-1-
عند منتصف الثمانينيات كان الغرب لا يزال يناقش الأصولية تحت عنوان هادئ هو “عودة المقدس” واعتبر هابرماس أن هذه العودة تجد مناخًا مناسبًا في ظل الأزمة التي تجتاح المجتمعات المعاصرة، “فمع تفكك المنظومات الأيديولوجية التقليدية أدركت الجموع البشرية التباعد الهائل بينها وبين مراكز القوة المتفرقة”. لكن مع تفاقم العنف في مطلع القرن الجديد، سيتحول العنوان إلى “الإرهاب الديني”، وستتراجع نسبيًا أهمية مفهوم “الأزمة” في تفسير الحالة الأصولية وتفاقم طابعها العنيف، ليبرز مباشرة مفهوم الحداثة في ذاتها كسبب تفسيري أكثر جذرية، فالأصولية “ليست مجرد عودة بسيطة إلى طريقة للارتباط بالدين سابقة على الحداثة، بل هي استجابة مرعبة تجاه الحداثة تنظر إليها كتهديد”.
الفارق بين التحليلين لدى هابرماس يعكس الفارق بين الظروف السياسية والثقافية بما في ذلك وتيرة العنف عند منتصف الثمانينيات “كانت نظرية الفعل التواصلي”، ومثيلاتها مطلع القرن الجديد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) (كتاب مستقبل الطبيعة البشرية). في هذا الكتاب الأخير يصف هابرماس ما حدث في سبتمبر (أيلول) بأنه “لا ينطوي على مجرد عنف، بل يشير إلى لا عصرية، أو حال غياب كلي لمحركات الفهم والتصور الراهنة. فهي أشبه بشيء يحكي قصة من التاريخ الغابر نسبة إلى دوافعه، ومن ثم فهي تلفت إلى شرخ هائل بين الثقافة والمجتمع والزمن.. تبدو الحداثة هنا نقيضًا طبيعيًا للأصولية الدينية يستثير المعنى السلفي الماضوي الأصيل فيها، ويستفز قابليات العنف الكامنة في صلب الدين التاريخي”.
-2-
أهم ما في تحليل هابرماس هو هذا التنبه المزدوج: 1- إلى جذرية المعنى السلفي الماضوي في الأصولية الدينية، ومن ثم حتمية التناقض بينها وبين الحداثة. 2- إلى أن قابليات العنف كامنة في صلب الدين التاريخي. يقر هابرماس بمسؤولية نسبية عن العنف تقع على عاتق الحداثة وعلى عاتق الغرب، لكنه بنزعته الكانتية الواسعة ظل قادرًا على الدفاع عن فكرة الحداثة، لا بما هي أيديولوجيا تاريخية تنتمي إلى مرحلة التنوير الأوروبي، بل بما هي سيرورة طبيعية في حركة الزمن مرادفة لمعنى التطور، وظل قادرًا على أن يفصل، نظريًا على الأقل، بين مفهوم الحداثة ومفهوم الغرب المعاصر ببنيته الرأسمالية.
في تعليقه على أحداث سبتمبر (أيلول)، لا يختزل هابرماس أسباب العنف في المصطلح المركب “الغرب الحديث” أو “الحداثة الغربية”. وذلك خلافًا للتيارات ما بعد الحداثية السائدة في الثقافة المعاصرة، والتي تنطلق غالبًا من خلفيات أيديولوجية سواء كانت ماركسية أو بعد ماركسية، والتي تلقي بلائمة العنف على الأداء السياسي والأخلاقي العام للغرب بإيقاعه الأمريكي، وتتوقف بشكل خاص أمام فكرة العولمة. دريدا -مثلًا– يقرأ الإرهاب كعرض من أعراض الحداثة الغربية، أو ما يسميه اضطراب المناعة الذاتية الناجم عن الفصل الحاد والسريع بين الأبعاد الدينية والعلمانية.
وكالعادة، يُعمل دريدا تفكيكيته الألسنية في مصطلح الإرهاب بوصفه مفهومًا مرتبكًا ليس له تعريف دقيق: فما الذي يميزه عن الرعب الذي اعتبره هوبز الشرط الأساسي للوجود السياسي ولممارسة القانون والسيادة؟ وما الذي يميزه عن التهديد الذي تستعمله الدولة لاحتكار العنف كما يقول فالتر بنيامين؟ وما الذي يميزه عن الدفاع عن النفس إذا كان جميع إرهابيي العالم يرون أنهم يدافعون عن النفس ضد إرهاب الدولة؟ وهل من الضروري أن يكون الإرهاب إرهاب القتل فحسب؟ هل يعد ترك الآخر يموت إرهابًا كما يحدث عندما نترك مئات الملايين من البشر يموتون من الجوع والبرد والمرض؟. بحسب دريدا، الدلالة السائدة للمصطلح اليوم ترجع إلى قوة النفوذ التقني الاقتصادي للإعلام، وبالتالي فنحن بصدد تشويش دلالي للكلمات والتعابير، نرى فيه هيمنة قوى تتمكن في ظروف معينة من فرض تسمياتها، ومن ثم تأويلها وإضفاء المشروعية عليها.
وهكذا تتجه القراءة، من زاوية عين نقدية، ناحية الغرب، فبعيدًا عن واجب الشفقة على الضحايا والنقمة على المجزرة، هناك الانطباع الذي تشكل إعلاميًا تجاه الحدث، ويحاول أن يجعلنا نؤمن بأن ثمة حدثًا عظيمًا وفارقًا في التاريخ حدث 11 سبتمبر (أيلول)، على الرغم من أن هذا التقييم في الواقع يقبل التأويل والتفكيك. وبالنتيجة يبدي دريدا شيئًا من التفهم حيال الطرف المقابل في المشكل، فالعالم الإسلامي ليس الآخر المطلق الذي لا يعرفه الغرب، فهم تعلموا وتدربوا وتسلحوا على الطريقة الغربية وبأيدي الغرب الذي اخترع كلمة إرهاب. ويجب ألا نتعامل مع الإسلام أو ما يتعلق بالعالم الإسلامي كوحدة واحدة، بل يلزم رصد التباينات النظرية والصراعات والتناقضات الداخلية، التي تقوده -بدوره- لعملية تدمير الذات أو اضطراب المناعة الذاتية كما في الغرب.
في تسبيبه الحداثي الغربي للعنف يبدي دريدا تخوفًا واضحًا من نتائج العولمة، لكن جان بورديار يضع العولمة في مركز المشكل، فالعولمة كما يفهمها ضمن تيار واسع في الثقافة المعاصرة، تقوم على نفي الآخر المختلف أو الغريب أو البعيد، ومن هنا يتجلى عنفها الذي يطارد كل أشكال التفرد والخصوصية. ولذلك فهو يشير إلى التخلص من العولمة كشرط ضروري في عملية مقاومة الإرهاب.
-3-
تحليل بورديار كتحليل دريدا ينقل مركز الثقل في المشكل إلى الغرب ليبتعد نسبيًا عن العالم الإسلامي والإسلام كديانة. وكلاهما يمثل نموذجًا لقراءة مثقفة خاصة، لا تتطابق تمامًا مع الصورة النمطية الموروثة في الثقافة الغربية عن الإسلام كديانة عنيفة جرى نشرها تاريخيًا بحد السيف تطبيقًا لأصولها النظرية. وهي الصورة التي يتبناها الوعي العامي إجمالًا، وتحضر بصورة مبهمة في خلفية الأداء السياسي للحكومات الغربية.
بحسب بورديار يكمن الإرهاب في طبيعة العولمة من حيث هي تقوم على نفي الآخر المخالف ولا تتورع في سبيل ذلك عن استخدام القوة، مما يعني أننا بصدد نوع من “الحصرية العلمانية” مقابل “الحصرية الدينية” التي تقوم بدورها على نفي الآخر المخالف، ولا تتورع عن فعل ذلك بالقوة، بل تؤمن بإلزامية الشرعية. هذا ما قصد إليه هابرماس بإشارته إلى “قابليات العنف الكامنة في صلب الدين التاريخي” وهو بعينه ما أرمي إلى مناقشته هنا.
بحديثه عن “صلب الدين التاريخي” ينقل هابرماس المسألة إلى منطقة قراءة فوق سياسية، حيث يظهر العنف الأصولي بوصفه ظاهرة ثقافية لا مجرد واقعة سياسية، وظاهرة دينية عامة لا تعبر عن خصوصية إسلامية. هذا الانتقال ضروري لإنجاز قراءة أكثر جذرية تتجاوز المعاني الآنية للحدث إلى أرضيته الكلية. الفرضية المطروحة للنقاش هنا هي أن: العنف الأصولي إفراز ضروري مرشح للتوالد بشكل دوري عن نسق التدين التاريخي السائد، بغض النظر عن أسباب استفزازه في الواقع المتجدد (الذي هو حداثي بالضرورة)، وأن التطرف الأصولي إجمالًا ظاهرة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن المعضلات النظرية الكامنة في بنية الدين كما يطرحها هذا النسق من التدين.
وهو النسق الساري في السياق الكتابي منذ التجربة العبرية التي كرست فكرة الحق الحصري، ونشرت كما يشير الاستقراء العام، حالة من التوتر المزمن في علاقة الدين بالفضاء الاجتماعي.
يمكن النقاش مطولًا حول ملاحظات دريدا على مصطلح الإرهاب وخلفياته الغربية، وحول اعتراضات بورديار على العولمة، وبوجه عام حول المثيرات السياسية والثقافية المعاصرة التي تلعب دورها بغير شك في استفزاز العنف الأصولي وتلوينه بألوان الواقع الاجتماعي المأزوم في المحيط العربي الإسلامي، ولكنها لا تفسر نشأته الأًصلية وحضوره المتكرر في جميع السياقات الدينية داخل النسق التوحيدي (من مجازر التاريخ العبري المسجلة في العهد القديم، إلى محارق التفتيش المسيحية قبل نهاية العصور الوسطى، إلى سجل العنف المعروف في تاريخ الدولة الإسلامية) مما يلفت إلى الثقافة المشتركة لنظام التدين التاريخي.
كيف يؤدي نظام التدين التاريخي إلى توليد قابليات دائمة للعنف؟