-1-
نشأت جماعة الإخوان المسلمين في مصر في أوائل القرن الماضي، أي في سياق سياسي تعددي، لكنها –وعلى الرغم من بنيتها السياسية الواضحة- لم تقدم نفسها كحزب سياسي صريح، بل كتيار يعمل على أطراف النظام السياسي بحيث لا يقطع تمامًا معه ولا يندمج تمامًا فيه. وانعكس ذلك في خطابها النظري الغامض وأدائها السياسي المرتبك، الذي ظل يتردد بين الإنكار والإقرار بشرعية النظام السياسي ككل، وبين العمل السري والنشاط العلني، وبين السلمية والعنف الإرهابي.
من ناحيته، لم يكن النظام السياسي -القريب العهد بالحداثة العلمانية- مهيأ لاحتواء حزب ديني، ومن ناحيتها، لم تكن الجماعة -ذات التكوين الأصولي المهجن- قد اكتسبت خبرات “تأويلية” كافية للالتفاف على أصولها النظرية وتبرير الاندماج في نظام علماني. سيحتاج الإسلام السياسي إلى ما يزيد على نصف قرن من الممارسة لاكتساب هذه الخبرات في ظل سياقات سياسة واجتماعية متغيرة.
نظريًا، سيبرر الاندماج بعملية تأويلية مزدوجة؛ للمدونة التراثية ذات التوجه الحصري من جهة، وللديموقراطية الحداثية ذات التوجه العلماني من جهة ثانية: المدونة تتسع لقبول الديموقراطية عبر إقحام مصطلح “الشورى” بغض النظر عن عدم تطابق المفاهيم، أو، مرحليًا، عبر تقنية الضرورة والتقية. والديموقراطية تتسع لقبول حزب ديني (حتى لو كان لا يقر بالديموقراطية) لأن هذا هو منطق حرية الرأي. وحتى العلمانية ذاتها سيعاد تأويلها بحيث لا تعني فصل الدين عن الدولة فصلًا كليًا، فالنظام العلماني الغربي -وهو النموذج الأصل- يحتوي على مظاهر تعبير سياسي دينية، ويسمح بوجود أحزاب مسيحية بل وإسلامية. وبالتالي لا معنى للحظر الذي يتعرض له الإسلام السياسي في محيطه الإقليمي “العلماني” المعاصر.
هذا التبرير المركب ينطوي على مغالطات سياسية ودينية واضحة، بغرض القفز على الصعوبات العملية والنظرية التي تواجه عملية الاندماج الإسلامي في الحداثة السياسية، قياسًا إلى عملية الاندماج المسيحي التي تمت في الغرب. الأمر الذي يستدعي المقارنة بين سياقين مختلفين على المستوى التاريخي والنظري معًا:
- السياق الذي نشأت وتشكلت فيه الأحزاب المسيحية الديموقراطية (منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) بخلفياته النظرية المستمدة من تراث تيولوجي سياسي قابل للفكرة العلمانية.
- السياق الذي نشأت وتحاول أن تشتغل فيه الأحزاب الإسلامية (من أواخر القرن العشرين كما في النموذج التركي، وبعد الاضطرابات السياسية المتأخرة في 2011 كما في النموذج الإخواني المصري والتونسي) بخلفياته النظرية المستمدة من تراث تيولوجي سياسي مناقض للعلمانية.
-2-
عندما ظهرت الأحزاب السياسية المسيحية في الغرب أواخر القرن التاسع عشر، كانت العلمانية قد ترسخت كواحد من الأركان الأساسية للنظام السياسي، وكانت الكنيسة على وشك الإعلان عن استسلامها النهائي في صراعها الطويل مع حركة التطور التي تجتاح أوروبا منذ قرنين كاملين. وبحسب موريس ديفريجيه، نشأت هذه الأحزاب على يد كتل ومنظمات “مدنية” مثل النقابات، والتعاونيات الفلاحية، والجمعيات العمالية والطلابية، لتحقيق أغراض اقتصادية وخدمية مباشرة. وذلك بالطبع إلى جانب الكنيسة، التي وقفت وراء هذا النشاط في محاولة “أخيرة” لمقاومة المد العلماني الجارف، الذي صار موجهًا إلى مجالي التعليم والأسرة.
لكن الأحزاب المسيحية ستظهر بشكل أوضح، في نسختها الثانية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية: حالة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الناجمة عن الحرب وفرت مناخًا ملائمًا لظهور كيانات سياسية ذات لمسة أخلاقية روحية. فمع تراجع الحضور السياسي والاجتماعي للكنيسة، تراجعت -أيضًا- موجة النقد “التنويري” الحادة الموجهة إلى الدين. وبالنسبة للنظام العلماني الراسخ، لم يعد الدين يشكل تهديدًا حقيقيًا لقيم الحداثة التقليدية (الحرية/ التعددية/ العقلانية/ العلم)، وأمكن طرحه من خارج الكهنوت كحزمة قيم قابلة للتوظيف في تفريغ الضغط الدنيوي الناجم عن المنافسة، والمساعدة في عملية الدمج الاجتماعي.
لم تصدر الأحزاب المسيحية عن حركات أصولية دينية معادية للنظام السياسي، بل عن كيانات مدنية تنتمي إلى هذا النظام. وفي نسختها الثانية ظهرت كجزء لا يتجزأ منه، وعلى الرغم من علاقتها الودية إجمالًا بالكنيسة، ظلت تحافظ على مسافة فاصلة منها. وبحكم التكوين النظري، لا تهدف الأحزاب المسيحية الديموقراطية إلى إنشاء “دولة” مسيحية بالمعنى “الإسلامي” المحمل بترسانة تشريعية قابضة، بل إلى ممارسة السياسة من داخل النظام بالمعنى “المسيحي” الذي يقبل فصل الدين عن الدولة، ويسلم بمسؤولية الدولة عن التشريع. حضور الدين في السياسية لا يشير إلى أكثر من مظلة قيمية ذات بعد أخلاقي محافظ.
في السياق المسيحي الغربي تتأسس العلمانية على نصوص دينية صريحة، فضلًا عن التاريخ السياسي الطويل الذي شهد حضورًا متواصلًا للدولة “المدنية”، على الرغم من الهيمنة السياسية الاجتماعية الواسعة للكنيسة بامتداد العصور الوسطى. لم تسفر هذه الهيمنة عن تنحية الدولة المدنية لصالح حكومة ثيوقراطية شاملة، بل عن حالة ازدواجية (علمانية دينية) معترف بها. وهي الحالة التي استهدفتها جهود التطوير الحداثية منذ أواخر العصر الوسيط، والتي انتهت بانتصار كاسح للدولة المدنية. ومن هذه الزاوية يمكن فهم السهولة النسبية للاندماج المسيحي في الحداثة السياسية، حيث أمكن استعادة الأصل العلماني للمسيحية لإعادة تسكين الدين داخل أطر الدولة الحديثة.
في السياق المقابل، ليس ثمة أصل علماني للإسلام يمكن استعادته بتأويل نظري، إلا عبر التخلي عن الإطار المفاهيمي العام الموروث عن المدونة الفقهية، والاستناد مباشرة إلى جوهر الدين المطلق كمنظومة قيم ذات بعد روحي أخلاقي، لا كلائحة تشريعية اجتماعية مفصلة. وهي عملية مساوية في العقل الفقهي للمروق كليًا من الدين. وفقًا للمدونة تحظى فكرة “الشريعة” بإسناد نصي وفقهي راسخ، وتحظى “الدولة/الحاكم” بموقع “ديني” مركزي بحكم وظيفتها كحارسة للدين وأمينة على تطبيق الشريعة. وهي الوضعية التي جرى تكريسها عبر تاريخ سياسي طويل، لم يعرف قط حالة ازدواجية السلطة بالمعنى الكاثوليكي الغربي، حيث ظل الحاكم يجمع في قبضته بين السلطتين الزمنية والدينية بامتداد العصر الوسيط الإسلامي.
بعد تراجع الدولة الإسلامية “الحارسة” والانتقال إلى مرحلة الدولة الوطنية، تحولت المدونة الفقهية إلى مؤسسة دينية معنوية تلعب دور الحراسة بديلًا عن الدولة، وظلت الشريعة والدولة فكرتين مركزيتين في البنية النظرية للديانة. وهنا بدأت تظهر لأول مرة في السياق الإسلامي حالة الازدواجية التشريعية التي تنطوي بالضرورة على بعد سياسي.
في السياق الغربي كان التحول إلى الدولة الوطنية قد جرى بانقلاب على الازدواجية (نصف علمانية نصف ثيوقراطية)، وكان قد جرى بشكل جذري صريح لصالح العلمانية الخالصة. لكن التحول إلى الدولة الوطنية جلب إلى السياق الإسلامي حالة الازدواجية (بين السلطة الدينية النظرية للمدونة والسلطة الزمنية الفعلية للدولة). والأهم هو أن هذا التحول لم يتم على نحو حاسم بسبب الإيقاع البطيء والجزئي لحركة التطور (الاقتصادي/ الاجتماعي/ العقلي)، وكانت النتيجة أن الدولة الوطنية، التي لم تتنكر كليًا للمدونة التراثية، بدت نصف علمانية ونصف دينية. حالة قريبة من تحليلات جرامشي ذات الخلفية الهيجلية لمفهوم “الأزمة” التي تتألف تحديدًا من حقيقة أن القديم يموت، والجديد غير قادر على أن يولد. في هذه الفترة الفاصلة تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية.
غير أن القديم هنا لم يمت، والجديد يولد بالفعل لكن ببطء شديد. فالنظام السياسي لم يعد ثيوقراطيًا، لكنه لم يصبح علمانيًا تمامًا. ومن ثم فهو لا يزال يتوجس من مخاطر الانغماس الديني في السياسة، لكنه لا يستطيع تلافي ذلك على نحو حاسم في ظل مستوى الحضور الديني القائم. أما الأحزاب الإسلامية التي تريد الاندماج في هذا النظام، والتي نشأت أصلًا كامتداد أو كأجنحة سياسية لحركات أصولية (كما في النموذج الإخواني المصري/ التونسي) فتهدف نظريًا إلى استعادة الدور الديني للدولة عبر تفعيل فكرة الشريعة، أي إلى استعادة “الثيوقراطية”، لكنها لا تستطيع فرض ذلك على نحو حاسم في ظل مستوى التطور العلماني القائم.
من هنا تظهر الفوارق الواسعة بين الأحزاب المسيحية الديموقراطية في الغرب، التي تشتغل في سياق علماني تعددي، كأحزاب علمانية خالصة، تنحدر من ثقافة دينية هي –بدورها- علمانية، ولذلك فهي تستطيع طرح الدين كشعار أخلاقي أو كمرجعية ملهمة تشير إلى توجه سياسي محافظ، في مقابل الأحزاب الإسلامية التي تحاول الاشتغال في سياق نصف علماني ونصف تعددي، كأحزاب عقائدية، تنحدر من ثقافة دينية “ثيوقراطية” بنيويًا، ولذلك فهي لا تستطيع –بسهولة- طرح الدين كمجرد شعار أخلاقي أو مرجعية ملهمة. وهو الطرح الذي تجري محاولات لتمريره من قبل الأحزاب “الإخوانية” بصياغات وآليات تأويلية متفاوتة.
وفي هذا السياق يمكن إجراء المقارنة بين النموذجين التونسي والمصري من جهة، وبين هذين النموذجين والنموذج التركي الذي ينتمي إلى سياقات تشكل واشتغال مغايرة نسبيًا من جهة ثانية. المقارنة الأولى ستكشف عن فوارق درجة على مستوى الأداء السياسي والتأصيل النظري، فيما تكشف المقارنة الثانية عن فوارق “نوعية” إلى حد ما. يتبع