نجاة عبدالصمد*
“إنني ألعن الأنظمة الشمولية لأنها تعلق مواطنيها من نياط أفئدتهم”. “علمتني الثورة ألّا أجد العزاء في مآسي الآخرين، وألا أشعر بالامتنان لأن أناساً كثيرين كانوا يتعذبون أكثر مني. فالوجع والخسارة، كالحب والفرح، فريدان وشخصيان؛ لا يمكن تخفيفهما من خلال المقارنة بالآخرين”.
هو مقطعٌ في الفصل الأخير من كتاب: “أشياء كنت ساكتة عنها” ذكريات، آذر نفيسي، ترجمة: علي عبدالأمير صالح (العراق)، منشورات الجمل، 2014. سيسندني في محاولتي لتقديم ذكريات د. نفيسي (دكتوراه في الأدب الإنجليزيّ) الكثيفة والشفافة والوسيعة والمتألقة في صراحتها. تقول: إنها حين بدأت بتدوينها لم تكن تطمح إلى أكثر من فهم نفسها أولاً، ومحاولة فهم ما يجري في بلدها العزيز، وفي العالم الذي عليها أن تنجز حياتها فيه؛ حياتها المكتنزة بغير المال.
أن نقرأ الكتاب مترجماً إلى العربية، فهذا يعني أن نبصر أنفسنا في عيون من يروننا أعداءهم التاريخيين. هذي العداوة المحفوظة بحرص، والتي لن تطفو إلا في أوانها.
وثيقة تاريخية وتنقّلٌ آسرٌ
هل الكتاب سيرة امرأة أم سيرة بلد؟! كلاهما معاً. هو وثيقة تاريخية وتنقّلٌ آسرٌ وغير ملحوظٍ بين الخاص والعام، وبين الماضي والحاضر، وبين ظاهر الأحداث والعواطف الكامنة خلف ظلالها، وبين المسموح والمحظور وما نخاف أن يُكشف من أسرارنا الحميمة.
وُلدت نفيسي في أسرةٍ إيرانية ضليعةٍ بالشأن العام. كبرت مع حكاياتٍ يرويها لها والدها قبل النوم أو في مشاوير الصباح، تستحضرها ذاكرته من كتاب “الشاهنامه” (كتاب الملوك) للشاعر الملحمي الفردوسي الذي كتب حكايةً أسطورية عن إيران منذ خلق العالم، وحتى ألف سنةٍ خلتْ. “كان هدف الفردوسي أن يضرم اعتزاز مواطني بلاده بماضيهم العريق قبل الغزو العربي لها في القرن السابع الميلادي، تلك الهزيمة المهينة التي أشهرت نهاية الإمبراطورية الفارسية الموغلة في القدم، وتبدّل دينُنا من الزرادشتية إلى الإسلام”.
يبدو أن العرب في نظر الفرس برابرة، وأنّ الفرس لن يغفروا لمن استباح بلادهم عقب معركة القادسية، ولن يعنيهم أن يتذكروا عدالة الخليفة عمر بن الخطاب، بقدر ما يهمهم ألا ينسوا أمرَه بإتلاف بعض كتب التراث الفارسي من غير أن يسأل هذا الشعب عمّا قد يحب أو يقدّس، لأنه، وبرأي الخليفة عمر: “لن يحتاج الفرس سوى القرآن دليلاً لحياتهم الجديدة بعد اعتناقهم الإسلام”. وعليهم أن يهجروا الشاهنامه التي فيها مثلاً: نصيحة الملك سام لابنه زال: “تمتع بالحياة وكن كريما. ابحث عن المعرفة، وكن عادلاً”. تذكر صوت والدها أحمد نفيسي، الرجل المسلم: “لسبب واحد علينا أن نؤمن بالله، هو وجود أشعار من مثل أشعار جلال الدين الرومي أو أبي القاسم الفردوسي”.
أعداء من الداخل
تعود أسرة والدتها إلى سلالة القاجار التي حكمت بلاد فارس (1794ـ 1925). لكن نفيسي ولدت في منتصف القرن العشرين، ونشأت في خضمّ عهد البهلويين (1925ـ 1979)، وشاركت في الثورة ضد حكم الشاه، وخاب أملها لما آلت إليه البلاد بعد هذي الثورة: “إنه اختلافٌ غريب بين أن تعيش لحظةً تاريخية، وأن تفكر مليّاً في نتائجها. كان أبي أخبرني بأن تاريخ بلدنا مليءٌ بالحروب والفتوحات، لكننا بعد ثورة 1979 واجهنا أسوأ الفاتحين قاطبةً لأنهم كانوا أعداء من الداخل!”.
كانت نفيسي صغيرة السن أيام ثورة 1962 التي تسميها: (تمرينٌ من أجل ثورة). كان الشباب الإيراني بدأ يتفاعل علميّاً وثقافيّاً، يقرأ برتراند راسل، وجان بول سارتر والفكر الماركسي. برزت التيارات الفكرية الأقرب إلى العلمانية نهاية الخمسينيات، وقبل أن يستبد حكم الشاه محمد رضا وتقوم ثورة 1962 المطالبة بتغيير دستوري يضمن حقوق المرأة بالانتخاب، وحقوق الأقليات بعضوية المجلس التشريعي، وضمان الحقوق الثقافية للجميع. عن تلك الفترة تكتب آذر: “كان مدهشاً كيف سيطرت الطرائق العلمانية المعاصرة بسرعةٍ على مجتمعٍ هيمن عليه –بشدة- الدين التقليدي والدكتاتورية السياسية. تفاقم الهيجان الشعبي عام 1963 واستمر حتى 1979 (تاريخ انتصار الثورة الإسلامية). كان صراعاً دموياً عنيفاً قسّم إيران سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً، حدّ أنه كان صراعاً وجودياً. والحق أن السعي نحو التحديث كان قبل البهلويين وسيستمر بعدهم. وقبل الشاه وبعده كان المجتمع الإيراني متقدماً جداً على زعمائه. وكان البارزون في المشهد الثقافي والاجتماعي هم المستهدفون من قبل النظام. وظلّ والدي مؤمناً بأن التحوّل السياسي السليم والسلميّ لن يأتي إلا من اتحاد ومشاركة القوى الدينية التقدمية والقوى العلمانية وإلا فلن يكون.
في عهد الشاه كانت منظمة الاستخبارات الإيرانية (سافاك) مرعبة. “كان يتم التعامل مع المعارضة السياسية باعتبارها شكلاً من أشكال الجريمة: يحاكَم غالبية المذنبين بتهم كاذبة، وهناك حيز صغير للدفاع عنهم”. وهو ما تكرس بطرق كثيرة بعد الثورة. “الدرس الأول في السياسة الإيرانية والحياة العامة: الحقيقة لها أهميةُ قليلة جداً”. “لم تكن الحكومة نزيهةً على الإطلاق مع شعبها، كانوا يبقون الأخبار الحقيقية طيّ الكتمان، وتحل الشائعات محل الحقائق”.
يكتب والدها في يومياته حين احتشد عدد غفير من أهالي طهران للتبرع بدفع كفالة له ليخرج من السجن الذي استبقاه أربع سنواتٍ بتهم ملفقة في عهد الشاه (بُرّئ منها لاحقاً): “لم أكن أعتقد أن سكان طهران طيبون إلى هذه الدرجة. هذه الأمة غاية في الغرابة؛ تشاهد الاستبداد في صمت، وفجأة تبرهن على إرادتها ـ حقيقة وجودهاـ عبر المقاومة المنفعلة”.
الرجل الإلهي
وتسترسل نفيسي: العلمانيون هم الذين بدؤوا ثورة 1979، ثم استولى عليها الإسلاميون. والخميني الذي كان متخفياً في كربلاء إبان حكم الشاه، وطرد منها عام 1978 (في محاولة من العراق لتحسين علاقاته مع إيران)، واستمر في لفت الانتباه عالمياً بسبب رسالته الثورية ضد النظام الملكي الحاكم، وتقديم نفسه على أنه الرجل الإلهي الذي يدير ظهره للعالم، بينما كان في حقيقة الأمر يتآمر ويخطط للسيطرة عليه، ويسحر أنصاره الذين كانت أعدادهم تربو على الملايين. أطلق على أمريكا اسم: “الشيطان الأكبر”، وحاربها وحارب خدمها الخنوعين، ثم تحول ضد مؤيديه من العلمانيين والإسلاميين معاً بعد إعلان المجلس العسكري الأعلى انتصار الثورة الإسلامية. حوربت الأقليات وأُجبرتْ على أن تكتب (أقلية دينية) على لافتات محلاتها، وآذت الثورة المؤمنين بطريقة جوهرية أكثر مما آذت الكفار، وتبددت أواصر المحبة بين الإخوة وأبناء العمومة، وتكرس القمع والإعدامات لمجرد الشبهة. التزم الناس منازلهم. لا قهاوي، لا مطاعم، عداوة بين الأهل، انهيارات على مستوى الأسر، شقاق عائليّ، انفصال بين الأزواج الذين كانوا يؤجلون خصوماتهم لعقود، ثم أنجزوها بعد انهيار النظام الاجتماعي القديم، وتفاقمت الهجرات بعد الحرب أكثر منها أثناءها.
عنف لامرئي
ثم، بعد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية (1980ـ 1988)، وانكشاف فشل الثورة في جلب الازدهار إلى إيران أو تصدير النظام الإسلامي إلى العراق، وتسببها في خسارة نحو مليون إنسان، ما بين قتيل ومفقود وجريح، شعر الثوريون القدماء (الإسلاميون) بأنهم خدعوا وبدؤوا يطلبون دعم ومساندة العلمانيين. أي إن ما تجنبوه بالأمس راحوا يتحولون إليه اليوم. وبعد توقيع معاهدة السلم وإعلان انتهاء الحرب: “لم يفارقنا الخوف. كان يبدو أن هناك شيئاً ما خادعاً في إحساسنا بالأمان، كأن السكون الذي جاء به السلم يحمل الصدمة القوية نفسها كالقنبلة. كأن حياتنا تغيرت ليس بسبب الكارثة والأشلاء، بل –أيضاً- بسبب شتى أنواع العنف، ومعظمه عنف غير ملموس، كان كالدود يلتهم حيواتنا اليومية الطبيعية”.
وفي التسعينيات، وجنباً إلى جنب مع الانفتاح السياسي، استمرت المضايقات للعلمانيين والمثقفين والكتاب والشعراء والمترجمين، يقتلون أثناء ذهابهم إلى عملهم أو في السوق أو الزيارة… وبدأ الارتداد إلى الرموز الزرادشتية. “ومع ذلك أشكر الجمهورية الإسلامية في طهران؛ لأنها عندما حرمتنا من مسرات الخيال ومن الحب ومن الثقافة جعلتنا نتجه إليها كلها”.
آذر: سيرة الأسرة
أما سيرة الأسرة الشخصية، فتبدأ من العلاقة مع الأم التي أغلقت أقفال قلبها بعد وفاة زوجها الأول “سيفي” بعد عرسهما بسنتين إثر التهاب الكلية القاتل، وكان زواجها الثاني من أحمد نفيسي والد ابنيها آذر ومحمد الذي استغرق حياتها الفعلية؛ كأنه لم يخترق سياج عقلها الساعي نحو المثاليات: (أسرة مثالية، صديقات مثاليات)، الأمر الذي لم تتقبّله ابنتها آذر، واعتبرته “نزوعاً عقلياً شمولياً”، لم تنفع معه محاولاتها في الانسجام مع والدتها التي بدورها كانت قانعة بكمالها وصدقها واستقامتها، في حين كان كل من حولها يكذبون عليها بمن فيهم زوجها وولداها. مالت آذر كلياً إلى والدها الذي قضى عمره يبحث عن الحب، ولم تجزم ابنته، سواء من خلال يومياته التي كتبها، أو من خلال أحاديثهما، إن كان حصل عليه حقاً أم لا. وخلال رفقته والتعلق الشديد به، تعلمت منه كيف يمكن أن تكون الرغبة بالاستحسان والدفء رغبة مميتة!
لم تكتب آذر إلا القليل عن حياة أسرتها الصغيرة. عاشت زواجاً أول مرتجلاً وسريعاً أثناء وجود والدها في السجن، لم يدم سوى سنتين تعيستين. ثم زواجها المستمر الثاني من بيجان المهندس (البهائي)، ولم تكمل رسم العلاقة بينها وبين زوجها أو ولديها كما أتقنتها بخصوص أبويها. كلاهما ظلا محفورين في رأسها كحاضر مستمر، كسيرة ذاتية مستمرة، لا كماضٍ مطلٍ من حينٍ لحين، حتى بعد أن ودعتهما في إيران، منفصلين، وهاجرت للاستقرار نهائياً في أمريكا قبل موتهما بسنوات، كان عليها خلالها أن تباشر سيرتها المستقلة. تلك بقيت الفكرة الناقصة. ربما يلزمها وقت ليمكنها استكمالها في كتاب آخر، هذا إذا كان فيها ما يفيد!
الروح الهائمة في إيران
آذر نفيسي تقيم الآن في أمريكا، ولا يزال القسط الأكبر من روحها هائماً في أرض إيران، ولا تزال تقرأ الأدب القصصي الإيراني، وتحاضر فيه، وتكتب عنه، وعما يشدها من الأدب العالمي، وتكرس قراءاتها ومقالاتها للبحث عن فهم حقيقي للوقائع السياسية.
الكتاب في مجمله أدب مشوّقٌ، وجميل، وصادق، ومقنع. ترى كم نستطيع أن نكون موضوعيين في الحكم على من نحب، وعلى من نكره، سواء أكانوا أشخاصاً أم دولاً؟!
أسلمتني آذر ـ كقارئةٍ عربيةـ لأن أرى صورتي في عيون الآخرين الذين ينظرون إلى انتمائي بوصفه حاملاً عداوة شخصية لانتمائهم. كيف لي أن أخبرها بأنها أخرجتني من موروثي الذي أنشأني على أن أنظر إلى إيران كبلدٍ عدوّ؟! وأنها نجحت في كسب مودتي، بل محبتي، وتوقي لأن أحمل عنها قسطاً من عذابها وهي ترى بلدها المحبوب يتردّى من هضبات الحرية إلى مضائق الدين بعد (ثورته الإسلامية)؟ أستطيع الجزم بأنه خطر الثقافة ودورها في آن واحد!
* طبيبة وكاتبة سوريّة.