تقديم
دفعت الأزمة السورية إثر تفاقم «العنف الإسلاموي المسلح» والصراع الدائر في الشرق الأوسط بين القوى الدولية الكبرى والتحولات السياسية الجارية في الإقليم، إلى انفجار المد الجهادي العابر للحدود، لا سيما بعد سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي على أجزاء من الأراضي السورية وعلى الموصل والمناطق المحيطة بها. وقد شكل قيام ما يسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أرضاً لجذب «المقاتلين» من جنسيات مختلفة، بعد دعوة زعيم «داعش» أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي) من سماهم بـــ«الجهاديين» للهجرة إلى «دولة الخلافة» المعلنة في مناطق من سوريا والعراق. وأدى هذا «النفير» وغيره من العوامل السياسية والإقليمية إلى تنامي الاستقطاب الجهادي والتحاق أعداد كبيرة من المقاتلين ببؤر التوتر على امتداد خرائط الحرب.
وفي ضوء تفاقم «الجهاد» و«الجهاد المضاد» في أماكن النزاعات المسلحة، خصوصاً في سوريا وليبيا واليمن والعراق، والذي يتفاعل مع الاحتداد الاستراتيجي والمذهبي، أصبحت عودة المقاتلين إلى بلدانهم هاجساً لدى العديد من الدول في المنطقة العربية وأوروبا التي تعمل على اتخاذ الاحتياطات ووضع معادلات الأمان والتصدي للمخاطر التي يمكن أن يحملها «العائدون». وبصرف النظر عن الجنسيات الطاغية على «الجهاد المعولم»، ليس «جذب الجهاديين» ظاهرة جديدة على العالمين العربي والإسلامي، إذ شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم ما يعرف بــــ«الأفغان العرب» الذين خاضوا عمليات عسكرية ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان ضمن منظور «جهادي سلفي»، وأصبح هؤلاء لاحقاً عبئاً أساسياً على بلدانهم بعد عودتهم، كما لو أن التاريخ يكرر نفسه.
يعالج كتاب المسبار «عودة المقاتلين من بؤر التوتر: التحديات والإمكانات» (الكتاب السابع والعشرون بعد المئة، يوليو (تموز) 2017) ملف «عودة المقاتلين من بؤر التوتر» إلى أوطانهم، ويركز بشكل أساسي على دول المغرب العربي وعلى «الجهاديين الأوروبيين»، تحديداً أولئك القادمين من فرنسا، آخذاً بالاعتبار التجارب السابقة في كيفية تعامل الدول مع النتائج السلبية المترتبة على هذه العودة وفي مقدمتها التجربة الجزائرية ما بين عامي 1989 و2003 في احتواء «الراديكالية الجهادية» وضبط مخاطرها. تناول الباحثون المشاركون موضوعات أساسية على اتساق مباشر بالخطوط العريضة الآتية: ولاءات «الجهاديين» والتحاقهم بالتنظيمات الجهادية، وشرح سيرورة التطرف الإسلاموي، وتحليل الجذب الجهادي من منظور أيديولوجي وسياسي: التعبئة والتحريض، وتفسير الدوافع والديناميات المؤدية إلى ولادة جيل جديد من الجهاديين أشد تطرفاً من الجيل السابق، والخلايا الجهادية النائمة في أوروبا، والتحديات السياسية والدينية والثقافية الماثلة أمام الدول بعد عودة المقاتلين، والأزمات العميقة المنتجة لظاهرة التحاق الشباب بالتنظيمات والجماعات الإرهابية.
تجاوزت الدراسات هذه الأطر العامة والمهمة، فركزت على تفاصيل أخرى من بينها: «تاريخ التحاق الجهاديين» في أراضي المعارك في سوريا بعد «عسكرة الحراك الاحتجاجي»، و«شبكات التجنيد وآلياتها»، و«خريطة توزيع المقاتلين في جغرافيا النزاعات»، و«مشاكل الإرهاب داخل المجتمعات الغربية»، و«دوافع الجهاديين للانضمام إلى داعش في سوريا والعراق»، و«استراتيجيات العفو وإعادة تأهيل الجهاديين المعتقلين».
تطرق الكتاب إلى «السيرورة المعقدة لنزع التطرف والتخلي عن الانتساب الجهادي»، وتلاحظ إحدى الدراسات -في سياق نقاشها للأسباب الفردية أو الجماعية المؤدية إلى منطق الخروج من الجهادية– (أن لكل أنماط التخلي سمة سياقية، فالأمر لا يتعلق بتحديد العنصر الذي مثّل المنطلق، بل يتعلق بالبرهان على أن أصل التخلي إنما يتأتى عن تداخل متغيرات متعددة تأتي لتفسر مجتمعة «معادلة التخلي»، وحينها تصبح الفرضية قائمة على أن أسباب الخروج هي نتاج «خيبة أمل جهادية» تتميز بعدم التطابق بين التطلعات الفردية وإمكانات تحقيقها وسط الحركات الجهادية. ثمة هوة تتفتح بين ما يحقنه التنظيم وبين إرشاداته الخاصة. ويتقلص الارتياح الشخصي المرتبط بالالتزام، الأمر الذي يؤدي إلى الارتداد). قد تكون هذه الخلاصة من بين أكثر الخلاصات نباهة في فهم «الخروج عن الانتساب الجهادي»، ويتضح ذلك مما تقدمه من مقاربات جديدة تنزع نحو ما هو «شخصي» وربما ينطبق ذلك على «التائبين» من الجهاديين الفرنسيين والبلجيكيين.
يحتل خطر «المقاتلين الأجانب» مرتبة متقدمة في الأجندات الدولية، ولا ينحصر بالمجالين الشرق أوسطي والإقليمي، فأمام أوروبا تحديات كبرى إزاء «هذا الدفق» الجهادي الأوروبي إلى «أراضي الجهاد». وعلى الرغم من عدم توافر بيانات دقيقة وشاملة حول أعداد «الجهاديين الأوروبيين»، «لكن يمكن التقدير بأن ما لا يقل عن (30،000) مقاتل أجنبي جهادي وصلوا إلى سوريا والعراق منذ عام 2011 من أكثر من (100) بلد. وجاء نحو خُمس هؤلاء الأفراد من الغرب، لا سيما أوروبا. ولا يتماثل حجم المشكلة في كل بلد أوروبي. فقد جاءت أكبر المجموعات من فرنسا (1700) مقاتل أجنبي على الأقل، وألمانيا (760)، والمملكة المتحدة (760)، وبلجيكا (470)، والسويد (300)، والنمسا (300)، وهولندا (250)».
يكمن التحدي الأبرز أمام أوروبا والعالم في النماذج الجديدة الذي تطرحها «الصور الجديدة من إرهاب داعش»، فإلى جانب «الخلايا النائمة» و«الذئاب المنفردة» تفجر «إرهاب الدهس بالسيارات» وهو نمط جديد يطل علينا. وفي سبيل معاينة قريبة تمّ التطرق إلى «خلية ليبيت دي شيمون [الإرهابية] في فرنسا» كعينة تكشف عن عمق الأزمة التي تواجه السلطات الفرنسية من جهة، والمسلمين الفرنسيين من جهة أخرى. وفي هذا السياق يمكن تسجيل سمات عدة حول ملامح الإرهابيين المنتمين إلى الجيل الثاني من المهاجرين في فرنسا: الانخراط في الحياة الليلية، وغياب نمط التدين المتطرف، وعدم تبني الأيديولوجيا السلفية، وأخيراً الترابط بين الشبكات الإرهابية.
درس الكتاب «عودة المقاتلين من بؤر التوتر» إلى أوطانهم في ثلاث دول: تونس والمغرب والجزائر، محدداً أهم المعالجات والاستراتيجيات الوقائية المتخذة من قبل بعض دول المغرب العربي، أمنياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. أولت إحدى الدراسات اهتماماً بــ«التحدي الثقافي» في الحالة التونسية التي تسجل أكبر نسبة في أعداد المقاتلين الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية في سوريا، مشيرة إلى تحديات ثقافية عدة من ضمنها: تحدي التعليم الديني، وأزمة المنظومة التعليمية. أما في المغرب «فيمكن ملاحظة أن أصول أغلب المتطوعين من الناحية الجغرافية تنحدر من مختلف مناطق المملكة المغربية. إلا أن تسليط الضوء على التوزيع الجغرافي للمناطق التي تصدر الجهاديين، يشير إلى أنه في حدود عام 2014 هيمنت مناطق بعينها على مناطق أخرى. وهنا تبرز المناطق الشمالية والغربية للمغرب وخصوصاً مدن: سبتة ومليلية وطنجة والمضيق وتطوان وسلا والبيضاء وفاس».
إن الاستراتيجيات الوقائية والتأهيلية والاستباقية في مواجهة ظاهرة «عودة المقاتلين من بؤر التوتر» باتت تشكل موقعاً مهماً في أولويات العديد من الحكومات العربية والأوروبية، وبُذلت جهود ملحوظة لا سيما من قبل الدول الأكثر تصديراً لــــ«الجهاديين»، فطُرحت تدابير وإجراءات تهدف -بالدرجة الأولى- إلى الحد من التداعيات. ففي المغرب –على سبيل المثال– «تراوحت» المقاربة [الحكومية] بين تدابير أمنية متّصلة بتفكيك الخلايا واعتقال العناصر الإرهابية وتعريضهم للمحاكمة، وتشديد المراقبة على الحدود، وتطوير المنظومة الأمنية كسبيل لمواكبة التطورات التي تشهدها العمليات الإرهابية، وما أصبحت تطرحه من إشكالات عابرة للحدود، وإصدار مجموعة من التشريعات الرامية إلى مواكبة مخاطر الظاهرة، علاوة على تطوير ومراجعة آليات تدبير الشأن الديني، بما سمح بإصلاح هذا الحقل عن طريق منع استغلال هذا المجال الحيوي من قبل بعض الجماعات والأشخاص، في تكريس التطرف والعنف داخل المجتمع، حيث تم تعزيز إمكانات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وإعادة هيكلتها، وتفعيل دور العلماء، وتعزيز مراقبة المساجد، وتطوير وتحديث تدريس التربية الإسلامية في مختلف المؤسسات التعليمية، وتطوير تناول الإعلام الرسمي للشؤون الدينية.
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل محمد الحدّاد الذي أشرف على العدد، والزميل إبراهيم أمين نمر الذي نسقه، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
يوليو (تموز) 2017
شاهد فهرس الكتاب