ساد اعتقاد بأنّ الأمراض باتت تحديا، يمكن السيطرة والتغلّب عليه بسهولة، مع التقدم الذي حققته البشرية، ونظمها المستقرة. ولكنّ هذا اليقين الواثق انهار أمام جائحة انتشار فيروس “كوفيد- 19. فتنامت التحليلات التي سعت إلى مناقشة تداعيات الجائحة”، على الدولة والعلاقات الدولية.جاء أكثرها متشائمًا، ولم يستند معظمها إلى أية أطر نظرية؛ واستعانت أخرى، بنظرية المؤامرة؛ واستند غيرها إلى إطار نظري واحد في استشراف المستقبل.
نقدم هنا، الأطر النظرية الأساسية في حقل العلاقات الدولية، حول تداعيات الأزمة الحالية على الدولة، والعلاقات الدولية، بالتركيز على المدرستين الواقعية والليبرالية.
فيناقش التقرير مقال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد الأمريكية ستيفن م. والت المنشور في موقع “فورن بولسي” بتاريخ 9 مارس (آذار) 2020[1]والذي يقدم رؤيته مستندًا إلى النظرية الواقعية حول آثار الأزمة المحتملة جراء الجائحة على الدول وطبيعة العلاقات الدولية.
على عكس المتوقع، يعتقد والت أنّ الوباء سيؤدي إلى تقوية الدولة، لكنه سيغذي سمة التنافسية بين الدول كذلك؛ وستتبنى الحكومات باختلاف أنظمتها إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وستكره الكثير من الحكومات التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الأزمة. معتقدًا أنّ الطبيعة التنافسية ستظل سمة السياسة العالمية.
يستند والت إلى أنموذج وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي وقع في الفترة الممتدة ما بين عامي1918-1919 الذي لم ينهِ تنافس القوى العظمى، ولم يبشّر بعصر جديد من التعاون الدولي. لذا يرى أنّ الأزمة الحالية ستدفع باتجاه خنق العولمة، وبالتالي خلق عالم أقل انفتاحا وازدهارًا وحرية!
يرى والت أنّ الأثر الأكثر وضوحًا بالنسبة لانتشار الفيروس، وحالة الطوارئ الدولية، التأكيد أنّ الدول لا تزال الجهات الفاعلة الرئيسة في السياسة العالمية. ويشير، بسخرية، إلى انهيار فرضية تضاؤل أهمية الدول في الشؤون العالمية، التي تبناها علماء ناقدون، كانوا يرون أنّ الجهات المجتمعية الفاعلةغير الدولة (Non-State Actors) مثل المنظمات غير الحكومية، والشركات متعددة الجنسيات، والإرهابيين الدوليين، والأسواق العالمية، تقوّض سيادة الدول،وستحل محل الدولة وتستحوذ على سلطاتها.
ويقول: بالرغم من الافتراض السابق، فإنّ الواقع أكد أنه عند ظهور مخاطر جديدة، تنظر المجتمعات أولًا إلى الحكومات الوطنية؛ للحماية. كما حدث بعد أحداث الإرهاب الدولي الذي ضرب نيويورك وواشنطن في أحداث الحادي عشر من سبتمبر(أيلول) 2001. وهكذا اليوم، تتطلع الشعوب في جميع أنحاء العالم إلى الحكومات لتقديم معلومات موثوقة وإعداد استجاباتٍ فعالة.
هذا لا يعني أنّ الجهود العالمية الأوسع نطاقًا ليست ضرورية، أو عديمة الأهمية؛ لكن الفيروس قام بتذكيرنا ببساطة، بأنّه على الرغم من العولمة، لا تزال الدول هي الأطراف السياسية المركزية في العالم المعاصر. وقد أكد الواقعيون هذه النقطة لعقود، ويقدم الفيروس تذكيرًا حيويًا جديدًا أيضًا.
استجابة الأنظمة السياسية المختلفة لفيروس”كوفيد- 19″
على الرغم من أنّ التنظيرات الواقعية، الأكثر بنيوية تميل إلى التقليل من التمايزات بين وظائف الدول، التي تكون أوّل أولوياتها حماية الدولة ومصالحها، بصرف النظر عن التمايز في القوة النسبية، فإنّ الاستجابات حتى وقتنا الحاضر لتفشي الفيروس تكشف نقاط القوة والضعف لأنواع مختلفة من الأنظمة.
اقترح فلاسفة سياسيون سابقًا أنّ تكون الأنظمة الشمولية Totalitarianism أكثر عرضة للمجاعات والأوبئة والكوارث الأخرى. ويرجع ذلك -إلى حد كبير- إلى أنّها تميل إلى قمع المعلومات، ولا يدرك كبار المسؤولين خطورة الوضع إلا بعد فوات الأوان.
يمكن للحكومات الشمولية Totalitarianism أن تكون جيدة في تعبئة الموارد والقيام باستجابات طموحة. ويشيد بقدرة بكين في عزل مدن بأكملها ومواجهة الوباء؛ لكنه، ومن جهة أخرى، ينتقد تأخر الإقرار بالأزمة والسماح بتدفق المعلومات.مشيرًا إلى أنّ المعلومات تتدفق بحرية أكبر في الديمقراطيات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى وسائل الإعلام المستقلة، وقدرة المسؤولين على إصدار الإنذار دون أن يعرضوا أنفسهم لعقاب. ويستند في طرحه هذا إلى وجوب أن تتمتع الأنظمة الديمقراطية بقدرةٍ أكبر في تحديد الإشكاليات.
تتمحور الإشكاليات الأساسية بالنسبة للديمقراطيات عند محاولة تصميم وتنفيذ الاستجابات في الوقت المناسب؛ قد يكون هذا النقص حادًا في الولايات المتحدة. نظرًالكون الجهات الأساسية التي تؤدي العمل الحقيقي في حالات الطوارئ، هم بالغالب تحت سيطرة عددٍ كبير من حكومات الولايات أو الحكومات المحلية. وما لم يكن هناك تخطيط مسبق مناسب وتنسيق فعّال من واشنطن، وهو أمر ليس من السهل تحقيقه في أفضل الظروف، وبالتالي قد تعاق العملية.
يقول والت: “لسوء الحظ، تجمع استجابة دونالد ترمب للفيروس، بين أسوأ سمات الأنظمة الشمولية والديمقراطية؛إذ تخلط ما بين التعتيم الإعلامي، والتضليل، وعدم الكفاءة. بعد أن قام سابقًا بتخفيض الاستعداد للكوارث في جميع أنحاء الحكومة الفيدرالية وفي البيت الأبيض نفسه، قللّ ترمب باستمرار من خطورة تفشي الفيروس، وتجاوز تقييمات العلماء المؤهلين، وفشل في تنسيق استجابة اتحادية فعّالة، واختار المعارك مع المسؤولين المحليين، الذين هم في الخطوط الأمامية، وألقى باللوم في الأزمة الحالية على الإدارة الأمريكية السابقة”.
فيروس كورونا: تصاعد التنافسية وانكفاء الدول على ذاتها
تنظر الدول بقلقٍ شديد إلى ما يفعله الآخرون، ولديها حافز كبير لتقليد النجاح في عالم تنافسي. يشير هذا المنظور إلى أنّه في الوقت الذي تطوّر فيه بعض الدول استجابات أكثر فاعلية للفيروس، ستتبعها دول أخرى بسرعة. وبمرور الوقت، ستظهر مجموعة من أفضل الممارسات العالمية، وهي عملية ستحدث بشكلٍ أسرع إذا شاركت الدول معلومات دقيقة مع بعضها، وامتنعت عن تسييسها، أو استخدامها للحصول على امتيازات.
لكن ولسوء الحظ، تذكرنا الواقعية أيضًا بأنّ تحقيق تعاون دولي فعّال بشأن هذه المسألة قد لا يكون أمرًا سهلًا؛ على الرغم من الحاجة الواضحة لذلك. يدرك الواقعيون أنّ التعاون يحدث طوال الوقت، وأنّ المعايير والمؤسسات يمكن أن تساعد الدول على التعاون، عندما يكون من مصلحتها القيام بذلك. لكن الواقعيين يحذرون أيضًا من أنّ التعاون الدولي غالبًا ما يكون هشًّا؛ إمّا لأن الدول تخشى ألّا يلتزم الآخرون بالتزاماتهم، أو تقلق من أنّ التعاون سيفيد الآخرين أكثر مما يفيدهم، أو يرغبون في تجنب حمل أعباء غير متناسبة والتكاليف.
كما تشير الواقعية في السياسة الخارجية أيضًا إلى أنّه إذا لم يهدأ الوباء بسرعة بشكلٍ أو بآخر (مثلما حدث مع مرض السارس عام 2003)، سوف يعزز الاتجاه المتزايد نحو إزالة العولمة. يشير والت إلى اعتقاد أنصار العولمة بأنّ العالم أصبح مترابطًا أكثر من أي وقت مضى من خلال الانفتاح في تنقل الأشخاص والبضائع والتكامل المالي العالمي، والثورة الرقمية، والتفوق الواضح للديمقراطية الليبرالية.
شهد العقد الماضي تراجعًا واضحًا عن تلك الرؤية المتفائلة، مع تزايد الأشخاص الراغبين في تبادل الكفاءة والنمو والانفتاح من أجل الاستقلال الذاتي، فعلى حد تعبير مؤيدي بريكستBrexitفي المملكة المتحدة، فإنّهم يريدون “استعادة السيطرة”.
بالنسبة للواقعيين، فإنّ رد الفعل هذا ليس مفاجئًا. كما أكد الواقعي كينيث والتز (1924-2013) في نظريته التي جاءت في كتابه “نظرية السياسة الدولية”،اتجاه الدول إلى العناية بمصالحها بصفتها أوّل الأوّلويات وأهمها. كما قدم الواقعي المسيحي رينهولدنيبور (1892-1971) تحذيرًا مماثلا في ثلاثينيات القرن العشرين، كتب فيه أنّ تطور التجارة الدولية وزيادة الاعتماد الاقتصادي بين الدول سيؤدي إلى زيادة الإشكاليات بين الدول بطريقة أسرع بكثير مما يمكن إيجاد طريقة لإصلاحها. لذا تحاول الدول -الوحدات الأساسية في السياسة الدولية- الحد من المخاطر ونقاط الضعف من خلال وضع قيود على تعاملاتها مع بعضها البعض.
الخلاصة
ينقسم المنظرون في العلاقات الدولية إلى مدرستين رئيستين:الواقعية، التي تمّ إسقاط افتراضاتها النظرية الرئيسةعلى أزمة فيروس “كوفيد- 19” الحالية، وفقًا للمقال السابق عرضه. أما المدرسة الأساسية الأخرى فهي الليبرالية، التي تطغى على كل تنقيحاتها النزعة التعاونية. ويأتي التحدي الأساسي للواقعية من النظريات الليبرالية، التي ترى أنّ الاعتماد الاقتصادي المتبادل وانتشار الديمقراطية يعيقان الحروب. وفي اتجاه نظري أحدث، ترى أنّ المؤسسات الدولية، تساعد في التغلب على النزعات الأنانية، لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم.
همش الكاتب افتراضات هامة في النظرية الليبرالية. فقد فرضت تحديات النظام العالمي نوعًا من التقارب النظري بين الاتجاهين التقليديين في التنظير للعلاقات الدولية الذي تشكل مع بروز وتعقد جملة من التحديات العالمية، من بينها الإرهاب، وخطر الأوبئة وغيرها؛ وباتت تلتقي مع النظرية الواقعية بمحورية الدولة في النظام الدولي، وقالت بضرورة تقوية مؤسسات الدول، ودعم سيادة القانون، والمساءلة، فضلا عن دعم المؤسسات في الدول الهشة والفاشلة، بدلا من الاتجاه الليبرالي الكلاسيكي الذي دعا إلى دورٍ مقيد للدولة. مؤكدة أهمية التعاون الدولي، والعمل متعدد الأطراف؛ وتأتي هذه الدعوات في ظل اعتقاد منظريها أنّ العالم بات أكثر ترابطا وتشابكا واعتمادية، وانتقال أثر التحديات التي تحدث في دولة ما، لتؤثرعلى كل الدول، ولا تستثني أياً منها، نتيجة لخصائص العولمة.
يبدو أنّ الوقائع السياسية والاقتصادية بعد الأزمة، قد أضافت صدقية على الاتجاه الواقعي؛فقد اندفع الكثيرون لمناقشة انكفاء الدول على ذاتها، وتغذية القومية، وتوقعات بصعود اليمين، واتجاه الدول لمزيد من التدقيق أو الإغلاق لحدودها. فضلا عن سعي معظم الدول إلىالالتفات لشؤونها الداخلية. وقد عُد موقف الكثير من الدول تجاه بعضها البعض، ولا سيما غياب الاستراتيجية الموحدة لدول الاتحاد الأوروبي، أو أقلها مساندة المنظومة لأعضائها؛ أنموذجًا لهذا الاتجاه.
عجلة التاريخ لا تسير إلى الوراء
على الرغم من الطرح السابق، يرى أنصار الليبرالية أنّ التعاون الدولي يصبح أكثر أهمية نتيجة التهديدات العالمية. وأنّ الدول لن تتمكن من مواجهة هذه التهديدات لوحدها، مهما كانت قوتها، لذلك فإن التعاون الدولي والمؤسسي يكون الطريق الأمثل لتخطي الأزمات والأوقات الصعبة مثل الجوائح، والأوبئة، والتحديات الأخرى مثل الفقر وأزمات الهجرة واللجوء وقضايا التسلح والتغير المناخي وغيرها. وتلعب المنظمات الدولية والمؤسسات غير الحكومية دورًا إيجابيًا في هذا الاتجاه. وبالتالي تقلل الانغلاقية والانكفاء على الذات من ميزات الانفتاح والتعاونالدولي في المواجهة الجماعية للتهديدات العالمية، وهذا ما ينطبق كذلك على تقويض فرص الاستفادة من مميزات النظام العالمي.
الارتداد عن العولمة:ليست حتمية بل وغير مرجحة!
ذهبت تحليلات أخرى مدىً أبعد، منها ما أشار إلى احتمالية انهيار النظام العالمي الحالي، بمؤسساته وطبيعته، وتبدل القوى الرئيسةفيه، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي؛ مستندة إلى الأزمة الحالية، والأزمات الاقتصادية والسياسية المتراكمة كذلك. لكن القضية أعقد من هذه الاتجاهات التبسيطية وتحتاج إلى ظروف وعوامل متعددة لازمة لإحداث التغيير؛ كما يشير محللون وخبراء استراتيجيون وفلاسفة سياسيون في تحليل العلاقات الدولية.
تجري التحولات الحالية باتجاه معاكس للعولمة؛ نتيجة للأزمة الطارئة وتوجهًا لاحتوائها فقط؛ لكن هذه الحركة ليست حتمية. ففي حال تمكنت الحكومات الوطنية من السيطرة على الأزمة الحالية، أو التغلب عليها في غضون الأشهر الستة أو السنة المقبلة، فمن المرجح أن يعود العالم إلى المسار السابق.
همش والت الافتراض الرئيس والجوهري في النظرية الواقعية، وهو محورية المصالح في العلاقات الدولية؛ ستسير الدول كما كانت وفقًا لمصالحها، التي ستشكل بوصلتها في علاقاتها؛ وهذا الافتراض، الذي تتشاركه كذلك مع افتراضات الليبرالية؛ لكن مع اعتقاد الأخيرةبأنّ الفرص في تحقيق التعاون تظل أكبر مما ينظر إليه الواقعيونفي ظل فوضى النظام[2].وبالتالي من غير المرجحأن يحدث تغير جذري متوقع في خارطة العلاقات الدولية.
من المتوقع أن تتصاعد “التحركات” السياسية على صعيد السياسة الدولية، بين أنصار الانفتاح والانغلاق. والآمال تتجه أن تنحو الدول إلى تحقيق المزيد من التعاون على مستويات عدة؛ إذ أكدت الأزمة الحالية أنّ مصائرنا مرتبطة، والمهددات لا تستثني أحداً، والمهم، توحيد الاستجابات أمام شكل مستقبلنا.
لن يكون الانكفاء على الذات هو العلاج للإشكال الحالي؛ فالأوبئة تجتاز الحدود المغلقة، كما اجتازتها الأمراض منذ قرون خلت. وبدلا من ذلك، يجب أن يكون الحل في حاجة صانعي السياسات بالفعل إلى إعادة التفكير في كيفية إدارة مخاطر التهديدات بشكلٍ جماعي.
وفي الختام، من المستبعد -على عكس ما توقعكثيرون- أن تُغير الأزمة الحالية طبيعة العلاقات الدولية والنظام الدولي الحالي بشكل جذري؛ بالرغم من وجود إرهاصات تشكّل نظام جديد قد ننظره في المستقبل.
[1]– Stephen M. Walt, “The Realist’s Guide to the Coronavirus outbreak,” ForeignPolicy, 9 March 2020, https://foreignpolicy.com/2020/03/09/coronavirus-economy-globalization-virus-icu-realism/