قراءة: رشيد الخيُّون
قبل قراءة أو عرض كتاب “الإخوان المسلمون رؤية اشتراكية” لمؤلفه سامح نجيب، والصادر عن مركز الدراسات الاشتراكية (2006)، نود العودة قليلاً إلى انجذاب العالم الإسلامي والعربي بثورة أكتوبر الاشتراكية، ومِن ثمة ما أسفرت عنه مِن إشاعة النظرية الاشتراكية، ومن هنا يمكن الوقوف على أهمية الخلاف أو الصراع بين أهل الإسلام السياسي وأهل الاشتراكية، والذين عُدُّوا ضمن الأحزاب العلمانية، والتي قرنت بالإلحاد.
فلا شك أن الخلاف بين الإخوان المسلمين، كتيار إسلامي ديني، واليسار، كتيار اشتراكي علماني، كان ومازال عميقاً، فقد تسرب الفكر الاشتراكي الماركسي إلى البلدان الإسلامية، وانتشر في مجالات الحياة كافة، السياسية والثقافية والاجتماعية، ناهيك عن كونه فكراً اقتصادياً، يمتلك رؤية أممية وقفت في مقابل الرؤية الرأسمالية، وما أسفرت عنه ثورة أكتوبر الاشتراكية بروسيا (في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917) مِن جذب لمبادئها وأفكارها، وهي تُقدم المساواة والعدالة الاجتماعية كهدف أساسي لها، وما أعلنته على لسان زعيمها فلاديمير إيلتيش لينين (ت 1924) مِن عزمها على نصرة الشعوب في التحرر مِن الاستعمار.
وعلى إثر تلك الثورة تأسست أحزاب شيوعية واشتراكية في مختلف البلدان العربية والإسلامية، حتى إن عدداً مِن هذه الأحزاب صار على أبواب استلام السلطة في يوم ما، مثل الحزب الشيوعي السوداني، والحزب الشيوعي العراقي، وما للحزب الشيوعي المصري مِن تأثير على وعي الحركة العمالية بمصر، وأن هذه الأحزاب كانت ممثلة بالأممية الثالثة (الكومنترن 1919- 1943)، وبقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي.
ومَن ينظر في جاذبية ثورة أكتوبر الاشتراكية (قامت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 لكنها عُرفت بثورة أكتوبر حسب التقويم الروسي القديم) لا يفاجئه موقف الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935) الإيجابي منها، كونها فتحت صفحة ضد الاستعمار العالمي. كتب الشيخ رضا في مجلته “المنار” ما استغرق خمس صفحات، وتحت عنوان “الاشتراكية والبلشفية والدِّين”، والكلمات الثلاث كانت عنوانَ مقالٍ نشرته “المنار” القاهرية بعد مضي سنتين على الثورة البلشفية، يرد فيه الشِّيخ رضا على الحملة التي شُنت على ثورة أكتوبر الاشتراكية، وهي في عامها الثاني، وكان المقال مخصصاً للرد على مصر في حينها.
جاء في مقال الشيخ رضا: “كثر ذم البرقيات والصحف الأوروبية في البلشفية، التي فشت في روسية وما جاورها من أوروبة وآسية، فوصفت بأنها عبارة عن فوضى وهرج، وسفك دماء، وانتهاك أعراض، وسلب أموال بغير قانون ولا نظام. ونرى جميع الدول الراقية خائفة من سريانها إلى بلادها وغلبتها على أنظمتها وقوانينها ودينها وآدابها. فكان هذا الخوف والحذر مما أوجب الريب في صدق ذلك الذم والقدح فيها، لأن تلك الفضائح المخالفة لكل دين، المستقبحة في كل عقل، المباينة لكل أدب وعلم، لا يخشى أن تهدم كل دين وأدب ونظام، وسنة الله في بقاء الأمثل والأصلح، التي هي أساس سنن الاجتماع. وقد عهد الناس من لسان السياسة ذم الحسن ومدح القبيح، وغير ذلك من قلب الحقائق. لذا نرى الناس يرجون من البلشفية خيراً، وإن لم يعرفوا حقيقتها، ويودون لو يعرفون معناها، ويقفون على أنظمتها”.
وأضاف قائلاً: “تُحارب إنكلترة وأحلافها البلشفية بالقول والفعل والمال والدين، وقد كلفت الشيخ محمد بخيت، مفتي ديار مصر، فأفتى في جواب سؤال بأن البلشفية محرمة في الإسلام، وفي كل دين لأنها عبارة عن الإباحة المطلقة للدماء والأموال والأعراض، وجعلها عين المزدكية والزردشتية، التي ظهرت في أمة الفرس. فرد عليه كثير من الكتاب الأزهريين وغير الأزهريين، من الجهة التاريخية والدينية وغير الدينة. وكثر خوض الجرائد المصرية في ذلك. ولكن الحكومة المصرية أخذت صورة فتواه الخطية بآلة التصوير الشمسي، ونقشتها في لوح معدني، وطبعت عنها نسخاً كثيرة، لم يوزع شيء منها بمصر، فالظاهر أنها توزع في بعض البلاد الإسلامية الآسيوية، التي سرت إليها البلشفية (…) إن الذي فهمنا من مجموع ما اطلعنا عليه في البلشفية أنها عين الاشتراكية، المقصود منها إزالة سلطان أرباب الأموال، الطامعين وأعوانهم من الحكام الناصرين لهم، الذين وضعوا قوانينهم المادية قواعد هضم حقوق العمال في بلادهم، واستعمار بلاد المستضعفين من غيرهم، وإن معناها الحرفي الأكثرية، فالمراد منها أن يكون الحكم الحقيقي في كل شعب للأكثرية…”([1]).
تحت تأثير محاربة الاستعمار لم يلتفت شيخ دين كبير بحجم محمد رشيد رضا إلى ما شاع عن كارل ماركس (ت 1883) مِن مقولة “الدِّين أفيون الشعوب”([2]). ويجعلنا هذا الانجذاب إلى البلشفية (مفردة روسية معناها الأكثرية، وصارت مرادفة للشيوعية) والاشتراكية في المنطقة نميل إلى أن الإسلام السياسي، ممثلاً بالإخوان المسلمين ظهر، في أحد أسباب ظهوره، كردة فعل على سطوة الاشتراكية القادمة مِن الشرق الأوروبي. ومِن ثم وصمت كل الأحزاب التي لا تتبنى الرأي أو الفكر الإخواني بأنها أحزاب علمانية([3]).
حوى كتاب “الإخوان المسلمون رؤية اشتراكية” مقدمة وافية، وفصلين: “النشأة والصعود”، و”من ناصر إلى مبارك”، وفصل خاص بالاستنتاجات.
يتضح مِن قراءة الكتاب أن مؤلفه ذو ميول اشتراكية، لكنه في كتابه وقف موقفاً ناقداً للباحثين الاشتراكيين في رؤيتهم للإخوان المسلمين، وتعرض في مقدمته إلى أبرز الاشتراكيين الذين تناولوا الإخوان، وهما: الاقتصادي المعروف سمير أمين، والسياسي المعروف رفعت السعيد. لخص الباحث رأي أمين بالنقاط الآتية، والتي يفسر فيها ظاهرة الإسلام السياسي تفسيراً ماركسياً، يعتقد سامح نجيب خاطئاً، ومن خلال موقفه الاقتصادي، في تصنيف العالم إلى إمبريالي واشتراكي([4]):
أولاً: إن الإسلام السياسي بمختلف قواه يستهدف الوصول إلى السلطة، ويستخدم الدين بشكل انتهازي لتحقيق أغراضه.
ثانياً: إنه مجرد أداة من أدوات الطبقة الرأسمالية.
ثالثاً: ما بين الجماعات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين والجماعات المسلحة مثل الجهاد ليس إلا تقسيم عمل بين استخدام العنف من جانب، والتسلل داخل مؤسسات الدولة من الجانب الآخر، والهدف في الحالتين هو الاستيلاء على السلطة.
رابعاً: إن المواجهة بين هذه الجماعات والأنظمة ليست إلا تنافس بين قطاعات مختلفة من الطبقة الحاكمة، وهو تنافس وصراع حول السلطة، سواء حدث ذلك بشكل مسلح كما في الجزائر أو بشكل سياسي كما في حال الإخوان المسلمين في مصر.
خامساً: لا يوجد أي تناقض بين الإسلام السياسي والعولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة، بل إن هناك تكاملاً بينهم.
وسادساً: إن الإسلام السياسي ليس معادياً للإمبريالية، بأي شكل من الأشكال، بل إنه أفضل من يخدم الإمبريالية، وإن الاستثناءات مثل حماس وحزب الله ليست سوى نتيجة طبيعية للجغرافيا السياسية التي تضع مثل هذه الحركات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي في خانة العداء للدور الأميركي في المنطقة.
حسب ما تقدم يخلص سامح نجيب إلى أن سمير أمين وضع الإخوان المسلمين في مواجهة اليسار ككل، وبالتالي لا هوادة ولا هدنة ولا تفاهم، على أي برنامج سياسي أو انتخابي أو تقارب في الرؤى الوطنية، خارج العقيدة والأيديولوجية، وعلى اليسار محاربتهم على طول الخط. وأول المؤيدين لهذه الرؤية هو الباحث والكاتب والناشط السياسي رفعت السعيد، فهو في قطيعة تامة مع الإخوان عندما يطلق عليهم اسم “المتأسلمين”، وهي إشارة إلى استخدامهم الدين لأغراض السلطة، وتشي التسمية على أنها وردت رداً على اسم “الإخوان المسلمون”.
ورؤية السعيد تُلخص بالنص المقتبس مِن كتاباته التي تعرض فيها للإخوان المسلمين منذ نشأتهم في العشرينيات من القرن الماضي. قال: “الماركسية إذ تؤكد إمكانية أن يلعب الدين دوراً في حركة التغيير الاجتماعي، أيْ: دوراً سياسياً، فإنها ترى أن ذلك رهن بمستوى محدد من التطور الاجتماعي ومن نمو الوعي الاجتماعي، وتحديداً فإن الدور يتناقص بل ويتلاشى مع نمو الوعي الطبقي الذي يُحَول الصراع بين جماعات تخضع للاستغلال والاضطهاد، فتتشبث بدين جديد يخالف ديانة الحكام وتتخذه محوراً لنضالها وخلاصها، وبين جماعات متميزة طبقياً تنتمي جميعاً إلى ذات الدين”([5]).
وأكثر مِن هذا، وحسب رؤية الماركسية للدين ومثله الاجتماعية، يعتبر السعيد الدين دخيلاً على الصراع والوعي الاجتماعي، قال: “أما استخدام الدين كأداة في الصراع الاجتماعي فإن الماركسية ترى أنه كان وارداً وممكناً بل وثورياً في المراحل الأولى للتطور الاجتماعي، وأنه مع نشوء الطبقات الاجتماعية وتبلورها ووقوفها وجهاً لوجه في معترك الصراع الطبقي، فإن إدخال الدين في هذا المعترك يمكنه أن يحرف الأفكار عن المعطيات الواقعية والأرضية لهذا الصراع، بل ويمكنه أن يجعل من المقولات الدينية شعاراً أو أداة يستخدمها الحكام وبعض رجال الدين في تغييب الوعي الاجتماعي والطبقي للجماهير، ومن ثم في فرض المزيد من الاستغلال والقهر عليهم”([6]).
إلا أن مؤلف الكتاب يعتبر رؤية السعيد هذه، ونسبتها للماركسية، في أن يكون الدين دخيلاً على الوعي والصراع الاجتماعي، ما هيَ إلا تشويه للماركسية نفسها. ويوضح خطأ السعيد بالآتي: “إذا كان من الصحيح أن الطبقات الحاكمة استخدمت الدين لتبرير وتوطيد حكمها، فمن الصحيح أيضاً أن الطبقات المقهورة استخدمت الدين في كثير من الأحيان للتعبير عن احتجاجها وعن طموحاتها للتغيير. فالدين قابل لتفسيرات مختلفة بل ومتناقضة، والتعبير الديني للاحتجاج ليس مقصوراً على تلك المراحل الأولى، فالقرن العشرون مليء بالحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة التي لجأت للدين كوسيلة للتعبير. في أمريكا اللاتينية ظهر لاهوت التحرير الذي مزج بين الاشتراكية وتفسير حديث للمسيحية وفي آسيا امتزجت حركات التحرر الوطني بتفسيرات للبوذية والهندوسية”([7]).
قدم الباحث التصورات أو الرؤى التي يعتقد أنها أخطأت بتفسير ظاهر الإسلام السياسي من جهة وأساءت للماركسية، في تلك التفسيرات أو التحليلات، من جهة أخرى، وقد كثف نقده لتلك الرؤى في مقدمة الكتاب، ثم يأتي في الفصلين التاليين والفصل الخاص بالاستنتاجات إلى ما يراه، هو، رؤيا ماركسية صحيحة مخالفة لما تقدم به الاقتصادي سمير أمين والسياسي رفعت السعيد. فسامح نجيب يرى: “أن التحليل المادي التاريخي يتطلب منا تجاوز الشعارات والرايات المرفوعة، والتدقيق في الجذور الاقتصادية والاجتماعية لمختلف الحركات السياسية. وإذا استعرنا مع بعض التحوير مقولة لكارل ماركس فعلينا البحث عن الرجل في المسلم وليس المسلم في الرجل”([8]).
ينطلق المؤلف في الفصل الأول: النشأة والصعود، ممهداً لرؤيته في وجود الإسلام السياسي ممثلاً بالإخوان المسلمين بمصر، من الكشف عن الصراع الطبقي والاقتصادي بمصر، قبل الإخوان المسلمين، وكيف أن التطور الرأسمالي قد تعرقل بمصر، وأن اقتصاد البلد بالأساس مبنيُّ على الزراعة، وتأتي زراعة القطن في المقدمة، وقد أثرت الأزمة البريطانية في صناعة النسيج على سعر القطن المصري، مما أدى إلى انهيار في هذا المجال. ولم يكن هذا وحده مؤثراً على حياة الفلاحين، إنما هناك أيضا الضرائب والديون التي أنهكت الفلاح المصري، وأثرت تأثيراً سلبياً على الإنتاج الاقتصادي. فكيف إذا جمعت تلك العناصر مع السيطرة الأجنبية على الاقتصاد!
كانت مصر، في تلك الأحوال، بحاجة إلى فعل سياسي يدير تلك الأزمة، فثورة 1919 تركت بصماتها في الوعي السياسي، وخلال ذلك تشكلت الطبقة العاملة بالمدن المصرية، ضمن العمل في المصانع، وفي مقابل ذلك تشكلت الرأسمالية المصرية، مع الهيمنة الأجنبية على الصناعة، وخلال ذلك ظهرت دعوات إلى العدالة الاجتماعية، بعد حدة التباين بين الفقراء والأغنياء. ولا يُطيل علينا المؤلف في سرده لتلك الأحداث، ليصل بنا إلى هدفه وهو نشأة الإخوان المسلمين، إذ استطاع الشيخ حسن البنا مِن محاولة إيحاء الفكر الديني كعلاج لتلك الأزمات، ومنها الأزمة الأخلاقية والثقافية التي أسفرت عن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وقد وصفه الباحث أنه ذو أُصول برجوازية صغيرة، ومعلوم ما يحدد بين درجات البرجوازيات هو الملكية الخاصة، فحسب المفهوم الماركسي أن أصحاب الملكيات الصغيرة، وحتى البقالين وذوي المهن والطبقة المتوسطة عموماً تعد بشكل مِن الأشكال مِن البرجوازية الصغيرة.
كذلك ربط البنّا بين تلك الأزمات، في مجالات الحياة، المختلفة، والهيمنة الفكرية والسياسية الغربية مما وضع دعوته تلك موضع جذب بين الطبقات الاجتماعية ما دون البرجوازية الكبيرة. ثم رُبط ذلك بحملات التبشير المسيحية، على أنها الوجه الآخر للسيطرة الغربية الأوروبية. بمعنى أن مؤلف الكتاب يرى أن نشأة الإخوان المسلمين ليست كما تَصورها سمير أمين أو رفعت السعيد بأنها دخيلة لاستخدامها الدين في الصراع، بل إنها نشأت مِن صلب المجتمع، وكأنها كانت ضرورة موضوعية وحاجة تعبر عن إشكالية في المجتمع المصري. وهذا هو جوهر خلافه مع المتقدمين، وبهذا فإنه عرض برؤية اشتراكية صحيحة لظاهرة الوجود الإخواني، وأنهم بهذا لا يتقاطعون على طول الخط مع الماركسيين، بل يمكن التلاقي والتعاون بين الطرفين على الرغم مِن الاختلاف في المعتقد والهدف.
قدم المؤلف سرداً وتحليلاً وافييْن لمختلف مراحل بناء تنظيم الإخوان المسلمين، ثم تطورهم مِن الفكرة الدينية، في إرهاصات التأسيس، ثم الانطلاق في رحاب السياسية، وانتشارهم السريع بين فئات المجتمع المصري المختلفة، مِن الطلبة والأطباء والمهندسين والمعلمين وضباط الجيش. ثم تأتي قضية فلسطين والاختلاف في حلها مع اليسار، الذي اتخذ من الموقف السوفيتي موقفاً صريحاً في هذه القضية، وهو حل الدولتين: دولة فلسطينية وأخرى يهودية، مع أن الأحداث الحالية أكدت صحة ذلك الحل.
ونرى أن الإخوان المسلمين بمصر وفروعها في بقية البلدان قد حولوا تلك القضية إلى قضيتهم المركزية، وباسمها تشكلت الجمعيات الخيرية والسياسية، وبواسطتها التف حولهم الشباب، وكانت رايتهم الأولى هي النضال من أجل استعادة فلسطين، لكن من دون أن يحسب حساب استخدامها كوسيلة، في العديد من الأحايين، لغاية توسيع التنظيم، ودعم جهادهم ضد الحكومات الرسمية، ومن بعد الوصول إلى السلطة.
أما الفصل الثاني “من ناصر إلى مبارك” ففيه سرد المؤلف محطات الهبوط والصعود التي تعرض لها الإخوان، مروراً بفترة السادات، عندما استخدم الإخوان رسمياً لمواجهة اليسار المصري والناصرية بشكل عام.
أخيراً يطرح المؤلف زبدة رأيه في وجود الظاهرة الإخوانية، بعد أن ينتقد موقف الباحثين الماركسيين وسطحية تفسيرهم للظاهرة. إذ يقول: “لقد ارتكب اليسار المصري أخطاءً فادحة في تحليله وتعامله مع جماعة الإخوان المسلمين. فقد اتخذ موقفاً يعتبرها حركة رجعية ظلامية تعادي الحداثة والديمقراطية. ووفق هذا التحليل فهي حركة معادية للجماهير وتخدم بشكل مباشر وكامل مصالح أكثر قطاعات البرجوازية رجعية ويمينية. وكان الاستنتاج العملي لهذا التحليل هو ضرورة محاربة هذه الحركة، ومنع وصولها للسلطة حتى وإن كان ذلك بالتحالف مع السلطة البرجوازية في مواجهتها. وقد حاولنا في هذا الكراس الصغير أن نقدم قراءة بديلة تظهر الطبيعة المعقدة والمتناقضة والمتغيرة لحركة الإخوان في سياق تطورها التاريخي وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية”([9]).
وينتهي إلى القول: “لقد أفقدتنا أخطاء اليسار الإستراتيجية الفادحة الكثير من الوقت والكثير من الجذور الجماهيرية. وقد ساعدت هذه الأخطاء على خلق الفراغ السياسي الذي مكن الإخوان من توسيع نفوذهم وفرض أنفسهم بصفتهم قوة المعارضة الأساسية في مصر. لكن هذا الوضع قابل للتغيير سريعاً إذا ما تمكن اليسار المناضل من بلورة الاستراتيجيات والتكتيكات الصحيحة. فالتصاعد القادم في الصراع الطبقي سيخلق مساحات جديدة لزرع جذور قوية لليسار تمكنه من النمو وتوسيع نفوذه. إلا أن اليسار لن يتمكن من تحقيق شيء طالما ظل حبيساً لمواقف خاطئة لم يجْنِ منها سوى العزلة والتهميش”([10]).
كان الكتاب، على الرغم مِن قلة عدد صفحاته البالغة (130 صفحة)، جديداً في موضوعه، وقدم وجهة نظر مغايرة تماماً للنظرة التقليدية اليسارية أو الاشتراكية تجاه الإسلام السياسي، وبطبيعة الحال إذا لم تفسر الظاهرة تفسيراً صحيحاً يصعب التعامل معها، وما لاحظناه من الموقف اليساري بمجمله هو حصر جماعات الإسلام السياسي بخانة العمالة، مع أن الماركسية أول ما تفسر الظواهر بظروفها الموضوعية والذاتية، فالأزمات السياسية والاجتماعية في بلد مثل مصر عُرف بتدينه، أو الحضور الديني الإسلامي فيه، لا يفوت المحلل أو الباحث في ظاهرة الإخوان المسلمين مِن تجاوز ظروف البلد وإسهامها في نشأة تلك الجماعة. إن الرؤية اليسارية، التي انتقدها مؤلف الكتاب سامح نجيب، تجاه الإسلام السياسي أجدها متماهية مع وجهة نظر عدد مِن الباحثين والناشطين الإسلاميين تجاه الأحزاب اليسارية، بأنها محصورة في مقولة “الدين أفيون الشعوب”، وعلمانيتها، وأنها مرادفة للإلحاد، وما هي إلا صناعة روسية، مثلما اعتبر اليساريون الإخوان وبقية الجماعات ما هم إلا صناعة غربية أميركية.
[1]() – مجلة المنار، المجلد 12، المؤرخ في: 26 أغسطس (آب) 1919.
[2]()- حسب الترجمة عن الإنكليزية أن أصل العبارة غير مقطوعة من سياقها: أن “الدين تنهيدة المضطهد. هو قلب عالم لا قلب له. مثلما هو روح وضع شروط بلا روح، إنه أفيون الشعوب” (ضياء حميو، حقيقة كلمات ماركس الثلاث (الدين أفيون الشُّعوب)، على الموقع: http://www.al-nnas.com/ARTICLE/DhHamio/16reg.htm عن كتاب: ماركس، نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية 1944).
[3]()– لا صلة للعلمانية بمفردة العلم، الذي قد يتناقض أو يتنافى في العديد مِن أطروحاته واكتشافاته واختراعاته مع الدِّين، لكنها عَلمانية (بفتح العين) تعني إدارة الدنيا، ذلك إذا علمنا أن الدنيا في اللغات الشرقية: الآرامية والسريانية تعني “عَلما” (رشيد الخيون: رسالة في العلمانية والخلافة، دار مدارك، 2011).
[4]( )– نجيب، الإخوان المسلمين رؤية اشتراكية، ص5-6.
[5]( )- المصدر نفسه، ص8 عن رفعت السعيد.
[6]( )- المصدر نفسه، ص9 عن رفعت السعيد.
[7]( )- المصدر نفسه، ص10.
[8]( )- المصدر نفسه، ص15.
[9]( )- المصدر نفسه، ص115.
[10]( )- المصدر نفسه، ص120.