-1-
يمكن الحديث عن فارق “نوعي” -إلى حد ما- بين تجربة الإسلام السياسي التركي ومثيلتها في مصر وتونس. وهو فارق مفهوم بالنظر إلى السياقات المختلفة للنشأة والتشكل في كلتا التجربتين. أشير إلى التباين النسبي في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، ودرجة رسوخ العلمانية، والتحول في مزاج التدين الشعبي، ما بين المجتمع المصري في بدايات القرن الماضي والمجتمع التركي عند نهاياته، أي بعد أكثر من نصف قرن من فعل التحديثات الكمالية. هذه السياقات تظل مرتبطة، في المرحلتين بالدور المؤثر لعوامل السياسة الخارجية وعمليات الدعم الغربي التي ساندت الإسلام السياسي بأشكال متعددة. من مرحلة الهيمنة البريطانية إلى مرحلة الهيمنة الأمريكية.
مقارنة بالنموذجين المصري والتونسي، لا يبدو حزب العدالة والتنمية في تركيا حزبًا أصوليًا صريحًا. ومع ذلك فهو يتوافر على ملامح إخوانية غامضة، يتفاقم ظهورها مع تواصل استقراره في الحكم. ما يجمع بين النماذج الثلاثة، التي وصلت بالفعل إلى السلطة عبر مسارات مختلفة ولمدد متفاوتة، هو انتماؤها إلى الإسلام السياسي بالمعنى “الضيق” الذي يشير إلى موقف براجماتي أكثر انفتاحًا –أو أقل تشددًا- حيال الحداثة السياسية، بحيث يقبل الاندماج في أطر الدولة العلمانية الحديثة، خلافًا لبقية التيارات الأصولية ذات التوجه السفلي والجهادي، التي تمارس السياسة على طريقتها الخاصة من خارج هذه الأطر، وتنتمي إلى الإسلام السياسي بالمعنى الواسع. وفي هذا الإطار يبدو النموذج التركي أوضح النماذج الثلاثة انفتاحًا على الحداثة وأكثرها براجماتية، يليه النموذج التونسي ثم المصري.
لم ينشأ الإسلام التركي على هيئة جماعات أصولية زاعقة، تعمل من خارج النظام العلماني وتسعى إلى إسقاطه بغرض استعادة الخلافة مثلما نشأ واشتغل في مصر وتونس قبل أن يتحول، بتطور الممارسة، إلى الانغماس في قواعد اللعبة السياسية، والإعلان عن قبول صيغة “الحزب” بوصفه جناحًا سياسيًا للجماعة الأم. منذ البداية اشتغل النموذج الإسلامي التركي من خلال الأحزاب السياسية القائمة قبل أن يتخذ صيغة الحزب السياسي المستقل، كاشفًا عن سعية الحثيث للاندماج في النظام العلماني السائد والحصول على اعترافه القانوني.
لم يدخل النموذج التركي أصلًا في المشكل “الفقهي” المبكر حول شرعية التعددية الحزبية، التي اعتبرها حسن البنا نظامًا استعماريًا “لا يقره الإسلام”، وهو المشكل الذي جرى تجاوزه تدريجيًا بالتأويل في النموذج المصري، وبدرجة صعوبة أقل في النموذج التونسي. صيغة الحزب الإسلامي في تركيا لم تكن تحولًا على صيغة تنظيمية سابقة، ولم يكن الحزب من ثم جناحًا سياسيًا لجماعة أصولية حاضرة على الطراز الإخواني المعروف. واقعيًا كان الحراك الإسلامي الحزبي، هو الأصل الذي ساهم في تخليق ما سيعرف بالحركة الإسلامية التركية، التي ستكتب مع الوقت مزيدًا من ملامح الأصولية الإخوانية.
-2-
بدأ الحراك الإسلامي في تركيا بعد إطلاق التعددية الحزبية سنة 1950، حيث دخلت الأحزاب التركية الناشئة في منافسة واسعة مع حزب الشعب الجمهوري المتطرف علمانيًا، والذي ظل منفردًا بالحكم منذ تأسيسه على يد كمال أتاتورك سنة 1923. اعتمدت الأحزاب في هذه المنافسة على مخاطبة المشاعر الدينية المكبوتة، واستندت بشكل أساسي على قوة الجماعات الصوفية، التي أخذت تستعيد زخمها التقليدي. وطوال عقد الخمسينيات الذي هيمن عليه الحزب الديموقراطي بقيادة عدنان مندريس أطلقت الحكومات المتعاقبة حزمة من المبادرات المحسوبة تشمل العودة إلى أداء الآذان باللغة العربية، وفتح معاهد تخريج الخطباء والأئمة، والتساهل في بناء المساجد، وهي مبادرات قد تبدو اعتيادية بالنسبة لبلد يدين معظم سكانه بالإسلام، لكنها كانت تنطوي –في سياقها الزمني التركي الخاص- على طفرة ذات مغزى سياسي، وجرى البناء عليها في تصعيد حركة النشاط الإسلامي، الذي أخذ يتفاقم داخل الأحزاب “القومية”، وظل مرتبطًا بالجماعات الصوفية حتى نهاية الستينيات حيث ستبدأ مرحلة الإسلام السياسي بالمعنى الدقيق.
عند بداية السبعينيات كانت الأجواء قد صارت مهيأة لظهور أول حزب إسلامي صريح، وهو حزب “النظام الوطني” ثم حزب “السلامة الوطني” بقيادة نجم الدين أربكان. وفي الإطار السياسي العام بات النقاش مقبولًا حول فكرة “الرؤية القومية” التي تشير إلى الإسلام كأحد المكونات “الثقافية” للأمة التركية، وإلى إمكانية تسكينه داخل أطر الدولة الحديثة، في إعادة تأويل مزدوجة للمعنى القومي العلماني الموروث من الكمالية. وهي الفكرة التي تسربت إلى حزب قومي بحجم حزب “الوطن الأم” بقيادة تورجوت أوزال، والتي سيعتمد عليها أردوغان لاحقًا في بناء حزب العدالة والتنمية.
اشتغلت الأحزاب الإسلامية بقيادة أربكان من خلال التحالف مع الأحزاب القومية. وحتى حزب الشعب الجمهوري ذاته قبل الائتلاف مع الحزب الإسلامي، وحمله إلى السلطة لأول مرة سنة 1973، في خطوة تعكس الخصائص البراجماتية الوضحة لدى الطرفين. وعلى الرغم من حضور أحزاب مستقلة تمثل التيار الإسلامي، ظل هذا التيار يعمل من داخل الأحزاب القومية كحزب “الحركة القومية” الذي تحول إلى حاضنة واسعة للإسلام السياسي.
وفي سنة 1995 وصل حزب “الرفاه” بزعامة أربكان إلى قمة السلطة بترؤسه لحكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد عام واحد، بسبب الضغوط المتواصلة من القوى العلمانية وخصوصًا المؤسسة العسكرية، التي صارت أكثر تحسسًا حيال “التصاعد الأصولي” كخطر يهدد قيم الجمهورية العلمانية. وفيما اعتبر انقلابًا “ناعمًا” أصدر الجيش جملة من الإجراءات الصارمة لاحتواء هذا التصاعد شملت حل الحزب، ومصادرة أنشطته الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، وعزل قياداته سياسيًا لمدة خمس سنوات، ثم أعيد تشكيل الحزب تحت اسم حزب الفضيلة، الذي سيتعرض لانشقاق جديد بقيادة عبدالله جول وأردوغان لتبدأ مرحلة جديدة من حركة الإسلام السياسي في تركيا سنة 2001 بتأسيس حزب “العدالة والتنمية”، الذي نجح في الحصول على أغلبية صريحة في انتخابات 2002 (“363” من أصل “505” مقاعد) مكنته من تشكيل حكومة إسلامية خالصة، لا تزال تحكم حتى الآن.
كيف يمكن قراءة هذه المرحلة الجديدة، التي تثير جملة من الأسئلة حول طبيعة الإسلام السياسي التركي مقارنة بمثيله في المنطقة العربية. وقبل ذلك حول أسباب نجاحه في امتلاك السلطة والاستقرار فيها من خلال حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، بعد تعثره في الوصول إلى هذا الهدف الأخير عبر تجربة حزب الرفاه بقيادة أربكان، على الرغم من عدم بعد المسافة الزمنية بين التجربتين، وعلى الرغم من التقارب الواضح بينهما على مستوى الطرح الموضوعي والسياسات المعلنة؟
يتبع