هنّأ عدد من التنظيمات الإسلاموية بما فيها تنظيم القاعدة، والكثير من الشخصيّات الدينية وشخصيّات تنتمي أو تتعاطف مع التنظيمات الإسلاموية، وهيئات إسلامية نحو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، طالبان على “انتصارها” على الولايات المتحدة، كما عبروا بطرق مختلفة عن سعادتهم بهذا النصر. بل حتى رئيس الباكستان عمران خان وصف المشهد بأنًّ: “أفغانستان كسرت سلاسل العبودية”. وبالنظر إلى أنّ طالبان أعلنت بشكل متكرر أنّها ستحكم أفغانستان وفقاً للشريعة الإسلامية أو -على حد تعبيرهم- أن الحركة تسعى لـ”إقامة حكومة إسلامية نقية”، وإلى الاستلهام السابق لأنصار الإسلام السياسي لنجاح الثورة الإسلامية في إيران، وأثار رغبتهم في تكرار التجربة الإيرانية في دول أخرى، فإنّ تلك التهنئات تثير تساؤلات عن تأثير ما حصل على دافعيّة أولئك لاستثمار هذا الحدث في إحياء مشروع دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية أو حكم الشريعة. فهل سيتم عدّ “نجاح” طالبان في أفغانستان نموذجاً يُحتذى به؟ وهل سيشجّع الخلايا النائمة في المجتمعات المسلمة على الظهور والنشاط من جديد؟ وهل سيحظى الخطاب الإسلاموي بدفعة جديدة تعيد تأثيره في المجتمعات التي بدأت تدير ظهرها إليه؟ وهل ستسعى طالبان إلى جعل أفغانستان قبلة مشاريع الإسلام السياسي في العالم ومركز تدريب للجهاديين؟
طالبان والأسئلة المفتوحة
أسئلة عديدة تثيرها سيطرة حركة طالبان الخاطفة على أفغانستان. أغلب تركيز التغطيات الإعلاميّة والدراسات والتحليلات التي تقرأ المشهد كان على إخفاقات الولايات المتحدة، وفشل الجيش الأفغاني وحكومته في الصمود أمام التقدّم السريع للحركة، والفوضى التي حلّت في كابول، والضحايا الأفغان نتيجة تلك الفوضى خصوصاً ممن يُخشى عليهم من عمليات انتقاميّة، وكميّة العتاد العسكري الأمريكي الذي وقع بقبضة الحركة بكل سهولة، والأطراف الدولية المستفيدة من سيطرة طالبان على أفغانستان، خصوصاً إيران والصين والباكستان وإلى حد ما روسيا، ومخاوف الدول المحيطة بأفغانستان من إمكانيّة استثمار ما حصل من قبل بعض الجماعات المتشددة التي تعمل فيها، وصورة الولايات المتحدة على خلفيّة المشاهد التي تناقلها الإعلام، والتي استحضرت الانسحاب الأمريكي من جنوب فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، وإمكانية وثوق حلفاء الولايات المتحدة بها، وظهور نجل أحمد شاه مسعود مُعلناً مقاومته للحركة. كما أن هناك تركيزاً بالغاً على محاولة فهم نوايا طالبان بين من يقول: إنها تغيّرت بشكل جذري ولم تعد تلك الحركة التي تتقبّل وجود إرهابيين في مناطق نفوذها، أو تلك التي تقمع المرأة أو تضيّق بل تضطهد المختلفين عنها دينياً، أو تلك التي دمّرت تماثيل بوذا في التسعينيات، وبين من يقول: إنّ الحركة لم تكشف عن وجهها الحقيقي بعد، وإنّها الآن في مرحلة تبييض لسمعتها إلى حين ينسحب آخر جندي أمريكي من كابول، ويستقر لها الأمر بشكل كامل.
فورة الإسلامويين بـ”انتصار طالبان”
ومن الأسئلة المهمة: هل تعدّ سيطرة طالبان على أفغانستان نجاحاً أصلاً على ضوء الواقع المتردّي لأفغانستان على كافة الأصعدة خصوصاً التنموية والاقتصادية؟
بالنسبة للكثير من الإسلامويين وخصوم الولايات المتحدة، فإنّ ما حصل كاف لاعتباره نجاحاً كبيراً. فبموازاة كل التغطيات المتنوعة كان هناك سيل متواصل من المباركات والاحتفالات والاحتفاءات بطالبان، وبما حققته بعد عشرين سنة من القتال.
بعض الإسلاميين عبّروا لطالبان عن رغبتهم في التعاون المباشر. فمما جاء في رسالة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التي عبّر عنها رئيسه الحالي الشيخ أحمد الريسوني وعنونها بـ”رسالة إلى الشعب الأفغاني وقادته”: “الاتحاد يتابع هذا الموضوع ليقدم اقتراحاته، وليكون رهن إشارة إخوانه في أفغانستان ليتعاون مع علماء أفغانستان، وهي والحمد لله مليئة بالعلماء، نحن مستعدون لاستقبال علماء أفغانستان، ومستعدون للذهاب إليهم، ومستعدون للقاء معهم في أي مكان لنتحاور حول قضايا الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية بأفضل ما يمكن…”. وهذا لا يُمكن إلا أنْ يكون دعوة إلى عمل منسّق يستهدف الدول العربية والإسلامية أكثر مما يستهدف أفغانستان، وجعل أفغانستان مختبراً جديداً من مختبرات الإسلام السياسي، بل وجعلها منصّة انطلاق لمشاريع إسلاموية حول العالم.
والأمر يتجاوز الهيئات والتنظيمات إلى حالات فردية كثيرة. والأمثلة على هذا كثيرة، نشير إلى بعضها.
منها ما يستحضر مقولة: إنّ أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات، وهي مقولة استشهد بها الرئيس بايدن نفسه في تسويغه الانسحاب من هذا البلد، ويكررها الكثير ممن يدعم الحركة أو ممن يعادي الولايات المتحدة، ولا يغيب عن المتابع أنّ بعضها لا يكتفي باستحضار هذا، وإنما يتساءل عمن سيتلقى نحو هذه الهزيمة مستقبلاً:
- ومنها ما يستحضر مقولة منسوبة لزعيم طالبان السابق الملا عمر، الذي يتوّعد بوش بالنصر ولو بعد حين:
وهذه التي كُتب عليها ما يبدو أنها مقولة أخرى لزعيم طالبان: “إذا لديكم ساعات فلدينا الوقت”:
- وصور توزيع حلوى من منطقة إدلب في سوريا مع مباركات النصر:
ولطبيعة الموقف كان الكثير من الصور المتداولة التي تهدف إلى بيان حجم هزيمة الولايات المتحدة. نحو صورة تقارن بين انسحابها من أفغانستان بانسحابها من فيتنام:
وهذه التي تريد إبراز حجم النصر بالمقارنة بين القدرات العسكرية للجندي الأمريكي وما يملكه المقاتل من طالبان:
والمقارنات بين عناوين إعلاميّة غربية في 2001 مع تلك التي تصدرّت في 2021 نحو ما تصدّر غلاف مجلة التايمز الأمريكية بين قولها في 2001: “الأيام الأخيرة للطالبان” وقولها لاحقاً: “عودة طالبان”. ومع أنّ الأخيرة منذ 2014، فإنّ هذا لم يمنع توظيفها في هذا الوقت تحديداً:
طالبان ومستقبل مشروع الإسلام السياسي
هذا كله قليل من شواهد عديدة على فورة سعادة عارمة بين الإسلامويين بسبب إنجاز طالبان. ولكنْ لا بدّ من الانتباه إلى أنّ أغلب الرضا بما حققته طالبان إنما هو نكاية في الولايات المتحدة، وفرحاً بأي هزيمة صغيرة أو كبيرة تلحقها، وليس لأجل طالبان أو الإسلام السياسي، حتى لو تم التعبير عن ذلك بلغة دينية، بحكم أنّه بعدما ضعفت خطابات اليسار، صارت اللغة الدينية هي الأساس للتعبير عن مشاعر رفض ما قامت به أمريكا في المنطقة وخصوصاً في العراق وأفغانستان. وقد يتم توظيف تلك الفورة في تجنيد بعض الشباب المتحمسين من قبل بعض الجماعات المتطرفة. وقد تشجّع بشكل مؤقت على القيام بعمليّات إرهابية. وحصول ذلك من عدمه، والقدر الذي يُمكن أنْ يحصل منه يعتمد على عوامل مادية ولوجستية، وعلى قدرات الأجهزة الأمنية في الدول المختلفة. ومجرد فوز طالبان لا يعني بشكل تلقائي أنّ الجهاديين –منظمات أو ذئاباً منفردة – قادرون على تحقيق شيء مختلف عما كان يُمكنهم قبل ذلك. وفي كل الأحوال هذه مسألة أمنية بالدرجة الأولى وخارج نطاق هذا المقال. ما يعني هذا المقال هو السؤال: ما احتمالات إحياء مشاريع الإسلام السياسي على خلفية انتصار طالبان؟
أولاً: طالبان: حاضنة للإسلام السياسي؟
الإجابة الدقيقة تعتمد -إلى حد كبير- على قدرة طالبان على إحكام سيطرتها التامة على الأراضي الأفغانية، وعلى ما ستحققه طالبان لأجل أفغانستان، وعلى ما ستقوم به إزاء مشاعر وطموحات التنظيمات الإسلاموية المختلفة. وهي أمور متصلة ببعضها البعض. فالسيطرة التامة تعتمد على عوامل محلية أفغانيّة، كما تعتمد على دعم الدول المؤثرة في استقرار طالبان، وامتناعها عن دعم أي حركات عسكرية قد يؤدي إلى حرب أهلية جديدة يطول أمدها. وما ستحققه طالبان يعتمد على قدرتها على تشكيل حكومة تشاركية توافقية تلبّي التطلعات السياسية لكافة الفصائل والقوميات الأفغانية. كما يعتمد ذلك على قدرتها على الحصول على مساعدات وجذب استثمارات لانتشال البلاد من وضعها الاقتصادي المنهار، وإعادة إعمار بلاد دمرتها حروب أكثر من أربعين سنة. وكل ذلك يعتمد على تصرفات طالبان وظهورها بمظهر الحريص على بناء دولة وتعزيز التنمية، أو ظهورها بمظهر حركة تسعى لدعم مختلف الجهات التي تهدد مصالح الدول الكبرى اقتصاديا وعسكرياً. ولا يُمكن التنبّؤ بما ستقوم به طالبان، ولا ما ستقوم به القوى الأفغانيّة، ولا ما ستقوم به الدول الأخرى القادرة على التأثير على الوضع الداخلي في أفغانستان. ولكن يُمكن بشيء من الظن العالي التنبّؤ بأن أي استجابة فعلية طالبانية لمشاريع الإسلام السياسي في العالم، سيكون لها انعكاسات سيئة على طالبان وعلى أفغانستان، وأنّه سيضع الحركة هدفاً لكثير من الدول القوية والمؤثرة، وسيعرّض أفغانستان لمخاطر عديدة قد تقوّض سيطرة طالبان الحالية.
ثانياً: طالبان: مُلهمة للإسلام السياسي؟
هناك من يخشى أنّ مجردّ انتصار طالبان أو نجاحها لاحقاً في تأسيس دولة إسلامية وفي تطبيق الشريعة، سيكون له تأثيرات على مشاريع الإسلام السياسي. والفرضيّات التي تُذكر هنا هي أن انتصار طالبان يشكّل درساً للتنظيمات الإسلاموية بأنّ الوقت لصالحهم، وأنّ كل ما عليهم القيام به هو الصمود إلى حين تحقق النتائج. أيضاً فإنّه سيشجع الكثير على محاولة استنساخ التجربة الطالبانيّة، وسيقلل من تقديرهم للقوى التي تواجههم. كما أنّ وجود تجسيد نظريات الدولة الإسلامية خطوة مهمة لتعزيز خطابات ودعوات الإسلام السياسي والدولة الإسلامية.
هذه كلها فرضيّات لا بد من أخذها بجديّة، ولكن مع مراعاة احتمالات أخرى.
فالتنظيمات قد تستلهم نجاح طالبان، ولكنْ هذا أولاً يعتمد على ظهور ذلك النجاح على أرض الواقع، ونجاح يتجاوز السيطرة إلى تحقيق الاستقرار ووضع أفغانستان على طريق التنمية والرفاه. ثم إنّ الدرس المستفاد من هزيمة أمريكا والصبر ليس جديداً، ولا تحتاجه كثيراً حركات وتنظيمات الإسلام السياسي. ولن يشكّل علامة فارقة في مستقبل مشاريع تلك التنظيمات والحركات.
أيضاً نجاح طالبان يأتي في سياق تراجع جاذبية مشاريع التنظيمات الإسلاموية، إما بسبب النماذج السيئة التي قدّموها، وإما بسبب التطوّرات الفكرية في المجتمعات الإسلاميّة، والتي تدفع نحو البحث عن بدائل للخطاب الإسلاموي. وهو تطوّر لم يكتمل لا شك، خصوصاً بسبب غياب خطابات بديلة عميقة وجاذبة، ولكنْ وصل لمرحلة يُمكن القول معها بشيء كثير من الثقة: إنّ مجرد انتصار حركة في أفغانستان لن يؤدي إلى تراجع لذلك التطوّر. بل يُمكن القول: إنّه لو نجحت طالبان في تأسيس دولة إسلامية مستقرة أمنياً فإنّ هذا سيوفّر نموذجاً منفراً من مشاريع الإسلام السياسي، أو -على الأقل- نموذجاً يُوفر مادة نقدية ثرية لمن يريد إبراز نقاط ضعف هذه المشاريع. فهي إما تلتزم بخطابها الإسلاموي بشكل حرفي فتقدم نموذجاً يرفضه غالبية المسلمين، وإما تقدّمه بشكل براغماتي فتضعف شرعيتها الإسلاموية وتُحبط آمال من كان يعوّل عليها.
تعزيز الإسلام المعتدل
لا يُمكن تقدير ما سيقع بشكل دقيق. ولكن ما يُمكن بل يجب عمله هو تكثيف جهود مكافحة التطرّف بجميع أشكاله، سواء التطرّف الإسلاموي أو اليميني الغربي أو خطابات الإسلاموفوبيا وكافة أشكال خطابات إقصاء المختلف. بل قد يكون مكافحة خطابات التطرّف النابعة من جهات غير مسلمة أهمّ في هذه المرحلة؛ لأنها توفّر المناخ لتقبّل الشباب المسلم الخطابات المتطرّفة كرد فعلٍ دفاعي. أيضاً لا بدّ من تكثيف جهود مكافحة الخطاب الإسلاموي، وبيان أصوله التاريخية وتأثّره بالخطابات الأوروبية الفاشية والقومية المتطرفة. ولكن لعل أهم ما يجب تكثيفه هو تعزيز الخطابات الإسلامية المعتدلة التي تُبرز دور الدين كأساس لحياة روحية، وكركن محوري للأخلاق، في ظل غلبة ثقافات مادّية تخنق الروح، واتجاهات نفعية تدير ظهرها للأخلاق.