفسه عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأشخاص الذين يدخلون في الحركات الأصولية، وكيف يرون توترات الحداثة.
فلا يوجد كثير من الكتابات حول الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها أعضاء الحركات الدينية، لكن الأبحاث المتوافرة حتى الآن تتفق فيما بينها على ما يلي:
توجد إجمالًا صورة نمطية لتعبئة الحركات الاجتماعية، والأشخاص المهتمون يكونون في حالة يكونون مهددين فيها بالانحدار الاجتماعي، أو تكون آمالهم في فرص الارتفاع الاجتماعي قد تبددت بطريقة مؤلمة؛ ويعانون من منظور ثقافي من الإذلال عن طريق الآخرين -أي يكونون إجمالًا في حالة نسبية من الحرمان.
تتشكل الظروف الموضوعية بسرعة، فقد تسببت عملية التحديث في الستينيات من القرن العشرين في هجرة الريف دون أن يكون متاحًا دمج النّاس في المدن اجتماعيًا بصورة كاملة، وفي نفس الوقت تم تحويل مناطق زراعية إلى مناطق عمالية (العمالة الزراعية) أو تم إهمال مثل تلك المناطق، وبذلك نشأت في الدول القومية ضواحٍ يعيش فيها النّاس مهمشين اجتماعيًا ودون جذور ثقافية.
يقول المؤلف: إن الحركات الدينية تركز على خبرة الفوارق الاجتماعية، وما يرتبط بها من شعور بجرح الكرامة. وهذا يتفق مع احتياج مهم تتميز به الثقافات العربية والثقافات التراثية عمومًا وهو الحصول على التقدير الاجتماعي، فتقوم تلك الحركات بناءً على ذلك بتفسير صراعات المصالح على أنها صراعات هوية، أي إن ما لا يمكن حله بصورة فورية على مستوى التساوي الاجتماعي-إعادة توزيع الموارد- فإنه يتم تنظيمه على مستوى الشعور بالقيمة. وعلى هذا المستوى يمكن مخاطبة الشعور بعدم المساواة الاجتماعية محليًا وكذلك تدخل الغرب.
وبالتالي يمكن تقديم تفسير واحد للاضطهاد المزدوج، غير أن الاستراتيجيات لا يجب أن تكون بالضرورة واحدة. على أي حال يمكن للمرء هنا أن يكتشف أن وراء الخبرتين المريرتين نفس السبب؛ ألا وهو انقسام الأمة عن طريق الدور القومي، وتفتت المجتمعات بسبب الفردية الرأسمالية، أي إن المرء ينظر إلى كلا الأمرين من منظور وحدة الإله التي تهيمن على كل شيء.
الإخوان المسلمون والحداثة:
يوضح المؤلف أن تفكير الإخوان المسلمين السياسي الإسلاموي يستند على تحول نقدي للفكر السني الوحدوي، حيث أصبح سيد قطب أكثر من حسن البنا رائد تسييس الإسلام في الشرق الأوسط. كانت فترة نشاط قطب في الوقت الذي كانت حركة الإخوان المسلمين تهوي إلى القاع السياسي بصورة متزايدة تحت وطأة عبدالناصر، فقد كتب قطب الكثير وهو في السجن، مما قد يكون زاد من حدة النظرة القطبية في فكره. وبالرغم من أنه لم يكن عالم دين، فإن ذلك لم يمثل نقصًا في الوضوح الديني لموقفه.
يعتمد قطب في الجانب الديني على كتابات المودودي وخصوصًا فيما يتعلق بعقيدة التوحيد، التي تعتبر عند المودودي مركز الفكر الإسلامي دون منازع، قام قطب بإعادة تفسيرها بصورة حديثة وذات دلالة وجودية شديدة، حيث رأى أن الاعتقاد في وحدانية الله يدعم الفهم المتعاطف مع جميع الخلق، والثقة في النفس والتواضع والخلق الدمث والثقة في الله والحزم وغير ذلك. بناء على ذلك يعطي المودودي للمعتقدات الأخرى أيضًا وللكفر سمات وجودية، وقام بتحديث تلك التصورات من خلال تحريرها من التصورات الجمعية التقليدية ومواءمتها مع الحداثة المدنية التي تتمتع في ظلها التصورات والقرارات الفردية بوزن أكبر. تبنى قطب تلك التغيرات دون أن يتخلى عن الوزن التقليدي للحق المطلق.
طور قطب تصوره للدين السياسي. ينشأ في بعض المواضع انطباع بأن الأمر يدور عن دين إسلامي للتحرير! انطلاقًا من تحليله للوضع الاجتماعي. ويركز النظر هنا بصفة خاصة على تأثير الغرب والنخب المحلية في الدول الإسلامية. بنى قطب على خبرة الخضوع المزدوج وخرج بتبعات دينية واجتماعية، حيث رأى أن النظم الغربية والماركسية أشرفت على نهايتها، وأن العالم يحتاج إلى تجديد عالمي من منظور إسلامي.
ولكي يصبح الوصول إلى قيادة الإنسانية، يجب على الإسلام أن يقدم عقيدة وكذلك أسلوب حياة في إطار المجتمعات الإسلامية، يحافظ على مستوى مُرضٍ. غير أن العالم اليوم قد أصبح كله كافرًا (الجاهلية) وهو الأمر الذي يتضح من خلال التمرد العام على سيادة الله وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وقهر الرجل البسيط تحت وطأة الحكم الشيوعي، واستغلال الاستعمار والرأسمالية للأفراد والأمم، وهو ما يُعبر إجمالًا عن إهدار كرامة الإنسان التي حباه الله إياها، والسبيل الوحيد لمواجهة ذلك هو عمل مجموعة طليعية على أسس الإسلام.
يرى سيد قطب -حسب المؤلف- أن الطليعة الإسلامية مهمة في العمل على فرض برنامجهم المضاد القائم على فكرة مجتمع إسلامي، على كلا مستويي القهر. في مواجهة الغرب، وهنا يذكر قطب بالوحدة الإسلامية في العصور الأولى بالأمة الفاعلة بكل تنوعاتها الثقافية، إلا أنه لا يستكمل تطوير الفكرة. كان جل اهتمامه المجتمع الإسلامي في حدود الدولة الوطنية، وبالتالي في الحدود المؤسسية للحداثة الغربية. أصبح -إذن- الكفاح ضد الكفار الموجودين في صفوف المسلمين جهادًا: وهنا نجد عند قطب تفاعلًا بين الوعظ والجهاد. أي إن مفهوم الجهاد، كما هو في التراث، يحتمل معنيين: فهو يهدف من ناحية إلى الوصول بالمؤمنين إلى الكمال الشخصي، وينظم من ناحية أخرى استخدام العنف. ولا يُسمح بالأخير فقط في حالة الحرب بغرض الدفاع، وإنما هو واجب من أجل التخلص من الأوضاع المهينة لكرامة الإنسان.
يصل المؤلف إلى نتيجة فحواها أن برنامج سيد قطب لا يعتبر برنامجًا ثيوقراطيًا يرى بحكم رجال الدين، وإنما يرغب في جعل الشريعة المبدأ الموجه للحياة العامة والقانون، وتبقى العدالة الاجتماعية بمثابة نقطة المحور وبؤرة الاهتمام بالنسبة له، ويقوم بشرحها في إطار الأشكال التقليدية للفقه الإسلامي، وذلك ربما يرجع إلى عدم معرفته بالإمكانات الحديثة سواء الاقتصادية أو التنظيرية الاجتماعية، ولكن قطب لا يعالج مشاكل الشريعة المتمثلة في عدم وجود شخصيات قانونية جمعية، ولا نظرية للمؤسسات ولا قانون عاماً واضحاً، وما إلى ذلك. واهتم بالدرجة الأولى بالأفكار الكبرى للمساواة بين الناس والمسؤولية المتبادلة.
الشيعة والحداثة:
يرى المؤلف أن نظرية “ولاية الفقيه” التي طبقها الخميني، لا تختلف كثيرًا عما طرحته الجماعات السنية المتطرفة، بل تُعد امتدادًا لما سبقها من فكر وممهدة لإقامة نظام أصولي. أعادت نظرية الخميني إحياء فكرة عودة الإمام الثاني عشر (المهدي)، إلا أنها أزالت الحدود بين المستقبل والحاضر، حيث اعتبر الخميني نفسه ممثلًا للمهدي على الأرض، وأظهر بذلك التماثل التراثي المعروف ضمنًا بين آية الله والإمام العالم بكل شيء، وصنع بذلك المقومات الأيديولوجية لإقامة نظام ثيوقراطي.
كان الخميني على قدر كاف من الذكاء بحيث لم يُسمِّ نفسه علنًا المهدي، ولكنه اكتفى بالاعتماد على قوة ارتباطات المعاني الدينية: كان يؤكد انحداره من نسل الإمام السابع، ووضع الحرب على العراق في قالب الانتقام لموقعة كربلاء -وكلا الأمرين يندرجان تحت تراث المهدي ورجوعه. وتركزت أعلى المناصب الحكومية والدينية في شخص الخميني. استدعى الخميني مستقبل المهدي إلى الحاضر، وجعل بذلك سلطته الخاصة مطلقة. وأتاح له هذا الوضع أن يُقيد التعددية الدينية في إيران، وأن يُهاجم أعداء إسلامه.
يلخص المؤلف فكرته في هذا السياق بقوله: إن الحداثة أتت إلى العالم الإسلامي بوصفها مشروعًا من الغرب. تأتي الحداثة من الخارج، أي إنها -مبدئيًا- لا تأتي من تغيرات ثورية من داخل المجتمعات الإسلامية. بل يتم تلقيها بوصفها مظهرًا من مظاهر القهر المزدوج: تحت وطأة قوى الاستعمار والاستعمار الحديث الغربية، وتحت ضغط نُخب وطنية غالبًا ما تكون طاغية، القوى الأولى تُشكك في الثقافة الإسلامية برمتها، والثانية تُذمر روابط الالتزام الاجتماعي الداخلية ويُمأسسون علاقات ظالمة.
ثالثاً: الولايات المتحدة وأوروبا والحداثة
نشأت الحداثة في الولايات المتحدة من عملية التحرير من الاستعمار، التي تم تفسيرها دينيًا، فالدولة والمؤسسات الدينية منفصلة فصلًا تامًا عن بعضها البعض. الخطاب السياسي والخطاب الديني مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطًا وثيقًا في الخطاب العام. ويوجد في الدولة دين مدني. أفرزت الحداثة في الولايات المتحدة الأميركية برنامجين تمدنيين: برنامج تكنوقراطي إمبريالي، وبرنامج ديمقراطي إجرائي.
وفي الموضوع نفسه يوضح المؤلف، أن الأصولية تعتبر برنامجًا مصاحبًا لتلك الحداثة. وفي مرحلتها القديمة كانت مجموعة من ذوي الشأن من رجال الدين تُعارض الإبداع التأويلي (نقد الكتاب المقدس) والحداثة التكنوقراطية (نظرية النشوء والتطور) في الحقل الديني.
استطاعت تلك المجموعة عن طريق نظريات الفهم الحرفي للكتاب فرض موقفها في الحقل الكنسي بصورة مطلقة، وحاربت من أجل فرض الهيمنة على ذلك الحقل. في المرحلة الراهنة تعمل نخبة دينية سياسية خارجية. تستغل هذه النخبة نظريات نبوئية كاريزماتية لجعل موقفها في حقل السياسة الخارجية مُطلقًا، وتحارب في تحالف مع التكنوقراطيين الإمبرياليين من أجل فرض سيطرتها على السياسة.
وهنا تقدم الأصولية الإسلامية ومنظماتها الإرهابية لاستراتيجيات الهيمنة الإعلامية والسياسية والعسكرية (التي تأتي بناء عليها) في الولايات المتحدة الأميركية صورة نموذجية للعدو.
تحت هذا العنوان يقول: تشغل أوروبا في الصراع السياسي بين الولايات المتحدة الأميركية والفاعلين الإسلاميين موقعًا خاصًا بوضوح. فهي الطرف الذي يتم التحاور معه في خضم الصراعات الدائرة، وهي الحليف العسكري وإن كانت تكره المشاركة في الحروب. كما تتخذ الخطوة الحاسمة ببطء.
يصعب على الأشخاص الذين يدعون امتلاك الحقيقة الأبدية ولديهم أحكام جاهزة واستراتيجيات هيمنة سريعة، أن يتوقعوا اتجاه خطواتها. تتضح خصوصية موقف الحداثه الأوروبية والقوى الدينية في أوروبا في إطار صراع الأصوليات.
يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن أوروبا لا تقع جغرافيًا فقط بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم الإسلامي، وإنما تشغل نفس الموقع على الخريطة الإحداثية لتوزيع القوى العالمية. أما فيما يتعلق بتطور الحداثة، فتتمتع أوروبا -هنا أيضًا- بمكانة خاصة تستند إلى الدور الخاص للدين وتراث الفكر التعددي التأويلي في الحداثة الأوروبية. وبذلك تمتلك أوروبا مقومات ممتازة لدعم الحوار وتعاون الثقافات. وبكل تأكيد لسنا في احتياج إلى أصوليين مفعمين بالرغبة في الصراع لكي يقولوا لنا: إننا نعيش صراع ثقافات. فالأمر يتعلق بصراع أصوليات، وفرضية صراع الثقافات والأديان تُعتبر بمثابة “البيان التأسيسي” للفكر الأصولي.
ذكر المؤلف في ما يخص ما أطلق عليه التطرف المسيحي، أن المسيحية قدمت إسهامًا مهمًا في ضوء التطورات طويلة المدى في ظل الرمز المحوري للمسيحية “الصليب”، فالرؤية المسيحية المحضة للعالم تنظر من أسفل، أي من منظور المهمشين، وهو المنظور المسيحي الخاص، ويعتبر هذا بالتأكيد وفي المقام الأول خيارًا أخلاقيًا. لكن هذه الرؤية قد تطورت في الآونة الأخيرة إلى لاهوت تأويلي حقيقي، وذلك عن طريق لاهوت التحرر واللاهوت النسوي واللاهوت المسكوني، كما أن الموقف والرموز التي يتم الانطلاق منها يكون لها دور حاسم عند صياغة اللاهوت والقناعات الدينية.
يؤكد فيشر أن الأصوليات ترسم الهويات المغلقة وتخوض حرب هوية، كما تعمل في مجال السياسة الخارجية على وضع حدود حادة، فإما أن يميز المرء نفسه من الآخر “الكافر” وحسب، أو يدخل في صراع فعلي مع الأعداء: “المسيح الدجال” أو “فرسان الصليب”، وفي المجال الداخلي تكون الوحدة عادة إما وجودية أو فكرية توحيدية. بحيث تكون وحدة الإله هي التي تحدد وحدة هوية العقيدة، أو أن تكون وحدة المعيار الذي أوحى به الرب (كتاب مقدس أو كلمة النبي) هي التي تخلق عملًا موحدًا، وفوق ذلك تشكل هوية موحدة، والعقيدة في كلا الحالين عبارة عن إعادة إنتاج نظام.
يستطرد المؤلف قائلاً: والأمر الحاسم في تصورات الهوية الأصولية هو أنها تقوم على تصور وجود ذات جامدة واعتبارها وحدات مغلقة ثابتة. وبذلك يحولون تصور الهوية الخاص بالحداثة الأولى؛ إلى بناء جوهري، ويُضاهون به التصور بعد الحداثي للهوية، وهذا يمنح أتباعهم أمانًا وجوديًا ويجعل المنظمات قادرة على خوض صراعات الهوية بكفاءة. كما يُعطي مناعة للنظام الأصولي في مواجهة الإصلاح. ولكن نظرًا لأن العالم يتغير، كان من الضروري إكساب الادعاءات الأصولية مناعة ضد التحولات. فإذا كان المرء يرغب في الاستمرار في استخدام تصور الهوية الجوهرية، الذي لا يتلاءم مع التحولات، فإنه يلجأ إلى تصعيد وإحماء سيناريوهات وممارسات صراعات الهوية، ويُصبح تصعيد النزاعات النتيجة المنظمة.
خرج المؤلف بأفكار عدة مهمة ترتبط بفكرة الصراع الدائر بين الأفكار الدينية (إسلامية ومسيحية) وبين الغرب الذي يمثل قيم الحداثة، وأن هذا الصراع سوف يظل دائرًا وموجودًا ويشغل حيزًا من العلاقة بين الغرب وتيارات الإسلام السياسي التي تنطلق من منطقة الشرق الأوسط، هذا الصراع تزداد حدته مع الوقت وترتفع وتيرته في ظل الصراعات المسلحة بين الغرب والشرق، كما أن تيارات الإسلام السياسي تمثل وقودًا لهذا الصراع.
[1]* باحث مصري متخصص في دراسة الحركات الإسلاموية.