هذا العنوان ليس لي، بل هو عنوانٌ لندوةٍ أقامها «مركز دراسات الوحدة العربية»، ومقره بيروت، مع المعهد السويدي بالإسكندرية عام 2015. والمعروف أنّ الأعوام بين 2013 و2018 كانت أقسى الفترات التي مرت على العرب والمسلمين في العقدين الأخيرين. ففي الوقت الذي كانت فيه الأنظمة تدافع عن نفسها بكل سبيل، صعدت الصحويات العنيفة وغير العنيفة. وانصبَّ جهد العالم كله على مكافحة الإرهاب بعد تجدد نشاط «القاعدة» بوسائل وأساليب شتى، وظهور طبعة «داعش» الفظيعة بكل المقاييس. وهكذا تعاظمت أنواع من المخاوف ووجوه القلق: الخوف من الإسلام والخوف عليه في ديارنا وفي العالم، والخوف من الدولة والخوف عليها.
وأريد في هذه العجالة أن استعرضَ جهود طرفين في الدعوة للتغيير والإصلاح، اتسمت بالإحساس العالي بالمسؤولية، والسعي للفعالية. والطرف الأول علمي وثقافي وحواري، والطرف الثاني يتمثل بالمؤسسات الدينية، وليس كل المؤسسات، بل تلك التي تميزت بجهودها في المكافحة والبدائل التجاوزية.
أما الطرف الأول فهو «كتاب المسبار» الذي يصدر من مؤسسةٍ فكرية وثقافية بدبي، وهي مركزٌ بحثي ودارٌ للنشر هو (مدارك). فقد أصدر الكتاب أحد عشر عدداً (هي التي اطّلعت عليها على الأقلّ) في استعراض الموجود في المجال الديني في التفكير والبرامج استعراضاً نقدياً، وفي الوقت نفسه نشر دراسات علمية في كيفية التجاوُز للسوائد، ومحاولة صُنْع البدائل المعتدلة، والتي يمكن السير فيها دونما مفاجأةٍ أو راديكاليةٍ أو ابتسار. هناك عشرات البحوث في «كتب المسبار»، عن التسننِ والتشيع، والأفكار وبرامج التعليم التقليدية، في العقائد والفقه والفتوى والتجديد. ولا يخلو الأمر من بحوثٍ تاريخية في هذه الموضوعات، لكنّ القائمين على كتاب «المسبار» الشهري، كان همهم الفكر والبرامج الحاضرة في المجال الديني، سواء أكانت ذات أصولٍ تقليدية أو أنها إصلاحية تعديلية. ثم إنّ كتب المسبار اهتمت أيضاً بالظواهر الجديدة في الإسلام الصحوي والسياسي، ونزعات الإحياء الأصولي، كما نزعات الإحياء الصوفي. أما القسم الثالث والأهمّ، فيتمثل في البدائل والخيارات الممكنة للخروج من مأزقي التقليد المحافظ، والإحياء الانشقاقي الصحوي والعنيف. لماذا هذه الإشادة بكُتب المسبار، مع أنّ عنوان المقالة مأخوذٌ من مؤتمر إصلاح المجال الديني الذي جمع شريحةً واسعةً من المثقفين عام 2015؟ لأنّ كتاب المؤتمر المذكور يعتبر التقليد هو المشكلة، بل ويعتبره أصلاً للثوران الإحيائي! بينما يرى باحثو «كتاب المسبار»، وعبر أكثر من عقد أنّ المشكلة هي في الثوران الانشقاقي الذي لم يكن التقليد أصلاً له، بل هو أحد ضحاياه، مثلما حصل للمجتمعات والدول والعالم كله. التقليد ليس حلاّلاً للمشاكل، لكنه ليس سبباً أو علةً لها؛ بل إنّ للثوران عللاً أُخرى، وهو يبحثُ عن شرعيةٍ له، باعتباره بديلاً للتقليد العريق والذي يريد إزالته بالقوة.
بين يديَّ كتابان صادران عام 2019 أحدهما من «مركز المسبار»، والآخر من «دار مدارك». أما كتاب المسبار فهو بعنوان: «المسيحية والإسلام: العلاقات، المعرفة، الأخوة»، وقد كتب فيه عدة باحثين جالوا في هذا المجال الواسع خلال خمسين عاماً وأكثر، وانتهوا إلى تأمل ذروة جهود العمل المشترك في وثيقة «الأخوة الإنسانية»، التي أعلن عنها بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر بأبوظبي في عام التسامُح بالإمارات. وكتاب مدارك هو للأستاذ تركي الدخيل بعنوان: «التسامُح زينة الدنيا والدين». والكتابان ليسا للتمدح أو الادعاء أنه لا توجد مُشكلات، بل هما يتضمنان بحوثاً رائعةً، وتقديراً للجهود المبذولة للخروج من السنوات والعقود العجاف باتجاه عالم العصر وعصر العالم. وهما مثل كتب «مركز المسبار» الأُخرى مفيدان بالفعل في استكشاف آفاقٍ جديدة واعدة للعلاقات المسيحية- الإسلامية، والعلاقات الإنسانية.
أما جهود علماء المؤسسات الواعدة بالفعل فالوثائق الثلاث: وثيقة الأخوة الإنسانية التي ذكرناها، وهي بمثابة إعلانٍ عالميٍّ جديد لحقوق الإنسان. فالمسلمون والمسيحيون هم نصف سكان العالم، والوثيقة ليست مصالحةً بينهم وحسْب؛ بل هي دعوةٌ للتآخي بين البشر من أجل مواجهة المشكلات التي تهدد الكون وعالم بني الإنسان. أما الوثيقة الثانية فهي وثيقة مراكش عام 2017 والتي أصدرها العلاّمة عبد الله بن بيه مع وزارة الأوقاف المغربية حول عيش المسلمين مع الآخرين في ديارهم وفي العالم. وهي تقصد إلى تجاوز مشكلة الأقلية والأكثرية. فإذا كان المسيحيون يشكلون أقلية في ديار المسلمين؛ فإنّ هناك خمسمائة مليون مسلم يعيشون في بلدانٍ هم أقلياتٌ فيها. ولذا فالمطلوب الخروج من منطق الأقلية والأكثرية وتحالف الأقليات.. الخ إلى منطق المواطنة.
والوثيقة الثالثة هي «وثيقة مكة المكرمة» التي أصدرتها «رابطة العالم الإسلامي» بمكة خلال مؤتمر الوسطية والاعتدال، وبحضور ومشاركة مئات العلماء من سائر أنحاء العالم الإسلامي وعوالم الجاليات والمهاجرين. وهي تنطلق من المنطق نفسه الذي انطلقت منه الوثيقتان الأُخريان، ودعوتها دعوة المواطنة الشاملة، والإنصاف والأخوة. وهذا المنطلق هو المنطلق الصحيح لإصلاح المجال الديني، لأنه عملٌ في مجال استكشاف آفاقٍ أُخرى لرؤيةٍ جديدةٍ للعالم.
وثيقة الأخوة الإنسانية هي إعلانٍ عالمي جديد لحقوق الإنسان. فالمسلمون والمسيحيون هم نصف سكان العالم، والوثيقة ليست مصالحةً بينهم وحسْب؛ بل دعوة للتآخي بين البشر من أجل مواجهة مشكلات الكون
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية.