قراءة في كتاب: “رغبة عارمة في التضحية، المسلم الأعلى“
الكتاب: Un furieux désir de sacrifice: Le surmusulman
الكاتب: فتحي بن سلامة**
الناشر: le seuil (لوسوي) باريس، 2016، (149 صفحة)
ريتا فرج
في “رغبة عارمة في التضحية: المسلم الأعلى” يفتتح المحلِّل النفسي فتحي بن سلامة كتابه بإشكاليتين: كيف تعمل الرغبة في التضحية التي استحوذت على الشباب باسم الإسلام؟ ولماذا وكيف أخذت هذا المسار السيئ؟ يطرح الكاتب مصطلحاً جديداً: “المسلم الأعلى” الذي يشكل “مركز الثقل” لأدوات التحليل النفسي التي يستند إليها.
بدأ اهتمام ابن سلامة بإرهاصات “المسلم الأعلى” ضمن تجربته العيادية (النشاط السريري) في مقاطعة السين– سان دوني (Seine-Saint-Denis)، حيث لاحظ خلال سنوات عديدة (كمحلل نفسي) ارتفاع “عذاب الندم” في “أن لا تكون مسلماً كما ينبغي“، مما يقود أشخاصاً لبناء إيمان ملتهب يطالب بمزيدٍ من الممارسات الدينية؛ بهدف تفادي ما يسميه “وصمة العار“.
لا يعتمد ابن سلامة في تحليله على فهم السياقات النفسية والاجتماعية لأنموذج “المسلم الأعلى” فحسب، إذ إنه يضعنا أمام تمظهرات الإسلاموية المعاصرة (Islamisme) محبذاً استخدام “اختراع الإسلاموية” في أطرها التاريخية بغية درس الظاهرة بكليتها؛ وملاحظاً أن النظريات السياسية الحديثة التي طاولت “الإسلام السياسي” لم تدرك أنه مؤسس على “قوة الراديكالية الدينية” التي تتلاقى مع المقدس القديم والإنفاق الأضحوي (Dépense Sacrificielle) بمساعدة التكنولوجيا الحديثة.
يشير ابن سلامة إلى أن الحروب الدائرة في العالم الإسلامي أطلقت العنان للقوى التدميرية الأشد قساوة: ضحايا وجلادون، أبطال وخونة، إرهابيون ومرعوبون، وخصوصاً الفاعلين الأكثر خطراً: “الشهداء“1 الذين يملكون القدرة الملتهبة على علاقة مباشرة بالرغبة في التضحية، دون أن ننسى الحرب الأهلية المستمرة بين المسلمين منذ بدايات القرن العشرين حول سؤال: “ماذا يعني أن تكون مسلماً؟ ومن يملك قوة التعريف؟ يستحضر ابن سلامة كلام أحد الشباب الذي قال: “أحب أن أكره لأن ذلك يمنحني القوة” متسائلاً: كيف يمكن تفسير “حب الكره” لذاته؟ وهل يجب أن نتفاجأ أمام الجهاديين الذين يعلنون: “اقتلوا بحب“؟. الجريمة المرتكبة في لامبالاة مستساغة (أكثر احتمالاً) حين تنفذ في مذبحة الجموع.
يلفت ابن سلامة إلى أنه منذ الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 سيطرت لفظة “الأصلنة” (Radicalisation) على الفضاء العام، بوصفها حقلاً معرفياً تبذل حوله جهود علم الاجتماع والتحليل النفسي؛ من أجل فحص هذا المفهوم المتضمن لقيمة عَرضية (عرضي/ تشخيصي) (Valeur Symptomatique). ومن هنا يبدأ الكتاب الذي يميز بين “الأصلنة كتهديد” و“الأصلنة كعَرض“.
جاء الكتاب في فصلين: الأول: حول الأصلنة ووزع على محورين: الأصلنة كتهديد، الأصلنة كعَرض. والثاني: المسلم الأعلى واجتيازه (أو تجاوزه) ووزع على أربعة محاور: اختراع الإسلاموية؛ المسلم الأعلى؛ جنون الفتوى: الجنس والمسلم الأعلى؛ عن تجاوز المسلم الأعلى… المرآة السياسية.
الإرهاب الأعمى: قوة تدميرية لا تهاب شيئاً
يرى ابن سلامة أن انبثاق الجهادية على المسرح العالمي، لا سيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أدى إلى زيادة الاهتمام بمفهوم الراديكالية في الخطاب الذي يحلِّل العلاقة بين العنف والسياسة. لقد فتحت “الراديكالية” حقلاً معرفياً نظرياً وعملياً يتمفصل حول دراسة الخوف في سبيل دراسة عوامله ومسبباته. ومن المفارقات القاسية التي يسجلها الكاتب: في الوقت الذي ينفتح العالم على بعضه، يتفجر من هذا الانفتاح خطر مخيف آتٍ من إرهاب أعمى، لا يوفر أية وسيلة من أجل نشر الرعب. الجهاديون المعولمون يمتلكون الوسائل المتاحة التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة لبث أيديولوجيتهم وعلى رأسها الجهاد الإعلامي. وفي هذا السياق يستشهد ابن سلامة بمقولة أيمن الظواهري “الجهاد الإعلامي نصف المعركة“، أي إننا أمام حالة قصوى من العنف الإرهابي العابر للحدود، المرئي أمام الجميع. آثر مرتكبو المجازر عبر التاريخ إخفاء جرائهم لمحو البصمات وإنكارها، بينما اليوم المجازر مرئية. يتساءل الكاتب: لماذا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)2 وحركات جهادية أخرى، تجعل من نشر الخوف والقساوة جزءاً من دعايتها؟ ثمة علاقة بين تقنيات المرحلة ومذبحة الجموع منطلقها الرئيس: أن هذا الرعب يطرح نفسه كقوة تدميرية لا تهاب شيئاً. هؤلاء الجهاديون يستهلون إساءتهم بصرخات “الله أكبر” من أجل الإيحاء بأن الله نفسه يفعل من خلالهم. يخرج ابن سلامة بخلاصة مهمة خلال تحليله لمذبحة “شارلي إيبدو” وأحداث باريس الدامية ومتحف باردو: الضحايا بالنسبة لهؤلاء القتلة ليسوا أشخاصاً، إنما فقط كائنات حولت إلى جثث؛ الإرهاب هنا يعني القتل الكلي.
يناقش الكاتب الطروحات التي صاغها الفيلسوف الألماني والتر بنيامين (walter Benjamin) الذي ميَّز بين “العنف الأسطوري” و“العنف الإلهي“. ويمكن إدراج عنف الجهاديين في إطار العنف الإلهي؛ إذ يرتبط بشكل مباشر بمفهوم الأضحية الذي يحتوي –أيضاً– على أبعاد أسطورية يختلط فيها الدنيوي بالمتعالي، والأسطوري بالإلهي. واستكمالاً لمفهوم الراديكالية يلفت ابن سلامة إلى المحاولات الأوروبية الجادة للإحاطة بها، ملاحظاً أن التحليلات الراهنة لا تتخذ إطاراً معرفياً واحداً، إنما هي متشعبة، ويعود بنا إلى عالم الاجتماع الفرنسي– الإيراني فرهاد خسروخاور (Farhad Khosrokhavar)3 الذي رأى أن الراديكالية خضعت لتغيير لا يتسق مع النسق الإرهابي فقط. بالنسبة له “التطور الواقعي للراديكالية الإسلاموية يؤدي إلى استنتاجٍ بأن البعد الذاتي الخالص يأخذ أهمية متفاقمة” وهذا ما يضع علم النفس أمام تحدٍ جديد، علماً أن أعمال علم النفس والتحليل النفسي حول الراديكالية لم تأخذ مكانها إلا ببطء.
يستعين ابن سلامة بتقرير عضو مجلس الشيوخ الفرنسي والنائب الاشتراكي سباستيان بيتراسانتا4 الذي وضعه عام 2015 عن الجهاديين الفرنسيين الملتحقين بساحات المعارك في سوريا والعراق. وقد جاء تحت عنوان (La déradicalisation, outil de lutte contre le terrorisme) (الاستئصال: أدوات القتال ضد الإرهاب) ومن بين الخلاصات المهمة المدرجة في التقرير أن الراديكالية لا تختص بالطبقة الشعبية القاطنة في الضواحي الفرنسية فحسب، فبين هؤلاء شباب ملحدون وآخرون ليسوا من أبناء المهاجرين. هذه المعطيات تبين مدى الصعوبة في فهم المواصفات الشخصية لأنواع التطرف أو المرشحين للجهادية. يلاحظ التقرير أن تسارع الراديكالية مرتبط بالتغيرات الاجتماعية التي يمكن ملاحظتها في العقود الأخيرة:
- انهيار البنى العائلية وتراجع سلطة الأب.
- فقدان الإنصات للسلطات المؤسسية (الجيش، المدارس، والكنائس…).
- إلغاء الخدمة الوطنية التي تقدم الاختلاط الاجتماعي.
- ارتفاع البطالة في صفوف الشباب.
- فشل في السلم الاجتماعي.
- الغيتوات في الأحياء.
الأصلنة كـ“أعراض“: الهدم والتطهير
إذا كانت الأصلنة (Radicalisation) تحتوي على قيمة عرضية، فهي أيضاً ترمز إلى دلالة حمائية. وقد لاحظ ابن سلامة خلال نشاطه العيادي في الخدمة العامة ضمن الضواحي شمال باريس، أن ثمة خطاباً “فائق الإسلامية” يستبطن رغبة طارئة بتأصيل الجذور. وبهذا المعنى، فإن الأصلنة يمكن أن تفهم كعَرض رغبوي للتجذر لأولئك الذين لا جذور لهم. إن مصطلح الأصلنة لم يكن حاضراً في الاستخدامات السياسية والتحليلية، وجرى الاستعاضة عنه سابقاً بمصطلحات أخرى من قبيل: الأصولية، التعصب، التبشير المتحمس (أو الدعوة الحارة للدين). ومن أجل تحديد المقصود بالأصلنة كعرض يقول ابن سلامة ما معناه: حيث هناك تهديد (اقتلاع الجذور)، يصبح التجذر وسيلة وأداة سماوية للحفاظ على الذات، ذات الفرد وذات الجماعة المهددة بفقدان هويتها الدينية تحت وطأة الحداثة، التي تركت ندوباً وصدمات جرحية لدى الكثير من الشباب من أبناء المهاجرين، لا سيما الفئات العمرية التي تتراوح بين (15) و(25) سنة.
يشرح ابن سلامة العلاقة بين الهوية والأصلنة الكامنة التي تتغذى من الإحباطات والكره ورفض العالم الواقعي، وتجد جواباً لها لدى الإسلاموية الجذرية أو “العش البيئوي” بالمعنى الذي استخدمه الفيلسوف الكندي (Ian Hacking).
تتمظهر أعراض الأصلنة في علم نفس الجموع من خلال: الهلوسة، تكاثر الطقوس الدينية، العدوى السلوكية، الإيحاء والخضوع الأعمى. هذه الأعراض تطرح معضلة في التحليل النفسي يمكن وصفها بالأصلنة، كميلٍ للبقاء في حالة طوارئ نفسية. ومن خلال التحليل العيادي لهذه الأعراض يخرج ابن سلامة بخلاصة مفادها: إن العرض يختفي بفعل الإشباع المثالي الذي يضع الموضوع في مهمة إلهية.
إن الراديكالية الإسلاموية هي أيديولوجية دينية تتأسس إحدى قواعدها على الندم والتطهير. يشير ابن سلامة في مقاربته لهجمات باريس الدامية إلى معطيين على علاقة بمنفذي الهجمات:الأول يرمز إلى مجموعة طلقت الحياة الدنيا؛ والثاني يصنف الذين قتلوا كوثنيين مشركين في عاصمة الرجس والانحراف. التضحية الذاتية في الجهادية تستحضر ما كان يسميه المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan) (1901-1981 )بـــ “النرجسية الأسمى” للسبب المفقود.
طوبى الإسلاموية والمسلم الأعلى
في الفصل الثاني من الكتاب يدافع ابن سلامة عن الأطروحة التالية: إن الإسلاموية هي اختراع من قبل المسلمين انطلاقاً من الإسلام، بحثاً عن طوبى معادية سياسياً للغرب باستخدام أدواته السياسية. وبعيداً من ثقافة الأصولية كبصمة تلازم الإسلام، برهنت أعمال المؤرخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) (1946)، كيف أن الإسلام الراديكالي حالة من الأصولية تصيب عدداً كبيراً من الأديان في العالم، تحت تأثير هدم البنى التقليدية بفعل الحداثة. ولعلّ ما ميّز الإسلام في هذا الخصوص، يتمثّل في أنّ قسماً من أصوليّته كان –بسبب الحروب–مسلّحاً.
إن إحدى الفرضيات الأساسية المطروحة من الكاتب قوله: اختراع الإسلاموية غايته إسقاط أنموذج القيادة السياسية؛ بمعنى تبعية السياسي للديني لدرجة امتصاصه كي يختفي. يشير ابن سلامة إلى ثلاثة أحداث مفصلية كان لها أعظم الأثر في تشكل الإسلاموية: الثورة الإسلامية في إيران (1979)؛ تأسيس الإمارة الإسلامية في أفغانستان (1996)؛ الإعلان عن الدولة الإسلامية“داعش” (2014).
يلاحظ ابن سلامة أن صيغة الحكم الديني في إيران (كنظام ثيوقراطي هو الأول في العالم الإسلامي) جعلت الدين في قمة السلطة. وفي الطرف المقابل، فإن المملكة العربية السعودية ليس لها نظام ثيوقراطي، إنما هي ملكية عائلية تلتزم بالوهابية. وفي استنتاج دال يخلص إلى أن انتصار الدين يمر عبر استئصال كل العلامات المعادية لـ“الله” بطريقة لا يبقى فيها أي فضاء خارج سيادة الديني. إن النماذج الثلاثة التي درسها تبين أن الغاية الرئيسة للإسلاموية ليست استقطاب الدين، وإنما امتصاص السياسة عبر الدين؛ هذا المخرج السياسي عبر الدين، يعود بجذوره إلى فكر ابن تيمية، فبالنسبة له ليس هناك سياسة إلاّ الدين: الدين هو السياسة.
يعيد الكاتب ولادة الإسلاموية إلى مؤثرات الحملة الفرنسية على مصر مصنفاً إياها بــ“المسرح الأولي للإسلاموية” التي تشكلت خلال الغداء بين نابليون وشيوخ مصر. خلال الحديث المتبادل قال بونابرت للمشايخ: “إن العرب وضعوا الآداب والعلوم، ولكنهم اليوم في جهل عميق، ولم يبق لهم شيء من معارف أجدادهم، فأجابه الشيخ محمد السادات بأن القرآن تبقّى لهم، وهو يحتوي على كل المعارف. فسأل بونابرت إذا كان القرآن يضع القوانين، فأجابه كل الشيوخ الحاضرين إيجاباً“. إن استحضار هذا الحدث التاريخي من قبل ابن سلامة غايته إيصال القارئ إلى فهم أصول الإسلاموية التاريخية، انطلاقاً مما يطلق عليه “اللاهوتية العلموية” أي إن المسلمين يعتبرون القرآن يتضمن العلوم الفقهية والعلمية في آن، وهذا يؤدي إلى ولادة حمولات فائضة من الإحالات والتقديس الكلي.
يقصد الكاتب بالمسلم الأعلى ذلك الميل لدى بعض المسلمين إلى شكل من أشكال المزايدة الدينيّة، حيث يتم إبراز فائض من التدين؛ كي يصبح المسلم أكثر إسلاماً لجهة الالتزام المفرط بتطبيق الطقوس الدينية، وإلا سيعيش في نكد. ومن خلال حالة المسلم الأعلى يماهي المسلم نفسه مع النبي والصحابة، فبالنسبة له الخير أخذ مكانه والوعد تحقق، وليس له سوى البحث عنه في الماضي، منتظراً نهاية العالم أو على الأقل تسريعها.
المسلم الأعلى تشخيص للحياة النفسية للمسلمين، مخصب بالإسلاموية ومسكون بحالة الشعور بالذنب والتضحية. المسلم الأعلى يريد أن يتلفظ دائماً باسم الله في العالم، ويدين الذين يخرجون عن دائرة الإيمانية المفرطة في التدين عبر الوعد والوعيد. يسمي ابن سلامة هؤلاء بـــ“المكبرين” طالما أنهم لا يكفون عن التلفط بــ“الله أكبر“.
يحدد الكتاب الآليات الدفاعية التي تلجأ لها –عموماً– الإسلاموية، معتبراً أن لها عدوين: العدو الخارجي الغربي، والعدو الداخلي المتغربن (occidenté) (نسبة إلى الغرب) الذي يرفض خضوع السياسة للدين، ويريد العيش كمواطن داخل الأمة.
جنون الفتوى والمرآة السياسية للفورات العربية
يستحضر ابن سلامة فتوى إرضاع الكبير التي أصدرها أحد مشايخ الأزهر عام 2007، مشيراً إلى الطريقة التي تعامل بها المسلمون عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع هذه الفتوى الغرائبية، فقد سخروا منها، كما أن بعض رجال الدين في الأزهر اعتبروا أنها تفسير سيئ لحالة خاصة أيام الرسول. ويتوقف ابن سلامة عند ظاهرة فوران الفتاوى والفوضى التي تعتريها، مشدداً على أنها تؤسس لسلطة في وعي المسلمين، وتنطوي الفتاوى المرتبطة بالجنس على أعراض دينية عصابية. لقد أصبحت الفتوى في التاريخ المعاصر على علاقة مباشرة مع الموت، خصوصاً بعد صدور فتوى من قبل الخميني بهدر دم سلمان رشدي، على خلفية روايته “آيات شيطانية“.
من بين عوامل الذعر الغريزي للمسلم الأعلى: ظهور الجسد الأنثوي في الفضاء العام، وقربه اليومي من الرجال في الميادين كافة، وبناءً على هذا الفهم تجب قراءة فتوى إرضاع الكبير. وفي سياق التوظيف الغرائبي للفتاوى في الحقل الجنسي، تتصدر الحركات الإسلاموية موقع الصدارة في إصدار الفتاوى المتعلقة بالعمليات الجهادية في الحرب الأهلية الدائرة داخل العالم الإسلامي. يتحدث ابن سلامة عن تناقض بين الشريعة والقانون الوضعي المكرس في الدساتير، مما يؤدي إلى سيادة نوع من الازدواجية بين الشريعة والقانون المدني، وينعكس بشكل سلبي في حياة جزء كبير من المسلمين.
يرى ابن سلامة أن فتوى إرضاع الكبير غايتها منع النساء من الخروج إلى الفضاء العام، وهي تنبيه لخطورة الاختلاط بين الجنسين؛ لأنه يسمح بإطلاق الغرائز الجنسية، والحل الذي أوجدته الإسلاموية: الحجاب، بأنواعه، الذي يخفي الجسد الأنثوي، وخصوصاً الشعر، منبع الإغراء في عديد من الثقافات. تطرح الفتوى هنا مسألة تعرية الجسد الأنثوي من مواصفاته الجنسية.
في سياق فهم الفوران الثوري الذي شهده العالم العربي بدءاً من عام 2010، يرفض ابن سلامة الخطاب الإنقاصي والأحكام السلبية التي تحيط بحركات الاحتجاج، معتبراً أنها تحتوي على عناصر غنية في مقاربة السياسي والذاتي. يركز الكاتب بشكل أساسي على الحالة التونسية، محللاً صورة زين العابدين بن علي كطاغية، تلك الصورة التي احتلت المشهد السياسي التونسي لعقود، واستولت على فضاء الحياة في كل البلاد.
يصف ابن سلامة نظام ابن علي في إحدى مقارباته بنظام الحكم الذي تسبب في العجز الكامل: ألغى التونسيين سياسياً، حول الفاعلين على الساحة العامة إلى دمى، نهبت جماعته الجشعة الأملاك العامة على مرأى من الجميع، إذلَّ المعارضين جسدياً ومعنوياً، وترافق ذلك كله مع الإطراءات من الديمقراطيات الغربية التي تدَّعي –كالعادة– أنها لا تعرف.
يلاحظ ابن سلامة أن ثمة ظواهر مهمة انبثقت من الثورة التونسية، وهي انخراط الناس في الفضاء العام: الشوارع والطرقات والأزقة التي كانت –سابقاً– مكاناً مخصصاً لصور الديكتاتور.لقد تمكن التونسيون من التعبير عن أفكارهم وآرائهم، ومن المؤكد أن الديمقراطية ليست ممكنة من دون المرايا: مرايا الفضاء العام التي تنتج ذاتية جديدة. في المقابل، ثمة قلق عام يعتري عدداً كبيراً من التونسيين، يضعه الكاتب تحت مسمى “النحن القلقة“، وهي ترتبط بأعراض اجتماعية أكثر منها طائفية، أي إن الاضطراب الحاصل على علاقة بالتعارض في العلاقات الاجتماعية بين الإرادة العقلية والإرادة الطبيعة، التي نظَّر لها عالم الاجتماع الألماني فرديناند توينز في كتابه (Gemeinschaft and Gesellschaft) “الجماعة والمجتمع“.
يخرج الكتاب بخلاصات مهمة ويتضمن تحليلاً متيناً متعدد الجوانب لأعراض “المسلم الأعلى“. لقد قدم إجابات علمية على ظواهر حديثة لعل أبرزها ظاهرة الافراط المرضي في التدين، أي ذلك الأنموذج المتخيل في أن تكون أكثر إسلاماً.
**** محلِّل نفسي، أستاذ علم النفس العلاجي وعميد وحدة التكوين والبحث في علم النفس السريري والمرضي في جامعة باريس (7)، دنيس – ديدرو. نشر أبحاثاً كثيرة عن التحليل النفسي السريري، وعن الإسلام وأوروبا في العصر الحالي، وأسهم في كتب جماعية عدة. صدر له:
-
Une fiction troublante.
-
La Virilité en Islam.
-
La psychanalyse à l’épreuve de l’Islam.
-
La Guerre des subjectivités en Islam.
-
L’idéal et la cruauté, subjectivité et politique de la radicalisation.
1– يعتبر ابن سلامة أن الشباب الذين يرغبون في الاستشهاد، إنّما يريدون الخروج من الإنساني ليُصبحوا كائنات خارقة. فالآخرة متأصّلة في عقولهم من خلال خُطب الدُّعاة الذين يخترقون هاماتهم اللاواعية في لحظة تكون فيها الحدود بين الأنا واللاأنا (le non-moi)، بين الواقعي وغير الواقعي، بين الحياة والموت، مهتزّة إلى درجة يبدو معها –مباشرة– فعلُ التضحية بالنّفس في النهاية سهلاً؛ ويغدو مجرّد خاتمة. في هذه اللحظة، يجتاح الموت المتخيّل الذات إلى درجة يفقد معها الموت الفعلي معناه.
2– في حوار له نشر في صحيفة لوموند الفرنسية، يشير ابن سلامة إلى أن تحليل الواقع الذاتي لهذه الظاهرة الداعشية لا يعني وصمها بالجنون والهذيان، مذكراً بأن الشأن النفسي ليس مصدراً محضاً، بل يتألف من السياق الاجتماعي والسياسي. إن المطلوب حاضراً وبشكل ملحاح هو الانكباب على إنجاز أركيولوجيا نفسانية للاوعي العربي– الإسلامي؛ لكي يتسنى لنا تشفير البنى الرمزية والكشف عمّا تبطنه من أعراض وصدمات، تتمظهر عبر مسيرة عابرة للأجيال بأشكال مستجدمة corporée ومتلونة colorée بسياقات اجتماعية وسياسية. راجع: عدنان، يوسف، داعش أو الجسد العربي الجريح، موقع الأوان، 29 أبريل (نيسان) 2016، على الرابط التالي:
http://www.alawan.org/article15193.html
3– يخلص فرهاد خسروخاور إلى أن الربيع العربي اتسم بحركات اجتماعيّة ديمقراطيّة في معظم الدول العربيّة؛ وإذ تكلّلت بالنجاح في تونس وجزئيًّا في مصر، إلا أنّها أثارث جزعًا لدى الإسلاميّين الأصوليّين، سواء كانوا من الشيعة أم من السنّة. فبالنسبة للشيعة، الذين تقودهم إيران إلى حدٍّ كبير، تُعتبر المطالبة بالديمقراطيّة، التي أطلقتها أيضًا في إيران “الحركة الخضراء” في يونيو (حزيران) 2009، خطراً على النظام الثيوقراطيّ الإسلاميّ، ولهذا السبب فقد اعتُبر الذين قادوها زعماء الفتنة والخلاف والشقاق في الإسلام. أمّا بالنسبة لِلإسلاميّين السنّة فقد قادت الحركة الديمقراطيّة –بالتأكيد– إلى قلب نظامين عربيّين كانا من أشدّ المعارضين لقضيّة الجهاديّين، لكنّهم يخشون، من ناحية أخرى، أن تعني المطالبة بالديمقراطيّة أيضًا نهاية المطالبة بنظام إسلاميّ صارم وخالص. فالديمقراطيّة تعني سيادة الشعب وليس السيطرة الإلهيّة من خلال قراءة ضيّقة وحصريّة جداً للقرآن، تجسّدها مجموعة من الفقهاء والعلماء الإسلاميّين الأصوليّين الذين قد يتولّون السلطة باسم كفاءتهم الدينيّة والتزامهم السياسيّ. وهذا يفسّر كيف أنّ الحقبة الجديدة التي تبدأ مع هذه الحركات تُغيِّر أيضًا استراتيجية الجهاديّين تجاه القوى الجديدة الناشئة. إنّنا لا نزال في مرحلة التمهّل والضبابيّة، ولكن يمكننا أن نتوقّع منذ الآن أن يؤدّي الدفع نحو الديمقراطيّة إلى إضعاف شرعيّة الجهاديّين في نظر الرأي العامّ العربيّ. وإذا فشلت التجربة الديمقراطيّة، فسوف يمكنهم جني المكاسب من خلال تقديم نموذجهم كنموذج وحيد جدير بالثقة. وعلى العكس، إذا اندرجت الدمقرطة بثبات في النُّظُم السياسيّة العربيّة، فإنّ الجهاد الهجوميّ والاستشهاد غير المشروط سوف يُصابان بجمود طويل الأمد. راجع: فرهاد خسروخاور، جهادي أقدس من جهادك، موقع الواحة، 1 يوليو (تموز) 2011، على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/jYiWF
4– كان رئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس قد طلب من عضو مجلس الشيوخ الاشتغال على هذا التقرير غداة اعتداءات باريس. يشير التقرير إلى غياب توصيف دقيق للمرشحين إلى الجهاد، يلزم السلطات بالتفكير في طرق ناجعة لمحاربة هذه الظاهرة تتكيف مع حالة كل مرشح. وحذّر التقرير من مغبة معاقبة شخصين أو ثلاثة بالطريقة نفسها، من دون الأخذ في الاعتبار الفوارق في الخلفيات الاجتماعية والنفسية، والتاريخ الشخصي لكل فرد. ونصح السلطات بتنظيم ورش عمل لمحاربة التطرف الجهادي، تشرف عليها لجان متعددة التخصصات، ويشارك فيها محللون نفسيون ومساعدون اجتماعيون ورجال دين مسلمون، بالإضافة إلى قضاة وممثلين عن وزارة الداخلية. وعلى هذه الورش أن تدرس مختلف الحالات الفردية، من أجل التوصل إلى صيغة ناجعة لثني المرشح المحتمل عن الذهاب إلى مناطق القتال، والتخلي عن الأفكار المتطرفة. جاء التقرير في (91) صفحة، وهو متوافر على الإنترنت باللغة الفرنسية، راجع الرابط التالي:
http://www.ladocumentationfrancaise.fr/var/storage/rapports-publics/154000455.pdf