يُبرر طلب الأحزاب السِّياسية العون مِن جهة أجنبية لمواجهة احتلال ما، أو مواجهة كارثة، يكون فيها الوطن على حافة الهاوية، أو دخل في الهاوية نفسها، لكن ما لا يُبرر أن يُطلب عون خارجي، وتجنيد المواطنين، تحت شعار ديني أو غيره، في ميليشيات، وعسكرة الشَّباب، لأجل إسقاط السُّلطة. هذا ما حدث للعراق أكثر مِن مرة، وربَّما ظرف الحرب العالمية الثَّانية، وهيمنة قوى تابعة للمحور، ووجود بريطانيا كدولة حاضنة للعراق آنذاك، والعمل على إسقاط الدَّولة الدّستورية، والتي تأسست بحماية بريطانية، دفع إلى دخول الجيش البريطاني وإعادة الوضع إلى نصابه (1941)، في حادثة شهيرة عُرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني، التي انتهت خلال شهور.
لكن بعد قيام الجمهورية، بسقوط العهد الملكي، الذي كان الإخوان المسلمون ضده أيضاً، ماذا يُبرر طلب جيش خارجي لاجتياح العراق، ويكون منطلقاً من الجمهورية العربية المتحدة، من دمشق تحديداً حيث دولة الوحدة مع مصر (1958-1961). كتب محمد محمود الصَّواف، مراقب الإخوان المسلمين الأسبق بالعراق، رسالة إلى الرئيس جمال عبدالنَّاصر (1959) يطلب منه فيها تسليح فصائل عراقية، وتحضير جيش يُدعم مِن إيران وتركيا والأردن لاجتياح بغداد، وإسقاط النظام، وقيام دولة تكون ضمن دولة الوحدة “الجمهورية العربية المتحدة”.
جاء في رسالته بعد أن شرح له معاناته شخصياً، والوضع الجديد القائم: “أقول لسيادتكم، وأنتم السياسي الكبير، إن معركة العراق إنما هي معركة العرب والإسلام، والعِراق إما أن يكون باب خير وإما أن يكون باب شرٍّ، وقد التقت في معركته هذه مصالح المستعمرين والشّيوعيين والصُّهيونيين، وكلُّها تستهدف سيادتكم، ومِن ورائكم الشَّعب العربي المسلم” (الصَّواف، مِن سِجل ذكرياتي”.
غير أن الهدف الذي جعله الصَّواف في هذا الاجتياح هو مِن أجل الله والشَّريعة، فتراه يقول: “وفي يقيني أن أول مَن نركن إليه في هذه المعركة إنما هو الله، عزَّ وجلّ، وإذا أوينا إليه فقد أوينا إلى ركن شديد. ثم نعلنها جهاداً في سبيل الله، ودفاعاً عن شريعته، والله يهدينا إلى طريق النَّصر المبين”.
لم يكتف الصَّواف بهذا الهدف وإنما حوَّل طلبه هذا إلى قضية كفر وإيمان، يعني أرض الإسلام وأرض الكفار، ففي غضبة حزبية تحول العراق إلى بلاد يحكمها الكفار، مع أن السُّلطة حينها معلنة في دستورها “الإسلام دين الدولة الرَّسمي”، ولم يتغير شيء مما كانت عليه في العهد السَّابق، بما يخص الدِّين، غير النزاعات الحزبية، وما هي إلا تسعة أشهر حتى انتهت هيمنة الحزب الشيوعي العراقي مِن الشَّارع، وأنه لم يشترك في الوزارة، والمعارك كانت بين الأحزاب والجماعات، هذا يريد الوحدة العربية وذاك يريد الاتحاد العربي.
لم يأخذ الرَّئيس جمال عبدالنَّاصر بمضمون الرِّسالة، ويتورط بالغزو آنذاك، مع وجود جيش عراقي محارب، لم تهلكه حرب ثماني سنوات ولا ثلاثة عشر عاماً مِن الحصار، ولا فرض العقائدية الحزبية، مثلما حصل مع الجيش نفسه السنة 2003، فعبدالنَّاصر عسكري والمخاطر لو أخذ بمنطق مراقب الإخوان المسلمين الأسبق. بعدها قال الصواف مشجعاً على الغزو، ومن بوابة الدِّين: إنها “معركة الإسلام والكُفر ليس إلا، والعيب الأكبر في جمال عبدالنَّاصر عندهم هو أنه مسلم، ويكفي ذلك لأن يؤلب عليه الشّرق والغرب” (المصدر نفسه).
فإذا عجز العمل عن إسقاط السُّلطة العراقية –آنذاك- ترى الصَّواف يقترح الآتي: العمل السَّريع لتسليح المنظمات السِّياسية، وتسليح العشائر العربية والكُردية، والتفاهم مع تركيا وإيران لتسليح العشائر، وإعلان التطوع العام للعراقيين المقيمين بمصر وسوريا، لتأليف جيش شعبي، وتقوم الجمهورية العربية المتحدة بتسليحه وتدريبه، فإذا دخل هذا الجيش الحدود العراقية ستشتعل الثورة. ونرى الصَّواف ضامناً لنجاح هذا الاجتياح لبلاده بالقول: “وإنني أستطيع أن أجزم وأضمن مثل هذه الثَّورة داخل العِراق، إذا دخلت طلائع جيش التحرير إلى الحدود العِراقية” (المصدر نفسه).
لم يكتف بذلك، بل اقترح أن تتقدم هذا الجيش فتاوى تكفير مِن رجال الدِّين، السُّنَّة والشِّيعة، قال: “فإذا استطعنا استصدار مثل هذه الفتوى مِن هذه الكمية والنَّوعية، من علماء المسلمين في مختلف الأمصار، وإنني على استعداد لأخذ موافقة بعض إخواننا علماء الشِّيعة للتوقيع عليها، إذا استطعنا ذلك سيكون لها دوي في العالم الإسلامي…” (المصدر نفسه).
كان الطَّلب خطيراً، بينما وراء تلك العواطف الغاضبة نزاعات وأحقاد حزبية، مارستها الأطراف جميعاً، لكن على رجل الدِّين تكون المسؤولية أكبر في المساهمة بحفظ السلم الاجتماعي، بينما يمكن اعتبار الرِّسالة خطيرة مثلما تقدم، لأنها زجت الدِّين في السياسة، بالانطلاق من فصل المجتمع إلى فسطاطين، الكفر والإيمان، ولم يفكر منشؤها بالنتائج والدماء التي ستسفك فوق ما هي مسفوكة. لم يكن هذا الأمر منتهياً، فالجماعات العقائدية، على مختلف مشاربها، لم تتأخر في هتك الحدود الوطنية، لرايات تعتقد أنها ستسلمها السُّلطة، وبأي ثمن كان.
سيعترض الكثيرون بالقول: وهل الصَّواف كان الوحيد الساعي في هذا الهتك؟! طبعاً لا، فالجماعات الدِّينية، التي صار لها نصيب في السُّلطة الآن، كانت تقف في مقدمة الجيش الإيراني لاحتلال بغداد، ونادت بشعار “ذوبوا في فلان وفلان…”، وكانوا ينتظرون السلطة من شبابيك الجار الجنب، أما مَن كان يضع الوقود في الآلة الأمريكية لغزو العراق، فالنتائج تشرح الكثير، فالوعود ذهبت هباءً، وهل ستكون النتيجة أفضل لو نجح مراقب الإخوان في مسعاه باجتياح العِراق، وتوزيع العراقيين على الميليشيات؟!
إذا جُعل الدِّين سياسةً، لتبرير اجتياحات للأوطان وتشكيل ميليشيات وتجييش فتاوى تكفير، لأبي الحسن محمود الوراق (ت 230هـ) حقُ في القول: “والسُّقمُ في الأَبدان ليس بضائرٍ/ والسُّقْمُ في الأَديان شرُّ بلاءِ” (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة)، فليس هناك بلاء على الدِّين مثل زجه في نزاعات حزبية وأهداف سياسية. لا نشك بتدين الشَّيخ الصَّواف ولا بقية الإسلاميين، لكن السِّياسة والحزبية ليست ركناً مِن أركان الدِّين، كي يفسر طلب الاجتياحات مِن أجل الله.