انشغل المفكر المغربي علي أومليل بقضايا الإصلاح السياسي والتعددية والمواطنة في العالم العربي. دعا في كتابه “في شرعية الاختلاف” إلى إرساء مبدأ الحق في الاختلاف كحق من حقوق الإنسان، وكأساس للنظام الديمقراطي، مقترحاً البحث في التراث العربي الإسلامي للكشف عن مخزونه.
آمن صاحب “أفكار مهاجرة” بالحداثة السياسية ونظّر لها في العديد من مؤلفاته معتبراً أنه “لا وجود لمجتمع مدني حقيقي إلاّ بدولة وطنية مستقلة”، “بمعنى أنه لا بد على الدولة أن تكون مستقلة كي نضمن وجود مجتمع حقيقي”.
ينتمي أومليل إلى الجيل الأول من الأكاديميين الذين أسسوا للدرس الفلسفي في الجامعات المغربية، كانت أطروحته للدكتوراه التي حصل عليها من جامعة السوربون (1977) عن “الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون”. أصدر مجموعة من الكتب من بينها: “الإصلاحية العربية والدولة الوطنية”، “في التراث والتجاوز”، “السلطة الثقافية والسلطة السياسية”، “سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول”، و”التكامل الثقافي العربي في عصر العولمة”. وبقي على الرغم من عمله الديبلوماسي -حيث كان سفيراً لبلاده في مصر ولبنان بين عامي (2001-2016)- على علاقة مستمرة مع الحالة الثقافية العربية، تواصلاً وتأليفاً.
في حوارنا هذا مع علي أومليل تتم الإضاءة على بعض القضايا التي شكلت حيزاً من همومه المعرفية، لا سيما في الإصلاح السياسي والمواطنة وإشكالية الدولة الوطنية في العالم العربي، بما تحتويه من مطبات خصوصاً على مستوى الوعي الجمعي.
وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
- في كتابك “أفكار مهاجرة” طالبت بتأسيس “فكر سياسي عربي حديث” بسبب غياب “الفكر السياسي في تراثنا الفلسفي القديم”. ما أهمية هذا الطرح في سياقاته العربية الراهنة؟ وهل المثقفون العرب بمقدورهم القيام بذلك في ظل سوء الفهم النخبوي لما يجري وكارثية التحولات؟
– حاولت في بعض أبحاثي أن أبيِّن أننا لن نفيد شيئاً من فلاسفتنا القدماء ونحن نؤسِّس لفكر سياسي عربي حديث. لقد قرؤوا ما ترجم إلى العربية من كتب سياسية لفلاسفة يونان، لكنهم لم يكونوا يفهمون ما تُحيل إليه من نُظُم سياسية وقضائية يونانية، ذلك لأن الكتب التي كان من شأنها أن تجعلهم يفهمون هذه النُظُم، لم تترجم إلى العربية كتب المؤرخين اليونان، ولا الكتب الأدبية كالمسرحيات التي كان مسرحها الحياة السياسية اليونانية. كانوا يقرؤون في كتب أفلاطون وأرسطو السياسية عن الديمقراطية، والأحزاب السياسية، والأغلبية والأقلية، والدستور المكتوب، ولم يكونوا مهيئين لفهم هذه الأمور؛ لأن الكتب التي كانت ستجعلهم يفهمونها لم تترجم مثلما ترجمت كتب الفلسفة والمنطق والطب والفلك والجغرافيا. هم يتحدثون عن “السياسة المدنية” لكن لا علاقة لها بالسياسة.
ماذا يعني هذا الكلام الآن أمام وضع عربي بالغ الخطورة؟ إنه يعني أن هذا الوضع جديد تماماً يقتضي مقاربته بأدوات فكرية جديدة. فقد أسفر الربيع العربي عن انهيار دول وعدم قدرة دول أخرى على التحكم في مجموع ترابها الوطني، وهو ما جعل هذه البلدان ساحة للاقتتال بين الدولة أو بقاياها وبين العصابات المسلحة. فأصبحت الحاجة الأولى أن تكون هناك دول لحفظ الأمن والاستقرار وسير الاقتصاد والأعمال.
والرهان هو أن تكون هناك دولة تحفظ الأمن والاستقرار لكن ليس بأي ثمن، بل مع ضمان حريات الناس المشروعة. أليس النظام الديمقراطي هو الذي يضمن الأمرين معاً: الأمن والحريات؟
وهناك مسألة أخرى، وهي صعود الهويات الخاصة؛ المذهبية والعشائرية والإثنية، وهي تنظيمات مجتمع ما قبل الدولة، بل هي مناقضة لاستقرار الدولة.
وهناك دفاع عن هذه الهويات الخاصة باسم التعددية. لكن التعددية بمعناها السياسي الحديث ليست تعددية المذاهب والعشائر والأعراف، بل هي تعددية الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني. فلا ينبغي الخلط.
- احتلت المسألة الدينية موقع الصدارة في التنظير الإصلاحي العربي والإسلامي في التاريخ الحديث والمعاصر، إذ كان إصلاح الفكر الديني يُنظر إليه كعامل أساسي للتطور دون إيلاء الإصلاح السياسي والنهوض الحضاري الاهتمام الكافي. ما رأيكم في ذلك؟ ولماذا يشكل الدين في مجتمعاتنا القاعدة التي تُقاس عليها موجبات الإصلاح؟
– لقد دخل العرب والمسلمون القرن الحادي والعشرين وهم يجعلون معهم قضية ما زالت عالقة منذ القرن التاسع عشر، وهي قضية إصلاح الفكر الديني. إنها قضية رواد الإصلاح كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي وغيرهم. كان الحافز إلى إصلاح الفكر الديني عند هؤلاء هو تهيئته لاستيعاب أفكار وتنظيمات حديثة لمواجهة الضغط الأوروبي الاستعماري الذي كان في أوج تمدُّدِه. أما الحافز إلى إصلاح الفكر الديني، اليوم، فهو سقوط هذا الفكر في قبضة الغلاة المتشدِّدِين وما نتج عنه من إرهاب.
كثيراً ما يُفَسَّر الإرهاب بالفقر وبطالة الشباب، لكن هناك دول غير إسلامية أشدُّ فقراً وبطالةً ومع ذلك لا تنتج إرهاباً. فالسبب هو فكر ديني محرَّف. فالذي يضغط على الزناد أو على زرّ التفجير قد حُشِيَ رأسه بفكر ديني معين ينبغي تغييره بإصلاح عميق للفكر الديني.
وحين ندعو إلى مدنية الدولة فمن أجل وضع حد للصراع على السياسة باسم الدين. ومن غير تمييز بين مجال السياسة ومجال الدين، والذي لا تضمنه سوى دولة مدنية، فإنه لا سلم اجتماعي ولا استقرار للدولة.
- يبدو أن الوعي الجمعي العربي بأهمية الدولة قاصر ومتأخر على نقيض الوعي الغربي الذي تتمثل له الدولة كأعلى مراتب التطور السياسي. هل توافقون على هذه الفرضية؟ وإذا كانت صحيحة ما الذي أدى إلى غياب الوعي بأهمية الدولة في مجتمعاتنا؟
– السؤال يشير إلى الدولة الوطنية، وهي ليست أي دولة من الدول التي وجدت في التاريخ، بل الدولة الوطنية تكونت في أوروبا وبالتحديد في غرب أوروبا وتميزت بخصائص: منها حدود ترابها الوطني، وقانون أساسي؛ أي الدستور والقوانين المتفرعة عنه والتي مجال إعمالها هو مجال التراب الوطني، ولها “سيادة” على هذا المجال وعلى أساس احترامها تُبنى العلاقات الدولية، ولها تاريخ خاص بها هو التاريخ الوطني، ونظام للتربية والتعليم يهدف إلى تعزيز روح المواطنة والالتحام الوطني. هذه الدولة الوطنية بخصائصها ظهرت تاريخياً في بلدان بغرب أوروبا ثم قطعت البحار ليُتبنَّى أنموذجها بتفاوت في نجاحِ الأنموذج هنا وهناك.
بالنسبة إلى البلدان العربية فإن الدولة التي أريد لها أن تكون وطنية تدخلت في إقامتها قوى أجنبية، ابتداءً من ترسيم حدودها، وأيضاً في كون أجهزتها وأنظمتها أدخلت بضغط من الخارج. في الدولة الوطنية تتطابق الدولة والأمة، حدود الدولة هي حدود الأمة، والانتماء يكون للوطن وليس للدين، ولا يدخل الدين مكوّناً أساسياً للمواطنة. أما في بلداننا فالأمة الإسلامية أوسع من أية دولة موجودة. لذلك فإن هناك قلقاً في مفهوم المواطنة. وإذا كان الدستور هو القانون الأساسي للدولة الوطنية، فهناك “قانون” أعلى منه، خصوصاً عند الإسلاميين، وهو الشريعة. من هنا هذا الجدال الذي ما زال قائماً حول طبيعة الدستور، وهل هو قانون أساسي أعلى يوضع وضعاً، أم لا بد من خضوع نصوصه لأحكام الشريعة؟
والآن، وبعد أن أسفر الربيع العربي عن انهيار دول والخطر الإرهابي المُحْدق بدول أخرى أصبحت الحاجة الأولى أن تكون هناك دولة، ولو لم تكن ديمقراطية. فالحاجة إلى الأمن أصبحت راجحة على الحاجة إلى الحريات الديمقراطية. ولكن، ينبغي للديمقراطيين في بلداننا أن يظلوا يطالبون بدولة تحفظ الأمرين معاً: الأمن والحريات الديمقراطية وهو ما تضمنه الدولة الديمقراطية.
- الثقافة نتاج نظام التربية والتعليم. فما الثقافة التي تنتجها مدارسنا وجامعاتنا؟ وهل هي ثقافة تدمج حامليها في عالم اليوم؟ وهل تنتج رأسمالاً بشرياً يملك روح المبادرة والقدرة على الابتكار؟ وهل نظام التربية والتعليم يعلّم الاستعداد المستمر للتعلّم؟
– من المعروف أن التعليم ينبغي أن تساير أعداد مخرجاته نمو الاقتصاد. وهو في بلداننا ليس كذلك. ثم إن هيمنة التقليد على مناهج التعليم وطرق التدريس تجعله غير مساير لمستوى المعارف والخبرات في عالم اليوم. لكن الأخطر من هذا هو وجود طبقية معرفية ناتجة عن وجود نوعين من المدارس والجامعات: مدارس وجامعات الدولة، ضعيفة التجهيزات ومحتوى المناهج، وفي اللغات الأجنبية، المتخرجون والمتشربون منها إما يشتغلون بوظائف ومهن متدنية، أو يُلقى بهم إلى البطالة. والنوع الثاني هو التعليم في المدارس والجامعات الخاصة، خرّيجوه فرصهم في العمل أفضل، ويعتمدون على شبكات علاقات عائلاتهم لاحتلال مواقع مرموقة في الإدارة وفي القطاع الخاص.
إنّ فشل التعليم العمومي لا يقاس فقط بالخسارة الاقتصادية، وإنّما أيضا وبسبب فشل مخرجاته يُهيئ بيئة قابلة للاستقطاب من طرف جماعات التشدّد والإرهاب.
لذلك فالتعليم الذي يُعوّل عليه لتوسيع قاعدة الديمقراطية الاجتماعية، وأن يكون مصعداً لإحداث نقلة اجتماعية، وبسبب انشطاره إلى تعليم نافع، وتعليم النخبة، وتعليم غير نافع، وتعليم أغلبية الشعب، أصبح يرسخ طبقية معرفية وشرخاً ثقافياً في مجتمعاتنا، ويهيئ بيئة حاضنة للرفض والعنف.
- ثمة تبدلات تحدث في الدول الأوروبية والغرب، حيث نشهد انتكاسة لقيم الحداثة الأوروبية وصعوداً للديمقراطيات الشعبوية، وانغلاقاً أمام المهاجرين الهاربين من جحيم الشرق الأوسط، وبروز القومية العرقية. كيف تقاربون هذه الظواهر؟ وهل هناك نظرة تشاؤمية في الطرح؟
– هناك ظاهرة جديدة في الغرب، وهي صعود الشعبوية اليمينية. وهي معادية للمهاجرين وخاصة المسلمين منهم، وهي ضد العولمة، وهي أيضاً معادية للنخبة السياسية والمالية والثقافية. هي تعادي المهاجرين، خصوصاً المسلمين، ليس فقط لأسباب اقتصادية حين تجعلهم مسؤولين عن تفاقم البطالة، وإنما أيضا لأنها ترى فيهم تهديداً لهوية الغرب الثقافية. وهي بذلك تتنكَّر للقيم الحقوقية والإنسانية التي طالما اعتدّ الغرب بأنه هو واضعها، وعلى رأسها المساواة في المواطنة وفي الحقوق الإنسانية، وذلك بإقصاء المسلمين الأوروبيين وعدم معاملتهم كمواطنين كاملي المواطنة ولو كانوا يحملون جنسيات بلدان أوروبية أو وُلدوا فيها. كما تتنكّر لمبادئ ديمقراطية كالحق في الاختلاف والتعدّدية الثقافية حين يتعلق الأمر بالمهاجرين المسلمين وسلالتهم. وهذه الشعبوية اليمينية المتطرفة عزّزت صعودها وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أضعف الأحزاب السياسية التي كانت تقوم بدور التأطير السياسي للمواطنين وتأطير الحملات الانتخابية لمرشحيها. وأيضا فإن اعتماد هذه الشعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي أضعف دور الصحافة في تكوين الرأي العام. فالصحافة عادة هي مصدر الأخبار ومعرض الآراء، أما في وسائل التواصل الاجتماعي فقد أصبح مستقبِل الأخبار والآراء هو مرسلها أيضاً وليس مُستقبلِاً لها فقط. والشعبوية أنانية بوطنيتها الشوفينية الضيّقة، تدير ظهرها لقضايا العالم ومآسيه، مُتخلّية عن مبدأ حقوقي إنساني وهو مبدأ التضامن بين البشر. لذلك فإن الشعبوية تشكل تراجعاً خطيراً عن المبادئ والقيم الحقوقية والإنسانية، وتقيم جداراً سميكاً بين الغرب وبقية العالم، وتعلن على الإسلام جهاداً خصوصاً باسم الدفاع عن حضارة الغرب.
فالشعبوية الصاعدة اليوم في الغرب تتنكر للمبادئ الحقوقية والإنسانية للغرب؛ كالمساواة في الإنسانية والمواطنة، والحقوق الثقافية والتعددية الثقافية، ومبدأ التضامن الحقوقي والإنساني بين البشر، ليبقى الغرب الذي تدافع عنه غرباً عنصريّاً إقصائيًّا يدير ظهره للعالم.