عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) ذهبت بعض التحليلات الغربية خاصة إلى القول بأن الحادثة تمثل انتهاء للإسلام السياسي، وبالغ البعض بالقول: إن الإسلام السياسي دفن تحت ركام مبنى التجارة العالمي.
بوفاة أسامة بن لادن ظهرت تحليلات تشير إلى أن تنظيم القاعدة فقد الأساس الذي بني عليه، حيث تمحور التنظيم وفقاً لغالبية الأدبيات في شخص ابن لادن. بظهور تنظيم داعش توسعت التحليلات وأشارت إلى أن القاعدة جزء من الماضي. ومع بدايات تراجع تنظيم داعش وهزيمته فيما بعد، أخذت التحليلات شكلاً آخر وكثر الحديث عن القاعدة وعودتها. وعليه تحاول تلك الورقة الوقوف على أبرز التغيرات التي طالت تنظيم القاعدة منذ أول عملية سجلت باسم التنظيم 1992، مروراً بأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وأحداث 2011، وصولاً إلى وضع التنظيم الآن.
نشاط تنظيم القاعدة:
وفقاً لإحصاءات “The Global Terrorism Database-GTD” نفذ واتهم بالتنفيذ تنظيم القاعدة بفروعه -وليس المجموعات الموالية له- نحو (2129) عملية إرهابية، أسفرت عن سقوط (13884) ضحية، وإصابة نحو (42280) شخصاً، في الفترة منذ أول عملية للتنظيم 29 ديسمبر (كانون الأول) 1992 حتى نهاية 2017.
شهد العام 2012 أكثر عدد عمليات للتنظيم في فترة الرصد، بواقع (520) عملية، وما يفسر ذلك فترة عدم الاستقرار التي تلت أحداث 2011، وقتل الزعيم المؤسس للتنظيم أسامة بن لادن، ووزعت العمليات وفقا للنطاق الزمني كالتالي:
فيما يتعلق بالنطاق الجغرافي، جاءت نسبة (90%) من عمليات تنظيم القاعدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما يوضح المخطط التالي:
عمليات التنظيم قبل 11 سبتمبر: أمريكا هدف رئيس:
منذ نشأة تنظيم القاعدة، بعد الخلاف بين صفوف المقاتلين في بلاد الأفغان، حول أممية الجهاد المزعوم، والاستمرار في العمل داخل النقاط المشتعلة أو التوقف، وضعت قيادات التنظيم الولايات المتحدة نصب أعينها، وكان الخطاب المعلن مركزا بصورة أساسية على أمريكا بوصفها رأس الكفر -على حد زعمهم- والشيطان الأعظم.
فسجلت أول عملية باسم تنظيم القاعدة في 29 ديسمبر (كانون الأول) 1992. والتي كانت أيضا أول استهداف للمصالح الأمريكية من قبل التنظيم. فيما عرف باسم تفجيرات فنادق اليمن. حيث استهدفت عناصر تنظيم القاعدة مشاة بحرية الولايات المتحدة، بتفجير قنبلة في فندق جولد موهور، وأخرى في فندق عدن موفنبيك، حيث كانت القوات البحرية الأمريكية تقيم، إلا أنه مع التفجير كانت القوات الأمريكية قد أكملت طريقها إلى الصومال، في إطار عملية استعادة الأمل التي تدخلت فيها القوات الأمريكية بالصومال لتحقيق الاستقرار. الشاهد أن العملية لم تنجح ولم يُصَب أي جندي أمريكي.
الاستهداف الأنجح للتنظيم بداخل الولايات المتحدة في تلك الفترة كان في 26 فبراير (شباط) 1993 باستهداف مركز التجارة العالمي. حيث قامت عناصر تنظيم القاعدة بتفجير سيارة في جراج المبنى مما أسفر عن مقتل (6) أشخاص، وإصابة نحو (1500) شخص.
عام 1998 ظهرت تفجيرات السفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا، حيث إنه في 7 أغسطس (آب) 1998 استهدفت عناصر تنظيم القاعدة مبنى السفارة الأمريكية في دار السلام (تنزانيا)، ونيروبي (كينيا)، مما ترتب عليه مقتل نحو (235)، وإصابة نحو (4085) شخصاً.
وبصورة عامة شمل نشاط التنظيم في تلك الفترة (8) عمليات أسفرت عن مقتل (270) شخصاً، وإصابة نحو (5689)، كما يوضح المخطط التالي:
جغرافيا، العمليات استهدفت خمس دول، منها الولايات المتحدة الأمريكية، وأربع دول استهدفت فيها المصالح والمنشآت والقوات الأمريكية “اليمن، كينيا، تنزانيا، السعودية”، ويوضح المخطط التالي نسب العمليات:
القاعدة بين النفي والتبني لأحداث سبتمبر:
بداية التشكيك في مسؤولية تنظيم القاعدة عن الأحداث كانت بنشر مقابلة لزعيم التنظيم مع صحيفة “أمة” الصادرة باللغة الأردية في باكستان بتاريخ 28 سبتمبر (أيلول) 2001[1]. حيث صرح ابن لادن آنذاك بالقول: “لقد قلت بالفعل إنني لست متورطًا في هجمات 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة. كمسلم، أبذل قصارى جهدي لتجنب قول الكذب. لم يكن لدي أي علم بهذه الهجمات، ولا أعتبر قتل النساء والأطفال الأبرياء وغيرهم من البشر الأبرياء عملاً ملموسًا. يحرم الإسلام بصرامة التسبب في إلحاق الأذى بالنساء والأطفال الأبرياء وغيرهم من الناس. هذه الممارسة محظورة على الإطلاق في سياق المعركة. الولايات المتحدة هي التي ترتكب كل سوء معاملة ضد النساء والأطفال والعامة من أتباع الديانات الأخرى، وخاصة أتباع الإسلام. كل ما يجري في فلسطين على مدى الأشهر الـ(11) الماضية يكفي لسماع غضب الله على الولايات المتحدة وإسرائيل… من ارتكب فعل 11 سبتمبر (أيلول) ليس أصدقاء الشعب الأمريكي. لقد سبق أن قلت إننا ضد النظام الأمريكي، وليس ضد شعبه، بينما في هذه الهجمات، تم قتل الشعب الأمريكي العادي. وفقًا لمعلوماتي، فإن عدد القتلى أعلى بكثير مما ذكرت حكومة الولايات المتحدة. لكن إدارة بوش لا تريد أن ينتشر الذعر. يجب على الولايات المتحدة أن تحاول تعقب مرتكبي هذه الهجمات داخلها؛ الأشخاص الذين هم جزء من النظام الأمريكي”.
بعد مرور عام على الأحداث، أرسل تنظيم القاعدة شريطا مصوراً لقناة الجزيرة القطرية، أعلن فيه التنظيم تبنيه للأحداث معدا أسماء القائمين بها وكيفية التحضير لها. حقيقة الأمر أن التبني الرسمي كان في 18 أبريل (نيسان) 2002 ببث كلمة للمتحدث باسم تنظيم القاعدة –آنذاك- سليمان أبو غيث، والذي جاء من ضمن بيانه “إننا استطعنا أن نضرب رأس الكفر الذي يتعنت في الليل والنهار ويصرح علانية بعدائه للإسلام. استطعنا أن نضربه في عقر داره. وهذا بفضل الله سبحانه وتعالى. وهو توفيق الله سبحانه وتعالى. أعطينا الله سبحانه وتعالى ما أمرنا، فعليه سبحانه وتعالى أن يعطينا ما وعدنا، إما النصر وإما الشهادة”[2].
نفي التنظيم وإعادة تبنيه بعد مدة اقتربت من ستة أشهر، إلى جانب تدقيق البعض في شكل التفجيرات وطريقة تنفيذها، دفعت إلى الحديث عن نظرية المؤامرة وأن القاعدة ليست منفذة للعملية، أو أن القاعدة صنيعة أمريكية، ولعل ما ساعد على هذا الأقاويل التي انتشرت عن مساعدة الولايات المتحدة للمقاتلين الأفغان من قبل.
في العام 1992 عندما حدثت تفجيرات فنادق اليمن، لم يظهر التبني من التنظيم إلا في العام 1998 أي بعد الحادث بنحو ست سنوات، فتأخر التبني في سياق تنظيم القاعدة ليس بشاهد على عدم ارتكاب التنظيم للحادثة.
في مثل هذه الحالة لماذا ظهر النفي؟ الأمر مرتبط بصورة التنظيم والسياق الفكري الذي طالما تغنت به القيادات القاعدية بالبعد عن استهداف المدنيين أو النساء والأطفال، والذي ثبت في بعض رسائل أبوت أباد عتاب ابن لادن، لبعض القيادات لقيامه باغتيالات وحوادث من هذا القبيل. فالشاهد أن القيادة في الأدبيات تنفي مثل هذه الأحداث خاصة في حال ما يكون هناك تعاطف مع الضحايا، إلا أنها تنفذ مثل هذه العمليات. وهذا ما يتضح في حديث ابن لادن، مع الشيخ محمود –عطية عبدالرحمن- حول محاولة اغتيال عبدالرشيد دستم، محمد بن يوسف.
القاعدة من 11 سبتمبر إلى الربيع العربي:
مثلت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) علامة فارقة في تنظيم القاعدة، وتوجه الأنظار نحوه. فالزخم والتحليلات والحروب على الإرهاب التي ترتبت على تلك الحادثة، شكلت عاملا مهماً في تغير وتوسع استراتيجية التنظيم وتحركاته، حيث ركز التنظيم بصورة أكثر على تبني المظلومية واستهداف المسلمين، كذريعة لضرب المصالح الأمريكية وتبرير عملياته الإرهابية.
وهذا ما وضح في زيادة عدد العمليات الإرهابية التي قام بها التنظيم فيما بعد الأحداث، والتي تضاعفت في العام التالي 2002 لتشكل (20) عملية بدلا من (6) عمليات على مدار العام 2001، كما يوضح المخطط التالي:
تلك الفترة شهدت الاستهداف الأكبر للولايات المتحدة، بدءاً بأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصولا إلى عملية في 2009 أسفرت عن إصابة شخصين، إلى جانب التركيز على العراق بصفة خاصة نتيجة تدخل القوات الأمريكية، حيث بدأت عمليات القاعدة في العراق في 2003. كما يوضح المخطط التالي:
القاعدة ما بعد الربيع العربي:
مثلت أحداث 2011 المتعارف عليها إعلامياً بـ”الربيع العربي” فرصة لتنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الإرهابية للعبث في المنطقة نتيجة عدم الاستقرار الذي عانت منه وما زالت تعاني منه بعض دول الربيع. إلى جانب ذلك فإن مقتل زعيم التنظيم، أسامة بن لادن، في شهر مايو (أيار) من العام نفسه، مثل أيضا عاملاً مغذياً للعمليات الإرهابية والثأر له من قبل أتباع التنظيم ودراويشه، وإن كان يؤثر بصورة سلبية أيضا، إلا أن وجود شخصيات مثل “الظواهري، وحمزة بن لادن” قلل من أثر وفاة ابن لادن على التنظيم.
وهذا ما وضح في زيادة عدد العمليات في 2011 إلى (126) عملية مقارنة بـ(104) عمليات في العام 2010. وبصورة عامة شملت الفترة من 2011 لـ 2017 تنفيذ التنظيم (1562) عملية، أسفرت عن مقتل (5768) شخصاً، وإصابة نحو (7993) شخصاً.
ويلاحظ أنه مع ظهور تنظيم داعش، أخذت عمليات تنظيم القاعدة في الانخفاض تدريجيا إلى أن سجلت بالعام 2017 أقل عدد عمليات منذ عام 2007. كما يوضح المخطط التالي:
جغرافيا، كان لليمن النصيب الأكبر من العمليات التي سجلت باسم التنظيم، حيث نفذ (986) عملية إرهابية باسم التنظيم هناك، كما يوضح المخطط التالي:
مستقبل التنظيم:
مثلما أثرت أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، ولاحقا أحداث الربيع العربي، ومقتل أسامة بن لادن، عوامل مهمة في مسيرة التنظيم الإرهابي، في الأوقات الماضية، الآن مع تراجع تنظيم داعش، والخلافات الدينية التي نشبت داخل السلفية الجهادية أثر ظهور تنظيم داعش وعملياته مثل بيان أبي محمد المقدسي بعنوان “بيان حال جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام والموقف الواجب تجاهها” و”موقف الشيخ المحدث: عبدالله السعد من جماعة الدولة وأحداث الشام” وما كتبه طارق عبدالحليم باسم “لا والله.. ما هذا منهاج النبوة ولا هو وعد الله” وغيرها من البيانات، تدفع للقول بأن خريطة الإرهاب العالمية سيعيد تنظيم القاعدة سيطرته عليها.
ففي مقابلة أجراها “بن والاس” وزير الأمن البريطاني مع صحيفة ذا صنداي تايمز البريطانية قرب نهاية العام الماضي، صرح بأن التنظيم يتطلع لتنفيذ هجمات إرهابية على طائرات الركاب والمطارات، وأن التنظيم قام بتطوير تكنولوجيا إسقاط الطائرات، “جلست القاعدة بهدوء في الزاوية وحاولت تحديد ما يبدو عليه القرن الحادي والعشرون”[3].
الوزير البريطاني وحديثه حول استمرار التنظيم وعمله على إعادة هيكلة ذاته، أكد أنه أمر حقيقي، فالتنظيم المركزي الهرمي الذي استمر على مدار عقود، زرع التطرف في العديد من مناطق العالم، تلك الفترة لا يمكن له أن يتجاوزها بسهولة.
في مطلع 2019، وفقا لتقرير سنغافورة “تقييم تهديدات الإرهاب 2019” فقد شهدت منطقة جنوب شرق آسيا عودة تهديدات تنظيم القاعدة مع تراجع لتنظيم داعش “هناك مؤشرات على أن القاعدة والجماعة الإسلامية قامتا بإعادة تجميع صفوفهم، وقد يشنون مرة أخرى هجمات واسعة النطاق. إن التركيز الدولي على مواجهة داعش قد وفر للقاعدة مساحة لإعادة بناء قدراتها. تشير التقارير الأخيرة إلى أن القاعدة تقوم بإحياء شبكاتها العالمية وتصدر المزيد من الدعاية. كما أنشأت القاعدة -من خلال الفروع التابعة لها- قواعد قوية في مناطق الصراع وعدم الاستقرار، وخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا”[4].
هذه المؤشرات وغيرها[5]، ساعدت في الحديث حول أن تنظيم القاعدة عاد بقوة إلى الساحة الإرهابية، إلا أن هناك بعض المستجدات فيما يتعلق بالتنظيم وقياداته، تدفع نحو إعادة النظر مرة أخرى في تقييم نفوذه واحتمالية عودته للمشهد بقوة، ومن ثم شكل خريطة الإرهاب عامة. تمثلت تلك المستجدات في أمرين: الأول: وفاة حمزة بن لادن، والثاني: الحالة الصحية لأيمن الظواهري. حيث أفادت بعض الأخبار المتداولة، بمقتل “حمزة بن لادن” نجل الزعيم القاعدي الراحل أسامة بن لادن. فبخلاف رمزية “حمزة” بكونه نجل الزعيم القاعدي، تنبع أهمية حمزة بن لادن من كونه يمثل حلقة وصل ما بين جيل الشباب والجيل القديم في التنظيم. إلى جانب أنه يمثل وسيلة الدعاية الرئيسة لتنظيم القاعدة في السنوات الماضية، التي تعد أساس حصول التنظيمات على تمويلات وأساس قدرته على تجنيد عناصر جديدة. وهذا ما أكده كون التهديدات القاعدية الأخيرة لـ”أمريكا، إسرائيل، المملكة العربية السعودية” كانت على لسان “حمزة بن لادن”.
ظهور حمزة بن لادن، على الساحة في الوقت الذي بدأ فيه تنظيم داعش السيطرة على ساحة السلفية الجهادية. في ظل تركيز التنظيمات على استهداف الشباب، دفع نحو ضرورة تطور خطاب التنظيمات الإرهابية. “أيمن الظواهري” زعيم تنظيم القاعدة –بطبعه- يفتقر لأسلوب خطابة حماسي -وإن كانت رمزية اشتراكه في التأسيس تضفي قوة لوجوده- ملائم لتطلعات الشباب المستهدف، فكان البديل القوي حمزة بن لادن، بوصفه المتقارب من ناحية العمر، ولامتلاكه أسلوب الخطابة الحماسي من ناحية أخرى. فموت حمزة بن لادن، وعدم وجود بديل واضح يقوم بدوره، إلى جانب سوء الحالة الصحية لأيمن الظواهري، تضع تنظيم القاعدة في مأزق، حيث تضرب في الأساس الذي قام عليه التنظيم والعامل الأساسي لاستمراره إلى الآن، وهو إحكام السيطرة من القيادة المركزية، مما يدفع لاحتمال انقلاب أحد الفروع وحدوث انقسامات داخلية بالتنظيم، ومن ثم تراجع تهديده خاصة فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها.
[1]– September 2001 Interview with Osama bin Laden. Categorically Denies his Involvement in 9/11, Global Research, September 09, 2014, URL:
https://www.globalresearch.ca/interview-with-osama-bin-laden-denies-his-involvement-in-9-11/24697
[2]– النص الحرفي لتصريح المتحدث باسم تنظيم القاعدة، إيلاف، 18 أبريل (نيسان) 2002، متاح على الرابط التالي:
[3]– Al Qaeda plotting plane attacks in Europe: UK Security Minister Ben Wallace, Hindustan times, Dec 25, 2018, URL:
[4]– Singapore Terrorism Threat Assessment Report 2019, MHA, Jan 2019, URL:
https://www.mha.gov.sg/newsroom/press-release/news/singapore-terrorism-threat-assessment-report-2019
[5]– للاستفاضة: (1-1) هل يلفت تنظيم القاعدة الأنظار 2019؟، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، الإمارات، 28 يناير (كانون الثاني) 2019، متاح على الرابط التالي: