طرأت تحولات درامية على المجتمع الأفغاني بعد الانسحاب الأميركي في أغسطس (آب) 2021 وسيطرة طالبان على الحكم، وطرحت تساؤلات عدة حول الأيديولوجية التي تتبناها الحركة وتوجهاتها السياسية، وهل سيكون هنالك اختلاف عن تجربتها بين عامي 1996 و2001.
ترصد هذه المقالة تاريخ حركة طالبان المتطرف في فترة استلامها الحكم بين عامي 1996 و2001، وتحاول قراءة مؤشرات التطرف الراهنة على المستويات السياسية والاجتماعية والدينية بعد الانسحاب الأميركي وسيطرة الحركة على البلاد.
أولاً: التنوع القبائلي واحتكار حركة طالبان للسلطة
إن الموقع الجغرافي الذي تتخذه أفغانستان بين دول كطاجيكستان وأوزبكستان وإيران من الغرب وتركمانستان من الشمال، جعل منها منطقة متميرة بجغرافية منغلقة على قبائلها القاطنة في الداخل الأفغاني والارتباط بجذورها وامتداداتها خارج الحدود، ما يفسر التأثير الثقافي والاجتماعي من باكستان والهند على أغلب فئات المجتمع الأفغاني، لا سيما حركة طالبان التي يعود معتقدها الديني إلى الديوبندية، التي تأسست في مدينة ديوبند الهندية، وترتبط بطالبان الباكستانية، إضافة إلى أن المتابع للأحداث والتطورات المتسارعة على الأراضي الأفغانية، يرى أن المشهد أكثر تعقيداً، لا سيما وأن الأحداث لا تزال على أرض الواقع، مما يستوجب التدقيق في المعلومات.
تمثل أفغانستان أنموذجاً للدولة المتصدعة؛ إذ تعد مثل تلك الدول بيئة خصبة لظهور التنظيمات الإرهابية فيها، ولا يوجد شك أن أهم عامل لعودة طالبان إلى الحكم مرة أخرى يعود إلى الفشل في إعادة بناء دولة قائمة على أسس جديدة، فالاستمرار في الفشل في أي دولة، بغض النظر عن طبيعة السلطة، يعد مصدراً لتغذية الجماعات المتطرفة، كما أن غياب الديمقراطية غالباً ما يؤدي إلى إنتاج أيديولوجيات ومعتقدات متعصبة[2].
تعهدت حركة طالبان فور استلامها السلطة ودخولها القصر الرئاسي مسلحة، بأن حكومتها سيتم تشكيلها من جميع العرقيات والأقليات، ولن تقتصر على عرق البشتون الذي يشكل ما نسبته (42%)[3] في البلاد، وهذا لم يحدث، فلم تمثل الفئات القبائلية الأفغانية، وضمت الحكومة عدداً من الأسماء التي وُضعت على قوائم الإرهاب، فأوكلت وزارة الداخلية إلى سراج الدين حقاني، نجل جلال الدين حقاني، المدرجة حركته على قائمة الإرهاب[4]، كما أوكلت الحركة مهام وزارة الدفاع إلى الملا محمد يعقوب، وهو الابن الأكبر لقائد المجاهدين الأفغان وأحد مساعدي هبة الله أخوند زاده، وأوكلت رئاسة الحكومة إلى محمد حسن أخوند الذي كان وزيرا للخارجية في حكومة طالبان عام 2001، والمعروف بعبارته الشهيرة “أسامة بن لادن ضيف أفغانستان ولن تقوم بتسليمه”، ذلك عندما طلبت واشنطن من الحركة تسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وبناء على هذه المعطيات يمكننا أن نتنبأ بأن التغير الذي تحدثت عنه طالبان كان على مستوى الخطابات والتصريحات فقط[5].
ثانياً: الجماعات المتطرفة الأخرى في أفغانستان
ومع إمساك الحركة بزمام السلطة وما نتج عنها من توقعات لمسارات مخيفة من قبل العديد من المحللين السياسيين والأكاديميين يطرح السؤال: ما وضع الجماعات المتطرفة في البلاد؟
يقودنا هذا السؤال إلى عنصر بالغ الأهمية في المشهد الأفغاني، وهو المبايعة التي تمت بين الحركة والجماعات المتطرفة، فبعد عقدين من الزمن وبالرغم من تصريحات الحركة بأنها لن تكون بيئة حاضنة لتنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي يتناقض بشكل واضح مع تشكيلة حكومة طالبان الحالية، التي قامت باختيار القائد الأعلى الملا هبة الله أخوند زاده، أو ما يلقب بأمير المؤمنين، حسب ما أطلق عليه أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة[6].
إن استيلاء طالبان على السلطة كان بمثابة رافعة نجاة للجماعات المتطرفة، فلا يمكننا التغاضي عن مصير المبايعات التي تمت قبل وبعد سيطرة الحركة، والتي تطرح علينا السؤال عن مصير تلك العلاقات مستقبلاً. نشير إلى أن طالبان فرع باكستان، الرافضة للديمقراطية والعلمانية، جددت مبايعتها للحركة في أفغانستان بعد استيلائها على السلطة[7].
سوف يفاقم وصول طالبان إلى السلطة، من العنف والتطرف وينعش جماعات الإسلام السياسي، وقد تلقت الحركة تهنئة من تنظيمات إسلاموية بما فيها جماعة الإخوان المسلمين. تلك المباركات تعطينا دلالات واضحة على أن ثمة علاقة بين الحركة والتنظيمات الأخرى، قد تشير إلى ارتباط أيديولوجي أو عضوي، أو قد تكون عبارة عن امتداد بين الحركة وتنظيمات الإسلام السياسي عموماً، والإخوان المسلمين خصوصاً، ولذلك فإن وصول طالبان إلى سدة الحكم من الممكن أن يدعم عدداً من تلك التنظيمات التي قد تفكر في ملاذات آمنة لها، بمعنى أن طالبان قد توفر تلك الملاذات لكل جماعات العنف والتطرف، خصوصاً أنها بدأت تدخل في صدام مباشر مع حكوماتها، وهنا عندما نتحدث عن جماعة الإخوان المسلمين وفروعها كحالة، فهي تواجه عقبات حقيقية بعد سقوطها في مصر والسودان وتونس والمغرب، وبالتالي فهي تبحث عن ملاذ لقيادات الحركة، فمن الطبيعي أن هذه التنظيمات تدعم الحركة في وجودها لتسيطر على السلطة، أما على جانب الحركة، فهي ترى في هذه التنظيمات امتداداً لها، وأن لها دوراً في المحافظة على وجودها في الحكم، ولعل الصورة الأمثل والأكبر ما بين طالبان وتنظيم شبكة حقاني المدرجة على لائحة المنظمات الإرهابية، إضافة إلى أنها الذراع العسكرية لطالبان، وتبعا لما أشار إليه الخبير الأفغاني مصباح الله الذي يرأس جامعة “سلام” في كابل، أن قادة طالبان جميعهم يتبعون الفكر “الديوبندي”، نسبة إلى مدرسة “دار العلوم” في مدينة ديوبند شمال الهند، وهم متصوفة بالعموم، لافتا إلى أن “سراج الدين حقاني”، الذي يُزعم بأنه يقود أكثر مجموعات الحركة “تطرفا”؛ يتبع الطريقة النقشبندية[8].
قد ترى حركة طالبان أن أمنها مرتبط بوجود مثل هذه التنظيمات؛ لذلك تعتبر تنظيم القاعدة مثالاً على ذلك، فالقاعدة كان لها دور فاعل في الدفاع عن أفغانستان ضد الغزو الروسي عام 1979[9]، فضلاً عن مساعدتها في إحكام سيطرتها على المدن بعد الانسحاب الأميركي. كما أن من الممكن أن تقع طالبان خلال وجودها في السلطة في صدام مع الداخل الأفغاني، سواء مع بعض المجموعات أو القبائل أو مع دول أخرى.
ثالثاً: استمرار الأيديولوجية المتطرفة
من المؤشرات الدالة على استمرارية تبني طالبان للأيديولوجيا المتطرفة التي اعتمدتها خلال فترة حكمها بين عامي (1996- 2001) تغييبها لدور المرأة عن المشهد السياسي ومنعها من التعليم[10]. لم تكتف الحركة بهذا بل فرقت التظاهرات النسائية، وقمعت التحركات المطلبية. وبالرغم من التلميحات التي أطلقها المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، فيما يتعلق بعودة الفتيات إلى التعليم قريبا، فإن التأخير يشير إلى تشدد طالبان في ملف المرأة.
تعطي هذه العوامل الضوء الأخضر لتفاقم التطرف داخل المجتمع، وقد تؤثر في الجماعات المتطرفة التي تسيطر على أجزاء من غرب أفريقيا، وعلى رأسها جماعة بوكو حرام، فبالرجوع إلى تاريخ تلك الجماعات نجد أنباء عن انعقاد تدريبات لعناصر سابقة تابعة لبوكو حرام داخل أفغانستان تحت دعم طالبان[11].
بعد استحواذ طالبان على الحكم، اتخذ قرار إلغاء وزارة “شؤون المرأة”، التي استحدثت أواخر عام 2001، ووضع مكانها وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، التي كانت تفرض تعاليم دينية صارمة مستمدة من فهم طالبان للنصوص الدينية والآيات القرآنية[12]. تأسست وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع صعود طالبان للسلطة عام 1996 فكانت مسؤولة عن نشر أفراد ممن يسمونهم بـ”شرطة الأخلاق” بهدف تطبيق تفسيرات الحركة للشريعة الإسلامية[13].
يهدد وجود وزارة الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، المجتمع الأفغاني، خصوصاً أن قرار حلها جاء بعد الغزو الأميركي لأفغانستان في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، ولكن مع ذلك جاءت ضغوط من شخصيات سياسية محافظة عام 2006؛ دفعت بالرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي لإعادة تأسيس وزارة مماثلة، ضمت ممثلين عن وزارة الداخلية ووزارة الحج والشؤون الدينية والمحكمة العليا، بهدف مواجهة ما سُمي “الدعاية المعادية للغرب”[14].
أعرب المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية مثل منظمة “هيومن رايتس ووتش” عن قلقهم من عودة أي انتهاك محتمل لحقوق المرأة في التعليم والعمل والرعاية الصحية، والتعرض لحقوق الفئات المستضعفة بعد سيطرة طالبان على الحكم، ففي فترة حكمها الأولى فرضت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عقوبات قاسية على النساء والرجال، من بينها الضرب والسجن وبتر الأعضاء[15].
ومع عودة هذه الوزارة، تعود إلى الذاكرة مواقف طالبان مما كانت تعتبره جرائم مخالفة لمحظورات، تم وضعها في قائمة طويلة مكونة من (16) بنداً، صدرت في 17 ديسمبر (كانون الأول) 1996، حيث تم تكليف وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراقبة التزام الناس وتجنب المحظورات.
تسعى طالبان لإعادة تطبيق عقوبات قاسية كالإعدامات وبتر الأعضاء، على اعتبار أن ذلك “مهم لتطبيق الأمن” بحسب ما يقول الملا نور الدين ترابي، وهو أحد القادة السابقين في الوزارة العائدة. ومع أن تطبيق هذه العقوبات قد لا يكون علنيًا كما كان يطبق في فترة حكم طالبان الأولى[16]، فإن العقوبة بحد ذاتها، وكونها كانت تطبق على قانون غير منطقي أساسا، يجعل المجتمع الأفغاني متخوفاً وقلقاً من القوانين والمحظورات التي ستلاحقهم في المستقبل القريب.
رابعاً: المسموح والمحظور على المرأة الأفغانية
سوف يتعرض الأفغانيون خلال الفترة المقبلة، إلى ضغوط من قبل عناصر وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالرجال والنساء -على حد سواء- قد تقمع حرياتهم، فأول بنود المحظورات التي عملت على تطبيقها الوزارة أواخر التسعينيات، كان حظر ركوب المرأة “مكشوفة الوجه في سيارات الأجرة”، ومن يخالف هذا المحظور من سائقي تلك السيارات، كان يتعرض للسجن، حتى إن المرأة كانت محرومة من السير في الشارع وهي “مكشوفة الوجه”، ومخالفة ذلك كان يعرض زوجها للعقاب.
بعد استحواذ حركة طالبان على السلطة، صدرت قرارات تلزم المرأة بارتداء “الحجاب” ولكنها غير ملزمة بتغطية وجهها، كما كان الحال قبل عقدين[17]، فهذا القرار كان ضمن القرارات المفاجئة الصادرة رسميا عن مسؤول في طالبان. ليس هذا فقط، ما فتح وطأة ما تعيشه النساء من قلق عام، فإنهن مهددات اليوم بالحرمان من التعليم أيضا؛ لأن طالبان كانت في فترة حكمها السابقة، تعتقد أن تعليم البنات يحتاج لـ”فتوى”، كما أن معارضتهم لمرور النساء بالمراحل التعليمية، كان سببها “منع الاختلاط”، وهذا أمر باعتقاد حركة طالبان آنذاك “لا يرضي الله”، إلى جانب وجود مناهج كانت –باعتقادهم- بعيدة عن “شريعة الله”.
عادت البنات للتعليم العالي في أفغانستان، ولكن ضمن قواعد مشددة، لا تبتعد أولا عن توحيد زي النساء بأن يكون “إسلاميا”، وسياسة فصل الرجال عن النساء بشكل كلي داخل قاعات التدريس. غير أن هذا القرار المتشدد، يعد مؤشراً على تطرف حركة طالبان في تعاملها مع المرأة، بعزلها تحت ذريعة “منع الاختلاط”، مما قد يؤثر على مسار عملية التعليم التي ستمر المرأة بها، خصوصاً وأن قراراً كهذا قد يحتاج إلى زيادة عدد الجامعات وقاعات التدريس، إلى جانب الحاجة لوجود مدرسات جامعيات متخصصات في التعليم الجامعي، وهذا بطبيعة الحال قد يكون غير متوافر بالقدر الكافي في الفترة الحالية[18].
على الرغم من عودة النساء للتعليم الجامعي وضمن قيود ضيّقة، فإن طالبات المرحلة الثانوية استبعدْن من قرار العودة للمدارس، بعد قرار أصدرته حكومة طالبان، حصرت فيه عودة الطلاب والمدرسين الذكور فقط إلى العام الدراسي الجديد، والخطة البديلة للفتيات، ستكون ضمن خطة مرتقبة لحكومة طالبان تتعلق بفتح مدارس مخصصة للبنات فقط[19].
سيساهم هذا القرار في حرمان تعلّم عدد كبير من الفتيات إن لم يحرم أجيالا منهن أيضا، فحقهن في التعليم كان مصاناً قبل استحواذ طالبان على مقاليد السلطة وحصر القرارات بيدها؛ لأنه لم يكن هناك فرق بين الجنسين في الغرفة الصفيّة، أمّا الآن، فيبدو أن طالبان، تسعى للفصل بين الذكور والإناث، عبر استحداث مدارس أخرى، وهو إجراء يحتاج لتمويل ضخم قد لا تستطيع طالبان تحصيله من المجتمع الدولي، في حال كانت توجهاتها في إطار متشدد وعنصري.
خامساً: حظـر الفن
على الرغم من أن حركة طالبان، حظرت التلفزيون، والسينما والمسرح، والموسيقى حتى في حفلات الزفاف، فإن فريقها الحكومي في فترة حكم الحركة الأولى، كان يتضمن وزيرا لـ”الثقافة والإعلام”، فضلا عن وجود مؤسسة لـ”الإذاعة والتلفزيون”. لم يكن هذا التناقض غريباً على سياسة حركة طالبان، فهي ترى أن عدم إجازة استخدام التلفزيون، مرتبط بتحريم التصوير من وجهة نظرها، إضافة إلى ضرورة الالتزام بحدود “الحلال والحرام” ورفض أن يكون الإعلام السبيل لإلهاء الناس عن ذكر الله. وكذلك الأمر تم حظر السينما والمسرح، فقد كانوا وضعوا “الاختلاط” بين الرجال والنساء، حجة لتحريم مشاهدة الأفلام في السينما أو دعم مواهب التمثيل في المسرح، وتم هدم (12) داراً للسينما في كابل في فترة الحكم الأولى.
استولت الحركة على إذاعة قندهار وحولتها إلى “صوت الشريعة”، وهي إذاعة كان لها مساحة في الفضاء الاجتماعي، كما أن طالبان عملت على تجميل صورتها عبر الإنترنت منذ أن أطاحت بها القوى الدولية عام 2001، وعلى ما يبدو فإن الحركة وطوال العقدين الماضيين، كانت تبين نفوذها، ويتضح ذلك بعد استسلام قوات الرئيس السابق والهارب أشرف غني[20].
سادساً: بوادر عودة العقاب على التغيب عن الصلاة
كانت طالبان، تسجن كل من يتخلف عن أداء فريضة الصلاة لمدة عشرة أيام، كما أن قوانينها كانت تمس أرزاق الناس في فترة حكمها الأولى؛ حيث إنها كانت تلزم بإغلاق المحلات، وتوقف المواصلات قبل موعد الصلاة بـ(15) دقيقة[21].
تعود طالبان تدريجيا للتشدد، فمع إصدارها قائمة جديدة من “الممنوعات”، تتوسع المحظورات طردياً، فمن ضمن هذه القائمة، يلزم الإمام بتسجيل أسماء من “لا يؤدون الصلاة”[22]، وهذه النقطة تعد إشارة إلى أن الحركة تنوي التشديد على هذه المسألة، بدون ذكر أي استثناءات، كالعاجزين عن الحركة، أو المرضى وغيرهم ممن قد لا يستطيعون القيام بفريضة الصلاة، كما أن إجبار طالبان على أداء الصلاة، ينذر بتغييب الوعي الاجتماعي لدى المجتمع الأفغاني، وتكريس التشدد على حساب الحق في الحياة وحرية المعتقد.
سابعاً: إلزامية اللحى
على الرغم من أن إطلاق اللحى لا يعد واجباً شرعياً في الدين الإسلامي، فإن طالبان، لطالما كانت تضع حلق “اللحى” في قائمة المحظورات. ومع أن المحظور كان قاسيا على الأفغانيين عند صدور إعلان “منع حلق اللحى” عام 1996، فإنه أعطى مهلة شهر ونصف الشهر منذ صدوره، حتى يتم انتظار نموها، إلّا أنه وبعد مرور هذه المدّة، كان يودع بالحجز كل من “يحلق” أو “يقص” لحيته حتى تعود لحيته للنمو[23].
فمع عودة طالبان، عادت هذه العادة، ومنع الرجال الأفغانيون من “حلق” أو “تشذيب” لحاهم؛ لأن ذلك ينتهك تفسير حركة طالبان لـ”الشريعة الإسلامية”[24]. يندرج هذا التشدد من قبل طالبان، تحت بند ما كانت ترتكز عليه في فترة حكمها السابقة، خصوصا وأنها كانت تركز على جعل المظاهر ذات طابع واحد[25]، ولكن هذا يعد مؤشرا واضحا على أن أفغانستان ستعود لحقبة حكم طالبان السابقة، وقد تكون الفئة الأكثر تضررا هي الأجيال التي ولدت في الفترة ما بين الغزو الأميركي وعودة طالبان، فمعدل أعمارهم يلامس (10) سنوات، والتشدد المفروض تدريجيا على المجتمع الأفغاني، سيؤثر بشكل كبير على مستقبل الأفغانيين، خصوصا الأطفال والمراهقين، خاصة من نواحي، التعليم للإناث والموسيقى، ومواكبة العصر وغيرها من المحظورات التي قد تساهم في تقييد فئات من المجتمع لم تعايش فترة الحكم السابقة لطالبان.[26].
في فترة حكم طالبان الأولى، كان يتم تنفيذ العقوبات علنا وفي يوم الجمعة، وفي مقر ستاد العاصمة كابل، وهو إجراء يؤخذ به حتى يتم تبرير العقوبة أمام الجميع، حسبما تعتقد الحركة. شهد عاما (1996-1998) العديد من الأحكام والعقوبات، من بينها (17) حالة قطع يد للصوص، وثلاث حالات قطع لليد اليمنى والرجل اليسرى بسبب قطع الطريق، وعشر حالات قصاص في جرائم قتل. أمّا الزنا وشرب الخمر، فقد كان يتم التعامل معهما بالجلد، خمس حالات زنا أنزلت العقوبة بـ(100) جلدة لكل حالة، وثلاث حالات شرب للخمر، أنزلت العقوبة بـ(40) جلدة على كل حالة[27].
إذن، مع وجود هذه المقارنات، تبرز لدينا مؤشرات أن طالبان، تحاول وبشكل تدريجي، إعادة تطبيق محظوراتها، وفرض عقوباتها المشددة على المجتمع الأفغاني، مما يفتح باب النقاش بشأن ردود فعل المجتمع الأفغاني وطبيعة تعاطيه مع القرارات الجديدة والتي قد تصدر مستقبلا.
ثامناً: الثقافة السياسية للمجتمع الأفغاني
منذ تأسيس دولة أفغانستان 1747 وحتى عام 1997، وصل إلى السلطة (30) حاكما، منهم (13) حاكما تقلدوا مناصبهم لأسباب دينية، و(11) حاكما آخر، عزلوا من مناصبهم لعوامل دينية أيضا.
ففي حقبة ملك أفغانستان أمان الله خان، وتحديدا عام 1928، وبعد جولة دولية وإقليمية قام بها لمدة سبعة أشهر، زار خلالها تركيا والهند ومصر والاتحاد والسوفيتي وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا، حاول الملك خان أن يسير على درب مصطفى كمال أتاتورك أول رئيس للجمهورية التركيّة، وأصدر بعد الانتهاء من رحلته أوامر صدمت الجميع، منها: إلزام المرأة بنزع الحجاب، وإلزامها بارتداء “الثياب الغربية”، واقترح إيفاد طالبات أفغانيات للدراسة والتحصيل العلمي في تركيا، وطالب البرلمان آنذاك ببحث “منع تعدد الزوجات وتحديد عمر معيّن لعقد الزواج”، واستبدال عطلة نهاية الأسبوع بيوم الخميس بدلا من الجمعة.
هذه القرارات والمقترحات، لم تصدم الجميع فقط، وإنما وصلت إلى حد صدور فتاوى من علماء في ولايتي “باكتيا وننجرهار” بتكفير الملك وخلعه، وبالفعل ثار الشعب ضد الملك أمان الله خان، وثارت الفوضى في البلاد وقادها في العاصمة كابل حبيب الله كلكاني الذي أصبح ملكا في بداية 1929 ولمدة (10) أشهر فقط[28].
هذا المشهد، يمكن ربطه بما يدور اليوم، فمن غير المستبعد أن تكون فئة كبيرة من المجتمع الأفغاني راضية عن عودة طالبان، وكانت راغبة، ولكنها تأخرت في التعبير عن ذلك؛ بسبب ارتباط حكومة الرئيس السابق والهارب أشرف غني بالولايات المتحدة الأميركية.
الخاتمة
إن عودة حركة طالبان للحكم قد تؤدي إلى احتمال تقوية التنظيمات الإرهابية، وتحديداً التي تلقت ضربة بعد هزيمة داعش في العراق وسوريا. هذه العودة ستؤدي إلى انتكاسة للمكتسبات التي حققتها المرأة الأفغانية خلال العقدين الماضيين، بما في ذلك حق الفتيات في التعلم والعمل. كما أن الإجراءات البطيئة التي تقوم بها الحركة في حل مشاكل المجتمع مثل التأخر في التحاق الفتيات بالتعليم وحل المشاكل الاقتصادية، قد تزيد من اضطراب الأوضاع في البلاد.
[1]* باحثة، وصحفية أردنية.
[3]– مطيع الله تائب، أفغانستان.. عودة طالبان… واحتمالات المستقبل، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة– قطر، 2008، ص12.
[4]– منير أديب، طالبان وداعش… تقاسم السلطة وتقارب الأفكار، النهار العربي، 25 سبتمبر (أيلول) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.annaharar.com/arabic/makalat/annahar-alarabi-authors/24092021015358002
[5]– منير أديب، طالبان بين التطرف واستجداء الشرعية، النهار العربي، 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.annaharar.com/arabic/makalat/annahar-alarabi-authors/01102021015256434
[6]– سلسلة قيادات طالبان، قيادات طالبان، 1- القائد الأعلى الملا هبة الله أخوند زاده، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 30 أغسطس (آب) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.almesbar.net/%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%86/
[7]– إدريس الباي، طالبان: ما مصير البيعة التي تربط تنظيم القاعدة بالحركة؟ بي بي سي نيوز عربية، 10 سبتمبر (أيلول) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.bbc.com/arabic/world-58507338
[8]– حقيقة فكر طالبان ونذر توتر مع طرف غير متوقع، موقع (عربي 21)، 21 أغسطس (آب) 2021، على الرابط الآتي:
https://arabi21.com/story/1379961/ندوة-عربي21-حقيقة-فكر-طالبان-ونذر-توتر-مع-طرف-غير-متوقع
[9]– مطيع الله تائب، أفغانستان.. عودة طالبان… واحتمالات المستقبل، مرجع سابق، ص25.
[10]– مؤشرات مقلقة ودلالات أول حكومة تصريف أعمال في عهد طالبان، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبو ظبي، 12 سبتمبر (أيلول) 2021، العدد (1334)، على الرابط الآتي:
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/6610
[11]– نهال أحمد، بعد سقوط كابل: هل يتأثر الوضع الأمني في الصومال بانسحاب القوات الأميركية؟ مركز المسبار للدراسات والبحوث، 26 أغسطس (آب) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.almesbar.net/بعد-سقوط-كابول-هل-يتأثر-الوضع-الأمني-في/
[12]– نيجيري تدرب في أفغانستان، موقع بي بي سي نيوز عربي، 2 سبتمبر (أيلول) 2009، على الرابط الآتي:
https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2009/09/090902_am_nigeria_afghanistan_tc2
[14]– مؤاشرات مقلقة ودلالات أول حكومة تصريف أعمال في عهد طالبان، مرجع سابق.
[15]– Afghanistan: Vice and Virtue Department Could Return, Women and Girls Again at Risk, Human Rights Watch, 18/7/2006:
https://web.archive.org/web/20170131055948/https://www.hrw.org/news/2006/07/18/afghanistan-vice-and-virtue-department-could-return
[17]– “البرقع” أم “الحجاب”؟.. تصريحات لافتة من مسؤول بارز في طالبان، موقع قناة الحرة، 17 أغسطس (آب) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2021/08/17/البرقع-أم-الحجاب؟-تصريحات-لافتة-مسؤول-بارز-في-طالبان
[19]– أفغانستان تحت حكم طالبان: عودة الدراسة في المدارس الثانوية من دون الإناث، بي بي سي نيوز عربي، 18 سبتمبر (أيلول) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.bbc.com/arabic/world-58565736
[20]– كيف ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي طالبان على استعادة أفغانستان – في الغارديان، بي بي سي نيوز عربي، 25 أغسطس (آب) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.bbc.com/arabic/inthepress-58326145
[21]– فهمي هويدي، طالبان جند الله في المعركة الغلط، دار الشروق، ط1، 2001، ص78.
[22] “طالبان”: سنقنع الناس بعدم الاستماع إلى الموسيقى، روسيا اليوم، 27 أغسطس (آب) 2021، على الرابط الآتي:
https://arabic.rt.com/world/1266749-طالبان-تؤكد-حظر-موسيقى/
[23]– فهمي هويدي، طالبان جند الله في المعركة الغلط، مرجع سابق، ص59.
[24]– أفغانستان تحت حكم طالبان: الحركة تمنع الحلاقين من تشذيب اللحى، بي بي سي نيوز عربي، 26 سبتمبر (أيلول) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.bbc.com/arabic/world-58701748
[25]– فهمي هويدي، طالبان جند الله في المعركة الغلط، مرجع سابق، ص42.
[26]– طالبان: مسؤول في الحركة يؤكد عودة الإعدامات وتطبيق الحدود في أفغانستان، بي بي سي نيوز عربي، 24 سبتمبر (أيلول) 2021، على الرابط الآتي:
https://www.bbc.com/arabic/world-58683708
[27]– فهمي هويدي، طالبان جند الله في المعركة الغلط، مرجع سابق، ص78.
[28]– المرجع نفسه، ص11.