“من الواضح الآن أن الإفراز الأصولي للتدين الإسلامي صار يمثل مشكلة تثير القلق في المنطقة والعالم. فإضافة إلى تفاقم العنف الدموي، ثمة تهديد مباشر لمكاسب الحداثة النسبية التي تسربت إلى المنطقة الإسلامية خلال القرنين الماضيين، من مبادئ التفكير العقلي وفكرة الحريات الفردية، إلى فكرة القانون، حتى فكرة الدولة ذاتها”. تلك هي وجهة نظر المفكر المصري د.عبدالجواد ياسين، التي عرضها في محاضرة نظمها مركز المسبار للدراسات والبحوث، في مقره بإمارة دبي، الأربعاء 18 يناير (كانون الثاني) الجاري.
ياسين وفي ورقته تناول موضوع “تضخيم التدين في الاجتماع الإسلامي: الجذور الدينية والاجتماعية للأصولية الإسلامية”، مسلطا الضوء على فرضية أساسية مطروحة للنقاش، وهي “أن هذا الإفراز الأصولي العنيف هو نتيجة ضرورية مرشحة للتولد بشكل دوري عن نمط التدين التاريخي السائد، وأن التطرف الأصولي إجمالاً هو ظاهرة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن المعضلة النظرية الكامنة في بنية الدين كما يطرحها هذا النمط من التدين، وهو النمط الساري في السياق الكتابي منذ التجربة العبرية”، معتقدا أنه وبـ”الاستقراء العام، ثمة حالة من التوتر المزمن في علاقة الدين بالاجتماع، تظهر بوضوح في صور الصراع الدموي التي لم تنفك عن تاريخ التدين بدءاً من مجازر التراث العبري المفصلة بإسهاب في العهد القديم، إلى حروب ومحارق المسيحية بامتداد العصور الوسطى، حتى حروب المسلمين التي لم تنقطع منذ ظهور الإسلام”.
فرّق ياسين بين مصطلحات ثلاثة، وهي: الدين، التدين، والديانة. حيث يعرف الدين بأنه “ما هو وحي، هو المطلق المفارق القادم من خارج الاجتماع، وبالتالي فهو ثابت لا يتعدد ولا يتطور. (الله والأخلاق الكلية)”. أما التدين فهو “ممارسة الدين في العالم أو داخل الاجتماع، وبالتالي فهو خاضع لقوانين الاجتماع التي تفرض التعدد والتطور”. فيما رأى أن الديانة هي “نظام جماعي ينشأ بفعل التدين في سياق جغرافي تاريخي خاص. فهو صورة من صور التدين يرد عليها التعدد والتطور”. وهو في هذا السياق يعتقد أن المُشكل ليس في حدوث التدين، بل في تحوله إلى دين، أي في اكتسابه لسلطة المطلق المؤبدة.
وفي معالجته للموضوع، أوضح د. ياسين، أن هنالك “إشكاليات هيكلية ثلاثاً، تضمن توليد موجات متوالية من التوتر بين الدين والاجتماع الخام على الرغم من الحضور العميق للدين على مستوى الذات الإنسانية”، ملخصا إياها في: إشكالية التناقض مع قانون التنوع، إشكالية التناقض مع قانون التطور، وإشكالية النص.
ولكي يعطي نماذج تاريخانية عن الموضوع، تحدث د. ياسين عن “السياق المسيحي في الغرب”، معتبرا أنه “في القرن العشرين استفاق الفكر الغربي على حقيقة بقاء الدين. وبالنسبة له مثلت التعبيرات الدينية الجديدة ظاهرة مدهشة باعتبارها عودة صاخبة لفكرة المقدس”. كما تناول تجربة “الإسلام في الشرق”، مبينا أن “الأصوليات الراهنة تشترك مع بقية العقل المسلم في المرجعية العامة التي يمثلها نمط التدين التاريخي الموروث بإشكالياته النظرية الثلاث. وهو النمط الذي فرض المفهوم الحرفي الشكلاني للدين، ونصَّب الفقه في صدارة الدين، كوجه مباشر يسبق مكانة الروح والضمير الأخلاقي، وكرس الخصومة التقليدية المزمنة بين الدين والحرية والعقل”.