تقديم
يُعد علم نفس الإرهاب من التخصصات الحديثة في علم النفس. وقد ظهر في الغرب من خلال دراسة موضوعات شائكة كـ«الجماعة الإرهابية» و«الفرد الإرهابي» و«الشخصية الإرهابية»، وتطور في السنوات الأخيرة مستعيناً بمناهج علمية جديدة تحاول -قدر الإمكان- الإحاطة بظاهرة الإرهاب متعددة المستويات.
يختلف المتخصصون حول العديد من القضايا المطروحة في علم نفس الإرهاب؛ فلا يوجد اتفاق إن كان الإرهابيون أسوياء نفسياً، أم إنهم مختلون، فمن ناحية يدركون عن وعي طبيعة الأعمال الإرهابية التي يقومون بها، ومن ناحية أخرى قد تشي تصرفاتهم نتيجة التحليل النفسي العيادي السريري بأنهم مصابون «بمرض نفسي». ولكنّ الأمر أشد تعقيداً من ذلك، لأن لكلا الحكمين تبعات حول تحمّل المسؤولية والتخلي عنها، والصراع بين التبرير غير الواعي لنتيجته السياسية وبين المعاينة النفسية الملتزمة بنظريات علمية صارمة التطبيق. لذا؛ فإن الكتاب لا يسعى إلى الوصول لتشخيص مستقر بقدر ما يحاول تسليط الضوء على تنوع اتجاهات الباحثين ومرجعياتهم، مستعرضاً العديد من النظريات والخلاصات.
تنزع اتجاهات علم نفس الإرهاب –لدى بعض الدارسين- في معاينتها لــ«الشخصية الإرهابية» إلى الابتعاد عن النظر إلى الإرهابيين بوصفهم «مختلين» أو شخصيات سيكوباتيّة لا تمتلك أحاسيس متصلة بالأخلاق؛ ذلك أن المختل وحده يستطيع الإقدام على القتل بدم بارد، على نحو ما يفعل الإرهابيون. تتجه وجهات نظر أخرى إلى اعتبار شخصية الإرهابي شخصية مريضة، كونها تتصف بالأنانية الفردية، والمعتقد الاصطفائي، ومرض النرجسية، وفقدان القيم.
يقدم علم نفس الإرهاب إطاراً تحليلياً «عميقاً» قد يساعدنا على فهم الإرهاب في طبقاته الأعمق والأكثر غموضاً في النفس البشرية. يرى البعض أن النتائج التي وصل إليها فريق من المتخصصين في علم نفس الإرهاب تُفسر في سياق تبريري لا واعٍ، إذ يصعب على من يدرس السيرة الذاتية الحياتية والدينية لمؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن؛ أن يُدرج أعماله الإرهابية في باب الاضطراب النفسي!
إن الحقول المعرفية الأخرى (الاجتماعية والسياسية والقانونية) تطرح نفسها أيضاً في موازاة علم نفس الإرهاب، وقد تكون أكثر إلحاحاً لدراسة ظاهرة الإرهاب المعولم، لكن من المهم أيضاً تحليل وفهم الإرهاب بأدوات علم النفس، كونه يكشف لنا عن السلوكيات البشرية العنفية وكيفية اعتمالها (التصرفات، التأثر والتأثير، ردة الفعل) ويحيلنا على إدراكٍ أعمق لظواهر العنف، خصوصاً الجوانب الدينية والسياسية منها، وبذلك يعتبر علم نفس الإرهاب إحدى الطرق العلمية المفيدة لدراسة الإرهاب من نواحٍ عدة: العوامل النفسية لواقع الظاهرة الإرهابية (الشخصية الإرهابية)؛ تحليل الشخصية الإرهابية؛ سلوك وسمات الشخصية الإرهابية؛ الجذور النفسية للإرهاب؛ والعوامل الاجتماعية المؤدية للإرهاب.
يتناول كتاب المسبار «علم نفس الإرهاب: الأفراد والجماعات الإرهابية» (الكتاب الخامس والعشرون بعد المئة، مايو (أيار) 2017) العديد من القضايا المهمة التي تسمح لنا بفهم الإرهاب بأدوات التحليل النفسي. شارك في الكتاب باحثون متخصصون سعوا إلى تقديم تحليلات نفسية في دراسة الظاهرة الإرهابية بكل تشعباتها وتعقيداتها. حاولت الدراسات تغطية «سيكولوجيا الإرهاب» عبر درس مجموعة من المحاور الرئيسة: «سيكولوجية الجماعة الإرهابية ودوافع الأفراد للانضمام إليها»؛ «سيكولوجية الإرهاب: نظرية الإحباط – العدوانية والغضب النرجسي»؛ «الانتحاريون و«الذئاب المتوحّدة» أَهُم شخصيات سيكوباتية؟»؛ «العوامل النفسية والاجتماعية المعززة للتطرف لدى الشباب»؛ «السمات الشخصية التقريبية للإرهابي»؛ «إرهاب الجماعات المسلحة من منظور التحليل النفسي»؛ «عقل الإرهابي: مراجعة المناهج السيكولوجية ونقدها»؛ و«الإدارة النفسية لمحاربة الإرهاب: تدابير التحليل التبادلي».
تلاحظ إحدى الدراسات أن «الجماعة الإرهابية ليست كالجماعات العادية من مثل جماعة العمل أو الأصدقاء أو سواهما، بل هي تتصف بمميزات خاصة، مثلها في ذلك مثل الجماعات العقائدية والأيديولوجية. من أبرز هذه المميزات اتخاذها شكل وبنية العلاقات العصبية وما يلازمها من تعصب (…) وتتمثل البنية الداخلية للجماعة الإرهابية في ثلاثية: النحن العصبية وعلاقة أفرادها بها، وفي العلاقة مع المرشد أو أمير الجماعة، وفي علاقة الأعضاء فيما بينهم. على مستوى النحن العصبية، تحدث مثلنة لهذه النحن ترفعها إلى مرتبة النقاء والتنزه عن الشوائب، من خلال الرسالة السامية والمتعالية على الواقع، وصولاً إلى اليقين القاطع بالحق المطلق والخير». تظلل علاقة (النحن/ الآخرون) الجماعات الإرهابية بحيث تعتمد على مفاهيم دينية طهرانية ومقولة الاصطفاء الأيديولوجي، مما يعزز من قدرتها على نفي الآخر وإخراجه من الوجود. ويبرز الخطاب «التكفيري» الذي تلجأ إليه جماعات العنف الديني مخاطر «القتل الرمزي» الأشد وطأة من التصفية الجسدية، فيعكس أوهام احتكار الحقيقة والقطيعة الإطلاقية مع الأفكار المختلفة، ونزع الصفة الإنسانية عن «الآخر».
لِمَ يقرّر شخص ما الانضمام إلى منظمة إرهابية، أو البقاء فيها، أو قيادة إحدى هذه المنظمات أو تركها؟ لِمَ يقرّر إنسان أن يقتل آخرين لا يعرفهم، سعياً لتحقيق هدف يستبعد أن يتحقق في حياته، بل إنه بذلك يضع نفسه خارج القانون، مما يضاعف بشكل دراماتيكي احتمال أن يُقتل أو يسجن، ومع وضع أسرته قيد الخطر أيضاً؟ تقدم النماذج النفسية للإرهابيين صوراً معقدة، وقد طُرحت نظريات نفسية عدة سعت إلى فهم «الشخصية الإرهابية»، ويمكن الإشارة إلى أربع نظريات أساسية: «نظرية الإحباط – العدوانية»، «نظرية الغضب النرجسي»، «نظرية الشخصية السلطوية»، و«نظرية الهوية الاجتماعية».
جذبت الجماعات الإرهابية أعداداً من الشبان في العالم العربي والغرب. هنا تظهر إشكالية مربكة: ما الذي يدفع بعض الشباب في المجتمعات التي تشبع حاجاتهم إلى الانخراط في هذه الجماعات والالتزام بأفكارها؟ وهل هذا الانخراط لا سيما عند «الجهاديين الغربيين» من الفئات الشبابية يعكس أزمة القيم وأزمة الأيديولوجيات وأزمة الحداثة؟ يزعم الباحث الفرنسي أولفييه روا (Olivier Roy) أن الدين لا يشكل العامل الأساسي والوحيد في جذب الشباب الأوروبي للانضواء في الحركات الجهادية، فظاهرة الإرهاب اليوم ترتبط بمستويات متناقضة لا تعتمد على نظرية أحادية.
تستند بعض نظريات علم النفس في فهمها السمات العامة للشخصية الإرهابية، إلى ما يطلق عليه علماء النفس «الشخصية النرجسية» (Narcissistic personality) التي تتصف –كما تشير إحدى الدراسات– بالانطوائية وازدراء الآخرين وصعوبة التعبير عن أي تعاطف تجاه الناس. إلى جانب هذا النمط هناك «النرجسي المنحرف» و«الشخصية المخادعة»، ولكن يبقى أمام علم النفس معضلة مفصلية لا ترتبط بتحديد الصفات النفسية لمرتكبي الأعمال الإرهابية فحسب، بل في العمل على استيعاب الظاهرة بكليتها، وأحياناً بعيداً عن المدرستين الموقفية والنزوعية في علم النفس السياسي، فثمة مسؤولية أخلاقية لا بد من أخذها بعين الاعتبار بصرف النظر عن الأمراض النفسية.
لقد أولى الكتاب اهتماماً ملحوظاً بدراسة بعض الجماعات الإرهابية من منظور التحليل النفسي، فلم يكتفِ بمقاربة «الشخصية الإرهابية». إلى ذلك، تطرقت الدراسات إلى ظاهرة «الانتحاريين» من فئة الشباب، خصوصاً أولئك المنخرطين في الحركات الإسلاموية. يعتبر المحلِّل النفسي التونسي فتحي بن سلامة «أن الشباب الذين يرغبون في الانتحار (الاستشهادي)، إنّما يريدون الخروج من الإنساني ليُصبحوا كائنات خارقة. فالآخرة متأصّلة في عقولهم من خلال خُطب الدُّعاة الذين يخترقون هاماتهم اللاواعية في لحظة تكون فيها الحدود بين الأنا واللاأنا (le Non-Moi)، بين الواقعي وغير الواقعي، بين الحياة والموت، مهتزّة إلى درجة يبدو معها –مباشرة- فعلُ التضحية بالنّفس في النهاية سهلاً؛ ويغدو مجرّد خاتمة. في هذه اللحظة، يجتاح الموت المتخيّل الذات إلى درجة يفقد معها الموت الفعلي معناه».
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج، التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدها وفريق العمل.
رئيس التحرير
مايو (أيار) 2017
شاهد فهرس الكتاب