بعد انتشار فيروس “كوفيد- 19″، تنامت تحليلات سارعت لاعتبار الفيروس أبرز أفضلية الأنظمة القابضة على الأنظمة الديمقراطية، وتصاعدت التوقعات بتراجع فعالية الأخيرة. يُلقي هذا التقرير الضوء على طرح المفكر السياسي والاقتصادي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، الذي يعتبر أنّ فعالية الأداء في أزمة انتشار الوباء لا تتعلق بنوع النظم، وبدلا من ذلك، تتعلق بالحوكمة والإدارة العامة الفعّالة.
بالعودة إلى أطروحات فوكوياما فيما يخص الحوكمة؛ يعتقد المفكر بوجود غموض كبير فيما يتعلق بالمعنى الدقيق للمصطلح. يتساءل: هل يشير “الخير” في الحكم الرشيد إلى الغايات التي يفترض أن تخدمها الحكومة، أم إنّها تقتصر على التنفيذ الفعّال لأي غرض يهدف لتحقيقه النظام السياسي؟ وعلى وجه الخصوص، هل يشمل الحكم الرشيد المساءلة الديمقراطية وحماية الحريات الفردية؟ أم هل من الممكن أن يكون هناك حكم جيد في بلد شمولي؟ يشير فوكوياما (2014) إلى أن الدول الشمولية يمكنها تحقيق مستوى من الحكم الرشيد يكفي لتحقيق نتائج إنمائية إيجابية، إذا كان معنى الحكم مقصورًا على الإدارة العامة الفعّالة فقط[1]. وبهذا يرى أنّ الخط الرئيس الفاصل في الاستجابة الفعّالة للأزمة لن يضع الأنظمة الاستبدادية في جهة والديمقراطيات في الجهة الأخرى. وبدلا من ذلك، سيكون هناك بعض الأنظمة الاستبدادية عالية الأداء، وبعضها مع نتائج كارثية. وسيكون هناك تباين مماثل، وإن كان من المحتمل أن يكون أصغر في النتائج بين الديمقراطيات[2].
كانت ديمقراطيات مثل كوريا الجنوبية وألمانيا ناجحة نسبيًا حتى الوقت الحاضر، في التعامل مع الأزمة. حتى لو كان أداء الولايات المتحدة الأمريكية أقل نجاحًا. ويشدد على أهمية توافر عاملين في النظم المختلفة، وهما: ثقة المواطنين في الحكومة، ووجود حكومة كفؤة وفعّالة.
يبرز هذا التقرير وجهة نظر فوكوياما حول ماهية الإدارة العامة الفعّالة سابقًا وحاليًا.
الإدارة العامة فن أم علم؟
نظّر فوكوياما في هذا المجال، ورأى بدايةً أنّ الإدارة العامة هي فن أكثر منها علماً، في مقاله المنشور عام 2004 بعنوان “لماذا لا يوجد علم للإدارة العامة؟
Why there is no science of public administration?[3]. سعى فوكوياما في مقاله إلى الإجابة عن سؤال: هل تعتبر الإدارة العامة علماً أو فناً؟ ويعد هذا السؤال مركزياً في أطروحته حول آليات إدارة الدولة وتسيير شؤونها.
يقول فوكوياما في المقال: “إذا سلَّمنا بالإدارة العامة بوصفها عِلماً، فإن ذلك يعني أن الدولة ستكون على دراية بكيفية إدارة المنشآت، ولكن هذا ليس دليلاً على نجاح إدارة الدولة. وعليه، فالعلم وحده لا يمكنه أن يعطينا صورة حقيقة للإدارة العامة للمؤسسات المجتمعية أو الفردية، إلا في حال تحولت الإدارة العامة لفن إدارة أكثر منها علماً، لتتكيف مؤسسات الدولة مع المتغيرات وتتمكن من مواجهة المشكلات وتقديم حلول ناجحة وغير تقليدية”.
لذا يطرح فوكوياما الإدارة العامة بوصفها فناً أكثر منها علماً، وبناء على هذا الطرح، يفترض غياب صيغة إدارة عامة مُثلى في إدارة مؤسسات القطاع العام. والافتقار إلى وجود قواعد ثابتة وصالحة عالميًا لعمليتي التصميم والتنظيم.
الاقتصاد المؤسسي والنظرية التنظيمية
ألقى فوكوياما الضوء على الاقتصاد المؤسسي والنظرية التنظيمية، التي يعتقد أنّها غنيّة بالمفاهيم والتعقيدات، إلا أنّ جزءاً كبيراً من النظرية يحاول إيجاد حل لمشكلة مركزية واحدة هي “تفويض السلطة”؛ فالنظرية التنظيمية تفترض أنّ الكفاءة الاقتصادية مرتبطة بصلاحية ممارسة السلطة المفوضة من صانعي القرار. لكن ممارسة السلطة دائمًا يلازمها مشكلتا: السيطرة والإشراف.
وقد شكلت مسألة تفويض السلطة، وصلاحية استخدامها، ومجموعة الإشكاليات الناتجة عنها، ركيزة أساسية لطرح فوكوياما حول ضرورة اتباع الهيكلية اللامركزية في الإدارة العامة.
يتوسع فوكوياما للتدليل في الحديث عن فصل الإدارة والملكية الخاصة في الشركات على سبيل المثال، وما ينتج عن هذا من مشكلات في الإدارة. ففي أغلب الأحيان يعيّن المالك مديراً أو وكيلاً ينوب عنه لإدارة أعماله، لكن أغلب المعينين هؤلاء لديهم حوافز فردية تختلف عن مصالح المالك بشكلٍ كلي، مما يجعل تكاليف المالك تزيد عبر دفعه مصروفات أكثر تعرف بـ”تكاليف الوكالة”، وهي تكاليف مراقبة لضمان تنفيذ أوامر المالك ومتابعة سلوك المدير أو الوكيل المعين، ومدى انضباطه وارتباطه بالشركة، وهذه إشكالية كامنة في كل المؤسسات التراتبية، وتوجد على مستويات مختلفة، وبشكلٍ متزامن.
شكّل ما سبق شرحاً لنظرية الرئيس-الوكيل في الشركات ذات الملكية الخاصة، وعليه، يمكن تعديل إطار النظرية لفهم نهج الإدارة في القطاع العام. ففي القطاع الخاص، يعتبر حملة الأسهم ملاكاً للشركة أو مدراء لها، ويعتبر مجلس الإدارة وكيلاً عنهم، في حين يعتبر أعضاء الفئة الإدارية العليا من الموظفين وكلاء مجلس الإدارة في الشركة. بينما في القطاع العام، الشعب هو المالك، والمشرعون (البرلمانات/ الرؤساء) في الأنظمة الديمقراطية هم وكلاء عن الشعب، لتوزيع المهام والأدوار على الموظفين الحكوميين. ويحدث الفساد حين يصبح الأفراد (الموظفون الحكوميون) باحثين عن مصالحهم المادية، وبطرق مخالفة للقانون، لكن في الوقت نفسه يحتفظ هؤلاء الوكلاء الفاسدون بمناصبهم عن طريق الرشاوى أو الخدمات التي يقدمونها لمن في السلطة.
نظرية المالك- الوكيل جديرة -بلا شك- بالدراسة لمحاولة فهم أسباب خسائر الشركات، والفساد العام بالدولة، لكن وفقًا لفوكوياما، توجد أسباب عدة تجعل هناك استحالة لتطبيق هذه النظرية على المؤسسات الرسمية ذات المواصفات المنهجية، والقواعد والأصول الثابتة، وبالتالي استحالة وجود صيغة تنظيمية مؤسساتية مثلى، خصوصًا فيما يتعلق بالقطاع العام.
أبرز أسباب فوكوياما لاستحالة تطبيق نظرية إدارة عامة وفق نمط الوكيل– المالك خصوصًا على القطاع العام:
- أهداف هذه المؤسسات غير واضحة؛ فالملاك أنفسهم لا يعرفون ما يريدونه حقًا من الوكلاء، وعليه يصبح التفاعل بين الوكلاء وموظفيهم قائماً على شبكة من مصالح شخصية، ونادرًا ما يمكن أن يجتمع كل من في المؤسسة لصالح الأخيرة.
- ارتفاع تكاليف المراقبة والمتابعة، إلى جانب عائق آخر هو طبيعة عملية المراقبة والمتابعة. هل هي مراقبة ذات معايير غير رسمية؟ أم مراقبة ذات معايير محددة؟ بالإضافة إلى صعوبة المتابعة في حال عدم معرفة طبيعة النشاط الممارس داخل المؤسسة ومدى دقته المطلوبة.
- درجة تفويض السلطة؛ ترتبط صلاحية استخدام السلطة بدرجة الخطورة التي تتعرض لها المؤسسة، وفي أحيان كثيرة يصعب تحديد درجة الخطورة ومستوى تفويض السلطة مما يجعل صلاحية السلطة هنا إما عديمة للقيمة أو مدمرة للمؤسسة.
إيجابية اللامركزية في اتخاذ القرارات
تحدث فوكوياما عما أسماه “انعدام التحديد”؛ ومفاد هذه الفكرة أنّ تفويض السلطة وصلاحيتها هي أحد أهم المعوقات أمام نظريات الإدارة العامة، وأنّ كل ما هو متاح من قواعد قياسية وتجريبية لمعرفة قدر السلطة المطلوب لا يرقى لكي يكون نظرية في حد ذاته. لهذا يتم الاستعاضة عن قياس السلطة بقياس مقدار اللامركزية المطلوبة لإدارة مؤسسة ما. وهذا الأسلوب في السياسة يسمى بـ”مبدأ التبعية”؛ أي إنّ القرارات الواجب اتخاذها على مستويات حكومية عدة لا يجب أن تزيد عن الحد الضروري لأداء وظيفة معينة.
يشير فوكوياما إلى تشابه هذا النمط المؤسساتي مع الفيدرالية في الحقل السياسي. منذ الثمانينيات، شهد المجتمع الأمريكي تطوّراً سياسياً هائلاً من الداخل تجاه لامركزية السلطة السياسية لمصلحة حكومات الولايات، وترافق هذا مع صعود اللامركزية في المؤسسات الاقتصادية لتلائم المتغيرات، ولرفع المنافسة بين الوحدات الإنتاجية التي انبثقت جراء اللامركزية. تعني اللامركزية اقتصاديا والفيدرالية سياسيًا وفقًا له، مزيداً من الخدمات للجمهور، ومزيداً من المحاسبة، ومزيداً من الشرعية، وتعزيز المناخ الديمقراطي.
وبالرغم من رؤيته الإيجابية لللامركزية، يشير فوكوياما إلى أن هناك عيوباً ترافق هذا النمط من تسطيح المؤسسات، فغالب ما تعاني من تكاليف معاملات داخلية مرتفعة لم تتمكن بعد من أن تحلها التقنية، وقد يؤدي التضارب بين القطاعات لبطء في الإنتاجية أكثر من المؤسسات المركزية كما تقوّض اللامركزية السلطة، وترفع من مخاطر عدم استقرار النظام.
قدم فوكوياما اللامركزية من وجهة نظر سياسية ليجعلها مرادفاً للديمقراطية وقيمة إيجابية في حد ذاتها. تعمل على نطاق واسع من المشاركة الشعبية في السلطة، على عكس المركزية التي هي سلطوية عصر الحداثة التي ترافقت مع ثورات فرنسا، وروسيا، والصين.
لماذا اعتقد فوكوياما بغياب إمكانية تطبيق النظرية في الإدارة العامة؟
يعتبر فوكوياما أن المشكلات الثلاث المعروضة أعلاه من غموض الأهداف، وعدم التحديد، ومقدار تفويض السلطة ناتجة عن محدودية وقصور العقلانية في وضع الأهداف المؤسساتية. وفي استسهال الركون إلى نظرية المالك- الوكيل، وبالرغم من تحديد مواطن الخلل، فإنّ إشكالية غياب النظرية القادرة على صنع أفضل بديل للإدارة لا تزال حاضرة.
ويعزو فوكوياما غياب نظرية في الإدارة العامة لأسباب عدة، منها أن اللاعبين المؤسساتيين، ومجموعة أخرى أطلق عليها المتحولات والعوامل المستقلة واصلوا استغراقهم في عمل تسويات مستمرة للوضع القائم، عوضًا عن التفكير في حلول مثلى للمشاكل المؤسساتية. كما أنّ المجال المؤسساتي مشبع بالأعراف والسلوكيات غير العقلانية، كما أنّ الطبيعة البشرية ترضى بعمل المقبول وليس بعمل الأمثل؛ مما يجعل الجميع في حالة تكاسل عن صنع إطار منهجي لرفع كفاءة المؤسسات، ليكتفي الجميع بالحصول على مكاسب مادية شخصية ضيقة.
كيف طوّر فوكوياما طرحه في مجال الإدارة العامة؟
انتقل فوكوياما من اعتقاده السابق أنّ الإدارة عامة فن أكثر منه علماً، إلى مناقشة وجود إشكالية على المستوى النظري تتصل بحقل الإدارة العامة.
يعتقد فوكوياما أن نقص التدريب أو التحضير المناسب هو القاعدة بين صانعي السياسة الأمريكيين في الوقت الحاضر. لذا أصدر فرانسيس فوكوياما وعلماء آخرون بيانًا[4] حول التعليم لحل المشكلات العامة، نشر عام 2019، يسلط الضوء على الحالة الكئيبة في “نظام تعليم وتدريب الأفراد في أمريكا لحل المشاكل العامة”.
ينص البيان على أنه: “في الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات الموحدة، فإن نظام تعليم وتدريب الأفراد على معالجة المشكلات العامة غير كافٍ بشكل جذري. في كثير من الأحيان، لا يوجد مثل هذا التعليم والتدريب، وخاصة للمهنيين”. وينص في موقع آخر من البيان على أنه: “في الولايات المتحدة، خلال الستينيات والسبعينيات، تمّ تصميم مدارس جديدة في السياسة العامة، وتمّ اعتماد نموذج على نطاق واسع استنادًا إلى أساليب العلوم الاجتماعية التي يهيمن عليها الاقتصاد والإحصاءات ونظرية اللعبة. يعد هذا النوع من تحليل السياسات القائم على الأدلة، أمرًا بالغ الأهمية لصنع السياسات الحديثة، خاصة في عصر يزدري فيه السياسيون البارزون الحقائق ويعتمدون على الحكايات لإثبات قضيتهم”[5].
يظهر ذلك موقف فوكوياما المؤيد لتعزيز تعليم الإدارة العامة وبالاستناد إلى أسس علمية، لصنع السياسات الحديثة.
أزمة في تعليم الإدارة العامة
في مقاله المنشور في “ذي أتلانتك” عام 2018 بعنوان “تراجع الإدارة العامة الأمريكية”[6] The Decline of American public administration أشار فوكوياما إلى ما أسماه أزمة في تعليم الإدارة العامة، يقول: “إذا كنت تريد فكرة عن الإشكالية، فما عليك سوى محاولة نطق عبارة (الإدارة العامة) قبل أن تجلس في غرفة التدريس مع الطلاب ومشاهدتهم ينظرون إلى هواتفهم أو يبدؤون في النوم”. ويضيف: “إن المجال الكلاسيكي للإدارة العامة هو أحد المجالات في وقتنا الحاضر، وانحداره -على الأقل في الولايات المتحدة- هو أحد الأسباب التي تجعلنا نحصل على خدمات سيئة من الحكومة”.
أشاد فوكوياما بجهود الرئيس الأمريكي السابق وودرو ويلسون (1856- 1924)، الذي يعد الأب المؤسس لمجال الإدارة العامة، الذي جادل مقاله الذي نشر عام 1997 بعنوان “تعليم الإدارة” بأن “هدف تعليم الإدارة هو اكتشاف، أولا: ما يمكن للحكومة أن تفعله بشكل صحيح وناجح، وثانيًا: كيف يمكنها القيام بالمهام بأقصى قدر ممكن من الكفاءة وأقل جهد وتكلفة مادية”. ميّز ويلسون بين السياسة والإدارة العامة، واعتبر أن الأخيرة تعبر عن التنفيذ الفعلي للسياسات التي حددتها السلطات السياسية في الدولة. ووفقًا لويلسون، كانت الإدارة العامة مجالا بالغ الأهمية، ومع ذلك لم يتم الإقرار بذلك في الولايات المتحدة.
برزت الولايات المتحدة بشكلٍ كبير خلال الحقبة التقدمية والحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى تنامي الشعور الملح في الحاجة إلى تحسين القدرات البشرية للحكومة. وتميّز المسؤولون الأمريكيون في تنفيذ سياسات الحكومة الأمريكية خلال الصفقة الجديدة New Deal وتنفيذ خطط الحكومة والسياسة الخارجية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبحلول منتصف القرن العشرين، وصل حقل الإدارة العامة إلى ذروته باعتباره واحداً من التخصصات الفرعية الرئيسة الأربعة المعترف بها من قبل جمعية العلوم السياسية الأمريكية.
يشير فوكوياما إلى بدء تراجع هيبة الإدارة العامة بوصفها حقلاً علمياً منذ السبعينيات والثمانينيات نتيجة للتغيرات الأوسع في العلوم الاجتماعية، ولا سيما مع صعود الاقتصاد كملك لهذه العلوم. تحركت العلوم الاجتماعية بشكل عام نحو الدراسات التجريبية التي يمكن أن تثبت العلاقات السببية فيما يتعلق بالسلوك البشري بطرق صارمة إحصائيًا. وعلى العكس من ذلك، ظلّ التدريب على الإدارة العامة يركز على إكساب المسؤولين العموميين في المستقبل مهارات عملية، مثل القانون أو الطب، والتي من شأنها أن تساعدهم على القيام بعملهم كبيروقراطيين؛ عبر فوكوياما عن هذه النتيجة بالقول: “وجد مجال السياسة العامة من الإدارة العامة، الذي ركز على تحليل السياسات، وهو طفل نشأ ليطغى على والديه بالكامل”.
وكما أورد في مقاله، شهدت التسعينيات انتعاش الاهتمام بالإدارة العامة تحت عنوان (الحكم الرشيد أو مكافحة الفساد)، إذ أدرك الأفراد أنّ الأسواق الحرة ليست حلاً لجميع المشاكل، وأنّ الدول الفعّالة مهمة. حصلت مجموعة كبيرة من الإصلاحات المبتكرة والإبداعية التي صممها -في الغالب- الاقتصاديون، لجعل القطاع العام أكثر كفاءة من خلال تقليد القطاع الخاص. وشملت إدخال المنافسة في القطاع العام، وقياس ومقارنة أفضل للأداء لتحفيز الموظفين العموميين، أو إسناد المهام الحكومية للقطاع الخاص أو للقطاعين العام والخاص والشراكات، والإدارة العامة الجديدة، التي سعت إلى معاملة المسؤولين العامين مثل المسؤولين التنفيذيين في القطاع الخاص من خلال وضع معايير أداء واضحة في عقود عملهم.
تمّ تنفيذ إصلاحات الإدارة العامة بقوة في دول الكومنولث مثل بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا. حاولت الولايات المتحدة تقديم نسختها الخاصة مع مبادرة آل غور Al Gore (1948- الآن) لإعادة اختراع الحكومة خلال رئاسة كلينتون (1993- 2001). تمتعت هذه الأساليب الجديدة بالنجاح في مدن مثل نيويورك، حيث وضع بيل براتون خلال فترة ولايته الأولى كمفوض شرطة نظامًا صارمًا لمراقبة أداء المسؤولين في المنطقة ومحاسبتهم، لكن النتائج في أماكن أخرى كانت مختلطة.
وخلص فوكوياما إلى غياب نهج سائد لإصلاح القطاع العام بجهود علماء إدارة منذ ذروة نظرية الوكيل- الرئيس، التي كانت مدفوعة -إلى حد كبير- من قبل العلماء خارج الإدارة العامة التقليدية. فضلا عن اختفاء برامج الإدارة العامة أو أنه تمّ دمجها في برامج السياسة العامة، مع زيادة التركيز على تحليل السياسات بدلاً من بناء المهارات العملية، فضلا عن غياب مسار واضح لوظائف الإدارة العامة في الحكومة الاتحادية.
الافتقار للثقة وإشكالية إصلاح فعالية الإدارة العامة
إنّ العامل الأكبر في الولايات المتحدة الذي يحول دون الإصلاح الجاد للإدارة العامة، هو الثقافة السياسية المعادية للدولة في الدولة، وما اعتبره فوكوياما عدم ثقة الأمريكيين بالحكومة. ويعزو ذلك إلى اعتبار أولئك الحكومة تهديدًا لحرياتهم أكثر من كونهم منفذين لرغباتهم، مشيرًا إلى أنّ الأمريكيين يفشلون باستمرار في تزويد الحكومة بالموارد أو السلطات الكافية للقيام بعملها بشكل صحيح. هذا يتناقض بشكل حاد مع الديمقراطيات الليبرالية الغنية الأخرى في أوروبا وآسيا، حيث تحظى الدولة بثقة أكبر بكثير كحامية للمصلحة العامة مما هي عليه في الولايات المتحدة. على الرغم من أن عدم الثقة في الحكومة واضح بشكل خاص اليوم على اليمين، فإنه شيء يشترك فيه التقدميون أيضًا.
اعتبر فوكوياما الحكومة الأمريكية محرومة من الموارد والسلطة، الأمر الذي يقوض قدرتها على القيام بمهامها بشكلٍ صحيح؛ مما يؤدي إلى نتائج سيئة.
مركزية في اتخاذ القرارات
وذهب لتوضيح[7] أنّ من المفاهيم الخاطئة الشائعة أن الديمقراطيات الليبرالية لديها بالضرورة حكومات ضعيفة لأنها يجب أن تحترم الاختيار الشعبي والإجراءات القانونية. لقد طوّرت جميع الحكومات الحديثة فرعًا تنفيذيًا قويًا، لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يعيش بدون هذا الفرع. إنّهم بحاجة إلى دولةٍ قويةٍ وفعّالة وحديثةٍ، يمكنها تركيز السلطة ونشرها عند الضرورة، لحماية المجتمع والحفاظ على النظام العام، وتقديم الخدمات العامة الأساسية. ما يميز الديمقراطية الليبرالية عن النظام الاستبدادي هو أنّها توازن بين سلطة الدولة ومؤسسات التقييد- أي حكم القانون والمساءلة الديمقراطية.
يعتقد فوكوياما بحاجة كل الأنظمة السياسية إلى تفويض السلطة التقديرية للسلطات التنفيذية في أوقات الأزمات. يقول في هذا الصدد: “تحدد قدرة الأشخاص في القمة وأحكامهم، ما إذا كانت النتائج جيدة أم سيئة. وفي صنع هذا التفويض للسلطة إلى الجهات التنفيذية، فإن الثقة هي السلعة الوحيدة الأكثر أهمية التي ستحدد مصير المجتمع. سواء في ديمقراطية أو في ديكتاتورية، على المواطنين أن يعتقدوا أن السلطة التنفيذية تعرف ما تفعله، والثقة للأسف، هي بالضبط ما تفتقده أمريكا اليوم.
الخلاصة
خلص فوكوياما إلى أنّ ما يميز أداء الدول عن بعضها قدرة كل منها على ممارسة إدارة عامة فعالة. وبالعودة إلى أطروحاته في هذا الصدد، نجد أنه افترض بدايةً غياب القدرة على صياغة إدارة عامة مُثلى في إدارة مؤسسات القطاع العام. وأكد عدم وجود أسس ثابتة لعمليات التصميم والتنظيم للإدارة العامة؛ لاعتباره أنها تشكل فناً أكثر منها علماً.
يمكن الحديث عن إشكاليتين أثارهما فوكوياما أخيرًا تتعلقان بالإدارة العامة، تتعلق الإشكالية الأولى بالمستوى النظري في حقل الإدارة العامة، والثانية بالممارسة العملية.
بعد أن اعتقد فوكوياما أن الإدارة العامة فن أكثر منها علماً، ينتقد في الوقت الحاضر، عدم الاهتمام الحكومي بمجال الإدارة العامة، مشيرًا إلى وجود أزمة في تعليم التخصص، معتقدًا أنّ العديد من المواقف والسياسات أفقدت الأمريكيين الثقة بالسياسيين والمسؤولين العموميين، وأن غياب ثقة الأمريكيين في هذه الجهات، أدت إلى نشوء أزمة ثقة، يعتقد أنّها أفقدت الحكومة القدرة والسلطة اللازمة للتصرف في المواقف المختلفة مثل أزمة انتشار فيروس “كوفيد- 19” في الوقت الراهن.
بالرغم من أهمية طرح فوكوياما، وخصوصًا فيما يتعلق بأهمية الحوكمة الفعالة والإدارة العامة في إدارة الأزمات والطوارئ وتحسين الخدمات الحكومية في كل الدول، وخصوصًا في مثل هذه الفترات من التاريخ مع انتشار وباء فيروس “كوفيد- 19″، فإنّ المفكر المثير للجدل، الذي اشتهر منذ أن نشر كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الذي لقي رواجًا واسعًا، فضلا عن تقاربه المرحلي في وقت لاحق مع المحافظين الجدد، يبدو أنه يستكمل رغبته في الانتقال من عالم النظريات إلى التأثير السياسي، لكن هذه المرة في بلاده.
[1]– Francis Fukuyama, “Governance: What we know, and how do we know, “Annual Reviews, 2016, https://www.annualreviews.org/doi/full/10.1146/annurev-polisci-042214-044240
[2]– Francis Fukuyama, “The Thing that determines a country’s resistance to the Coronavirus,” The Atlantic, 30 March 2020, https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2020/03/thing-determines-how-well-countries-respond-coronavirus/609025/
[3]– Francis Fukuyama, “Why there is no science of public administration,” 2004, http://www.andrewbgraham.ca/uploads/1/2/5/1/12517834/fukuyama_-_is_public_admin_a_science_or_art.pdf
[4]– “Statement on education for public problem solving,” https://fsi.stanford.edu/publicproblemsolving/docs/statement-education-public-problem-solving
[5]– Ibid.
[6]– Francis Fukuyama, “The Decline of American public administration,” The Atlantic, 13 August 2018, https://www.the-american-interest.com/2018/08/13/the-decline-of-american-public-administration/
[7]– Francis Fukuyama, “The Thing that determines a country’s resistance to the Coronavirus,” The Atlantic, 30 March 2020, https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2020/03/thing-determines-how-well-countries-respond-coronavirus/609025/