-1-
لا يحب العقل الإسلامي التقليدي مصطلح “الإسلام السياسي”، الذي يستخدم كمرادف للأصولية الإسلامية المعاصرة: فهو فضلًا عن صياغته الحداثية المنحوتة في “الغرب”، والتي لم تعرف في أي سياق تراثي، ينطوي على إيحاءات علمانية مفترضة، ويشير ضمنًا إلى معنى تقسيمي مخالف لوحدة الدين الشمولية التي ينادي بها الإسلام، والتي تحتوي على كل شيء بما في ذلك السياسة. ومع ذلك، يبدو المصطلح، بالنسبة لي، مفهومًا تمامًا كإشارة إلى الفصيل السياسي من الحركة الأصولية، أو بعبارة أدق: إلى الفصيل الأكثر تسيسًا من هذه الحركة، حيث تكاد السياسة تستغرق النشاط الأصولي في مجمله، وتتخلل، التيارات “السلفية” التي تصب اهتمامها “المعلن” على جوانب طقوسية، أو تعليمية، أو خدمية، أو روحية خالصة.
الأصولية الدينية مفهوم سياسي بالضرورة، بما هي في جوهرها تعبير عن موقف نقدي تصحيحي. وهو في خصوص الإسلام موقف موجه بالأساس إلى السلطة الحاكمة بوصفها حارسة الدين، ويمتد بالتبعية إلى المجتمع الذي يقبل الخضوع لهذه السلطة. تاريخيًا، ظهرت الأصوليات المبكرة في الإسلام في سياقات الصراع على السلطة وتشكلت كفرق سياسية معارضة، تؤسس نفسها على مبادئ نظرية مستمدة من الكتاب الأصلي. ويصدق ذلك –من وجهة النظر السنية- على فرق الخوارج والفرق الشيعية المبكرة، التي بدت بالنسبة للتيار العام التابع للدولة، كحركات سياسية خارجة عن السلطة الشرعية، فيما تقدم هي نفسها كممثل “حقيقي” لقيم الكتاب التي جرى هتكها على يد السلطة والمجتمع.
الاجتماع السياسي الذي تشكلت في ظله المدونة الإسلامية، هو الذي فرض الدولة والشريعة كمفهومين مركزيين في بنية الديانة، وأسبغ على الإسلام طابعه السياسي الاجتماعي الموروث. وعلى الرغم من التراجع النسبي في اندماج الدولة بالدين على المستوى العملي بعد ظهور “الدولة الوطنية” الحديثة، ظل هذا المعنى السياسي الاجتماعي حاضرًا على المستوى النظري في بنية المدونة الرسمية. وهو المعنى الذي سيمثل الدافع الأول لانبثاق الأصولية في نسختها المعاصرة، ومحور النشاط الذي تدور عليه.
-2-
ظهرت الأصولية المعاصرة في أوائل القرن الماضي كرد فعل مباشر للمثير الحداثي الذي خلفته الحقبة الاستعمارية، والذي مثل استفزازًا صريحًا للنظام الديني ومدونته التراثية. لقد كان الإسلام السياسي أول التيارات الأصولية ظهورًا، ومنذ البداية كشف هذا التيار عن وعيه بالطابع الاجتماعي السياسي الشمولي للإسلام كما كرسه الفقه، وعن سعيه إلى تثبيته في مواجهة الخطاب العلماني “التنويري” الذي تبناه رواد النهضة في مصر في عشرينيات القرن الماضي (علي عبدالرازق/ طه حسين/ لطفي السيد/ فرح أنطون/ سلامة موسى/…). في هذا السياق برزت فكرة استعادة الخلافة كفكرة محورية مسيطرة بوصفها فريضة دينية، وظهرت مقولات الجهاد والشحن الشعبي كآلية لازمة لتحقيق هذا الهدف، وهي الأفكار التي روج لها رشيد رضا، وقامت عليها جماعة الإخوان المسلمين.
-3-
يظهر الطابع السياسي لجماعة الإخوان فجًا، إلى درجة تطغى أحيانًا على الاعتبارات الدينية المباشرة. وبالنسبة للبعض تبدو حركة سياسية أكثر منها دينية: التيارات الأصولية الأكثر تشددًا، والتي ولدت أصلًا من رحم الجماعة، ستعتبرها فرقة متساهلة وغير منضبطة بمقاييس الشرع، فيما ستجادل بعض القراءات العلمانية في حقيقة البعد الديني البنيوي لهذه الجماعة ومجمل الحركة الأصولية المعاصرة. بحسب مارسيل جوشيه لا تمثل الأصولية ظاهرة دينية بالمعنى الدقيق، بل ظاهرة سياسية يلزم تفسيرها بوصفها استجابة لمسائل تخص الهوية أو الذاتية. وفي كتابه “فشل الإسلام السياسي” يتساءل أوليفيه روا “عما إذا كان الإسلام السياسي إسلامًا حقًا، أو إلى الحد الذي يعتقد.. فالإسلاموية كانت أحيانًا مجرد غطاء لممارسات قبلية أو أحقاد شخصية، أو تنازعات إقليمية محلية، ولم تعرف قط كيف تتجاوز القومية”.
واعتبر ريتشارد ميتشيل أن الإخوان المسلمين “مجرد انعكاس لرأسمالية وطنية مصرية ناشئة، وأن الخطاب الإخواني ليس أكثر من تكييف لهذه الرأسمالية الوطنية مع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية”.
ومع ذلك يصعب تجريد جماعة الإخوان من جذورها كحركة أصولية ذات أرضية فقهية. وفي واقع الأمر، يصعب تفسير أدائها السياسي الذي يتسم بالإضراب والتذبذب، إلا من خلال هذه الأرضية المستمدة من المدونة التراثية، مع النظر إليها في الوقت نفسه، كظاهرة “حداثية” أفرزتها سياقات الواقع الجديدة، وأملت عليها آليات الحركة والخطاب.
منذ المراحل المبكرة وحتى لحظة الاستيلاء الخاطف على السلطة، يكشف الأداء الإخواني عن حس تلفيقي واضح. فقد ظلت تشتغل بالقرب من حدود النظام السياسي السائد، من دون أن تقطع معه أو تندمج فيه على الرغم من تغير أشكاله (من النيابية النسبية في العهد الملكي، إلى الشمولية المطلقة في العهد الناصري، حتى النيابية الشمولية المهجنة في عهدي السادات ومبارك). وفيما تعرضت للنقد من قبل الأصوليات الجديدة الأكثر سلفية وعنفًا، لم تحظ قط بثقة القوى “الحداثية” التي تمثل النظام السياسي وفي مقدمتها الدولة. (أصوليًا، لأنها لم تقطع نهائيًا مع النظام العلماني. وحداثيًا، لأنها لم تندمج تمامًا فيه).
من أرضيتها الأصولية ظلت الجماعة تشتغل كـ”فرقة” دينية بالمعنى التقليدي، الذي يستدعي ثقافة الخروج على “الحاكم” في القرون الهجرية الأولى، وهي الصورة التي تكرست بفعل الصدام العنيف مع الدولة خصوصًا في المرحلة الناصرية. لكنها بدوافعها وتداعيات أدائها الحداثية، انتهت إلى التطور كـ”تيار” سياسي يكاد -مع شيء من التمنع- أن يتحول إلى “حزب” سياسي، وهي الصورة التي صارت واضحة في المرحلة السابقة على أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. لكن “الفوضى” السياسية اللاحقة ستوفر فرصة مواتية “لاختطاف” السلطة، وسيعلن الإخوان لأول مرة عن تشكيل حزب سياسي صريح.
نظريًا توحي صيغة الحزب السياسي بالاندماج الكليِّ في النظام السياسي القائم ببنيته “العلمانية” المفترضة. وهي صيغة مناقضة لا لسياسات الجماعة المتوارثة فحسب، بل لمبادئها النظرية المعلنة التي أكد عليها حسن البنا، والتي أسندها مباشرة إلى أحكام الشريعة. فحسب البنا “الحزبية نظام لا يقره الإسلام ولا يرضاه”، وهو نظام استعماري يمنع وحدة الأمة، ويشتت مهمة الإصلاح. لكن هذا التحول بدا بالنسبة للجماعة “إجراءً” ضروريًا لاستكمال عملية القفز على السلطة، في ظل الشروط التعددية المفروضة في سياقات “الثورة”.
الاندماج الكلِّي في النظام العلماني الحزبي، الذي كان ممتنعًا لأسباب “شرعية” صار ثمنًا يجوز دفعه للحصول على السلطة. وهو سلوك يشير -في القراءة الأصولية السلفية- إلى تجاوز ديني مبدئي وليس مجرد مخالفة فقهية. أما في القراءات العلمانية، فهو سلوك انتهازي، يستدعي فكرة “التقية” السياسية، التي تثير الشك في دعوى التحول الديموقراطي من قبل جماعة تنحدر من ثقافة دينية حصرية، أي لا تعددية بالطبيعة.
-4-
عند هذه النقطة يظهر جوهر المشكل الذي يواجه الإسلام السياسي في التكيف مع الحداثة السياسية: ثمة صعوبات نظرية (جذرية) تنبع من الطبيعة البنيوية للطرفين؛ الأول “حصري” بطبيعته الثيوقراطية، والثاني “تعددي” بطبيعته الديموقراطية. ببنيته المركبة يتصور العقل الإخواني إمكانية الجمع بين الطرفين بناء على تأويله الخاص لكل منهما، أو هو يتصور إمكانية تمرير هذا الطرح مرحليًا. ومن هذه الزاوية يظهر الفارق الأساسي بين جماعة الإخوان التي تطرح نفسها كتيار سياسي معتدل، وتيارات الجيل الثاني من الإسلام السياسي ذات التوجه “السلفي” العنيف، والتي نشأت بالذات كتطوير نقدي للموقف الإخواني “المتساهل” شرعيًا والمنبطح أمام سطوة الحداثة السياسية. ونتيجة لهذا الفارق، يشتغل المشكل بطريقتين مختلفتين في مواجهة التفكير الإخواني (السلفي المهجن) من جهة، وفي مواجهة التفكير الأصولي (السلفي الخالص) من جهة ثانية.
لكن ما يلزم التنبه إليه هنا هو أن هذا الفارق في الموقف السلفي ليس أكثر من فارق درجة، فالإخوان، كأي جماعة دينية هي سلفية بالضرورة. لكنها ليست ذات تكوين أحادي بسيط، بل ذات تركيبة معقدة تحمل نفسًا حداثيًا واعيًا بنفسه. وهي تركيبة سيكوذهنية حاضرة باستمرار في الاجتماع السياسي، وتظهر بوضوح عند لحظة الاحتكاك الصدامي بين القديم والجديد. تعبر هذه التركيبة عن تفكير تراثي واعٍ بقوة الحداثة، أو عن تفكير حداثي لا يزال مسكونًا بالتراث. وهو ما ينعكس في عملية التأويل النظري الذي يبدو تلفيقيًا وساذجًا في كثير من الأحيان، وعلى مستوى الأداء السياسي الذي يبدو انتهازيًا، أو مرتبكًا في أحسن الأحوال.
وينطبق ذلك على مسألة العنف، التي تشير –بدورها- إلى فارق درجة أمكن حجبه “مرحليًا” تحت غطاء المواءمة السياسية. لكنه يظل كامنًا في صلب البنية الاعتقادية للجماعة كما ورثتها عن المدونة، ليعبر عن نفسه بشكل سافر عند انسداد الأفق السياسي.
كيف يشتغل هذا التفكير المركب في مواجهات الصعوبات النظرية.
كيف تجري عملية “التأويل” المزدوجة للنظام الديني التاريخي وللنظام السياسي العلماني من خلال صيغة “الأحزاب الإسلامية”؟
يتبع