تقديم
يدرس مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «التعصب الحركي واختطاف المجتمعات: النازيون والفاشيون والإخوان» (الكتاب السادس والسبعون بعد المئة، أغسطس (آب) 2021) نماذج من الجماعات والتنظيمات السياسية والحركية المتشددة، التي تسيطر بخطابها على فئات اجتماعية عريضة، وتسمم السّلم المجتمعي، باستخدام محفزات للتشدد؛ تفضي إلى إبادة الآخر، فاهتم الكتاب بدراسة المقارنات من جهة، وباستخلاص دروس تاريخية وراهنة لعلاج الحركات المتعصبة، من النازية والفاشية والإخوان وحركات اليمين المتطرفة في ألمانيا والولايات المتحدة.
في مفتتح الكتاب؛ تقدمة بقلم المؤرّخ العراقي وعضو هيئة التحرير، رشيد الخيُّون، الذي اقترح إعادة نشر مقال المؤرخ العراقي جواد علي (1907-1987)، المنشور عام 1939 في مجلة الرسالة، وفيه لاحظ النسخة النازية من المسيحية؛ التي رفعتها رايةً ضد الأحزاب المعارضة، متهمةً إياها بالتهاون، ورمتها بنشر نسخة غير أصيلة من المسيحية؛ بينما زعم النازيون احتكار الحقيقة الدينية عبر «الحزب الوطني الاشتراكي» حامي المسيحية! يشير جواد علي إلى أن النازية فرضت ما أسمته «ضريبة الكنيسة» على «كل ألماني وألمانية حضر صلاة الكنيسة أم لم يحضر» وأخضعت المجتمع والدين لأيديولوجيتها المتطرفة؛ التي قلبت الفكر والمفاهيم. لاحظ الخيُّون أنّ عقيدة النازي الدينية ليست بعيدة عن عقيدة الإسلام السياسي ووصوله إلى السلطة، ويرى أنّ وصولهما إلى السلطة أدى إلى نفور المؤمنين من الدين، «حتى أخذت نسبة الإلحاد بالتصاعد»، فـ«الإسلامويون يؤسسون لدين آخر، مثلما حاولت النازية تأسيس مسيحية أخرى غير التي يتعبد بها العالم المسيحي»!
هذه المقارنة الأولى بين التيارات الإسلاموية والنازية، طورتها الدراسة الثانية، التي ركّزت مباشرةً على دراسة تأثير النازية على تنظيم الإخوان المسلمين، منطلقة من الجوهر المشترك للأيديولوجيات الشمولية، وإلى إشادات حسن البنا بخطاب الفاشية عام 1935، والانبهار المتبادل، في كتابات الحركتين. ثم أشارت إلى مقاربة استخدام سلّم الديمقراطية ثم تحطيمه، فقد انتهت الحركتان إلى تعطيل التداول السلمي للسلطة عند فوزهما بالانتخابات، سواء في زمن الرايخ الألماني (1933-1945)، أو عند وصول الإخوان إلى الحكم في مصر في العام 2012 وقبلهم في السودان (1989-2019)، وغزة، وغيرها. وتنبهت الدراسة إلى تكييف العنف ضمن طيف واسع من الخيارات البراغماتية، التي تغطي النوايا، مما يجعل قراءة هذه الحركات صعبة لرواد المدرسة الواقعية.
انطلقت دراسة ثالثة من بحث المقارنة بين الفاشية والإخوان، داخل المسار العلمي؛ فإذا قُرنت الحركتان في المجال العربي بدواعي العلاقة الوثيقة بينهما، فإنّها في المجال الأوروبي تأخرت قبل أن تدرسها في إطار المنهج المقارن، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن الحركتين ما هما إلا اتجاهان فكريان مترابطان منطقياً، يشتركان في صفة الشمولية، ويتقاسمان الخصومة من الشيوعية والليبرالية والسامية. وبحثت الدراسة في التقاطعات بينهما، فالحركتان توليان قيمة للعنف والموت ومعاداة الحداثة، ولهما هوس بالإذلال والانتقام، ويصل الكاتب في تعداده للاتجاهات، إلى نتيجة مفادها أن الفاشية الدينية هي الأقرب أيديولوجياً للإسلاموية، فكلاهما يبني مقولات على التفوّق على الآخر ويضع منتسبيه في طليعة مخلصي العالم!
تبني الحركات المتعصبة عقيدة التفوّق القادحة في النظام الاجتماعي المستقر (التقليدي)؛ على تفاعلٍ يعزز في نفوس الأتباع إقراراً بذنب مجتمعي مثل سقوط الخلافة/ سيطرة غير (الأصيلين)، يكون طموح المجندين هو التطهّر منه، فتعمل الآلة الحركية على تضخيم هذا «الذنب المفترض»، وتعظيم كل العاملين على التخلص منه، وتجعل الثأر من مرتكبي الذنب والمتساهلين معه، أمرًا مقدسًا، فيتمجد المنضوون تحت لواء الحركة المجتمعية المتعصبة، ويصبحون في منصب «طلائع» الخلاص المصطفاة، الموكول إليهم الوصول بالمجتمع إلى المرحلة الطوباوية الخلاصية، بحيث يضم المؤمنين فقط؛ وينتهي فيه المذنبون وكل المتسببين في خطيئة العالم القديم، والساكتين عن إدانتها فتنمو الحركة المظلومية الثائرة على المجتمع.
لذا اهتم الكتاب بفكرة صناعة المظلومية وعلاقتها بالتمرد والثأر والسخط ضد الدولة والمجتمع، وركز على خطابات الحركات الإسلاموية ضد الدولة الوطنية الحديثة، فمضت دراسة تحفر عنها في التاريخ؛ مثّلت للمظلومية في حركة التوّابين مع الأخذ بالاعتبار اختلاف الظروف التاريخية، وتتبعتها في حركات العنف الديني المعاصرة، التي تستخدم المظلومية ودعوى الاضطهاد لصنع جماعة مغلقة، تعزل نفسها باستخدام استراتيجيات العزلة الشعورية، وتعظيم الطوباوية وترتبط بمستقبلٍ موهوم تختزله العقائد الخلاصية، وتوجّه مشاعر عقدة الذنب، وتستخدم أدوات الأسطرة؛ لتسييس الديني، وتديين السياسي التاريخي! لصنع سردية دينية خاصة، تخرج التقليدي والساكن، وتستبقي الحركي والمنخرط.
شاركت عوامل عدة في ظهور الحركات الإسلاموية المتطرفة في العالم العربي، وهذا ما تبينه دراسة المفكر والأكاديمي الإماراتي عبدالله جمعة الحاج، حول ظهور الإسلامويين وعلاقتهم بالثأر لسقوط الخلافة العثمانية، وهزيمة 1967، وتجييشهم للمجتمع وإشعاره بالذنب، وكل هذه الأفكار الشمولية تبلور عنفها في كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب الذي أسس لمنفستو عمل طلائع المجندين!
تخبئ الحركات المجتمعية المتشددة تعصبها وانغلاقاتها في بداية التأسيس، ضمن المسكوت عنه في المجتمع، فتظهر أفكارها التي تشمل عنفًا رمزيًا، على أنها تمثل قطاعاً كبيرًا في المجتمع، وما تلبث أن تضع أفكارها الهجومية على أنها عقيدة المجتمع، ريثما يتحوّل العنف الرمزي إلى واقع. لذا؛ سعت دراسة إلى البحث في التمثيلات المعروضة في الرسوم الكاريكاتورية السياسية لصحيفة «دير شتورمر» النازية، دارسة التطبيع مع العنف عبر الفكاهة، وتوظيف النكتة لتحييد المستمع ضد المستهدَف، قبل تحفيزه على مشاركة الكراهية والازدراء لمحاصرة الآخر وإذلاله، باستخدام استراتيجيات بصرية وخطابية ترسخ صورة نمطية. نشأت الصحيفة في بيئة ديمقراطية لتدمر التعددية فنشرت رسالة عنصرية تصفوية!
حين سيطرت الحركات الإسلاموية المتطرفة على بعض الدول العربية، وحتى في تجربة داعش في الموصل، طُرح سؤالٌ عن مقاومة الفلاسفة والمثقفين لها، وأشكالها، ولا يزال. فاختارت دراسة تقديم الجواب من تجربة أخرى، بدراسة أنموذجين لمثقفَين صربيين عاصرا النازية، وأثر محنتها في أفكارهما، الأول: ميلوس إن دوريك (Miloš N. Đurić) ، والثاني: نيديلجكوفيك دوسان (Dušan Nedeljković) ، وهما يمثلان منهجين للصدام، والمقاومة بالحيلة، ويشتركان في تفكيك بنى الاستبداد النازي الذي لا يختلف في إلغائه للآخر، عن الاستبداد الشمولي الإسلاموي المتعصب.
تغذت النازية على معاداة السامية، وشاركتها حركات متطرفة «نظرية المؤامرة». اهتمت الدراسات الحديثة بتتبع السمات المشتركة، لحركة التطرف، وللمناوئين لها، فغطت دراسة معاداة السامية الحديثة، وروافدها وأهميتها، وتأثرها بمدرسة فرانكفورت، فرصدت جهود ستة باحثين: كارِن ستوغنر (Karin Stögner)، صموئيل سالزبورن (Samuel Salzborn)، فولكر بِك (Volker Beck)، سينا أرنولد (Sina Arnold)، ماتياس جيكوب بِكَر (Matthias Jakob Becker)، غونتر يونِس جيكلي (Günther Yunis Jikeli). تمثل هذه التجارب الثقافية، مؤشراً لفهم ما الذي يجمع باحثين ألمان حول تفكيك جذور التطرف النازي، وصلته بمعاداة السامية، واعتبارها معيارًا مخيفًا يمكن لتكراره أن ينكأ جرحًا ألمانيًا، ولكن سياسات الذاكرة في ألمانيا ساعدت على التعامل مع الماضي الأليم، مما يساعد على الحد من النزاعات الحالية.
ما الذي يعنيه سقوط حركة متشددة؟ وما الدروس التي يمكن تعلمها؟ حاولت دراسة الإجابة عن هذين السؤالين فتناولت هزيمة الفاشية والدروس المستفادة منها، قبل أن تدق ناقوس الخطر عندما بينت «هشاشة مشروع إحلال الديمقراطية وقابليته للانعكاس»؛ خصوصاً وأنها تستمد من عالم السياسة الهولندي «كاس مود» (Cas Mudde) تشاؤمه حيث يقول: «التطرف ليس مجرد مرض منحرف، منفصل عن المجتمع السائد».
وفي دراسة الحل، ونماذج العلاج ونزع التطرف الجماعي؛ والخروج من التنظيمات المتطرفة، والفكر الراديكالي؛ تناولت دراسة التطرف اليميني في أوروبا والخروج منه مثل جمعية (Exit-Germenay) لمكافحة التطرف اليميني، فقدمت وصفًا تاريخيًا له وتتبعت تطور مكافحاته، وصولاً إلى محاولات نزعه، التي تستهدف إزالة ترسانة العنف السلوكي واللفظي، و«انبثاق إنسان ما بعد التطرف». كما رسمت الخطوط الرئيسة لنزع التطرف عبر دعم القيم الديمقراطية، وبرامج تسجيل إفادات للمتطرفين السابقين، وبثها ضمن حملات إعلامية لتحصين المجتمع وأصحاب التجارب السابقة.
تطرقت دراسة إلى التطرف في الولايات المتحدة فدرست جماعة «الأولاد الفخورون» (براود بويز) (Proud Boys) التي صنفها مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنها جماعة متطرفة، يعتقد أن لها جناحاً عسكرياً؛ يرى منظرها أن العنف هو السبيل الوحيد للقضاء على التحالف غير المقدس للعولمة والإسلام المتطرف والشيوعية. والجدير بالملاحظة أن الحركة تروج لخطاب معادٍ للنساء بشكل علني، وتدفع لإعادة أدوار الجنسين لما كانت قبل الخمسينيات!
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة جمانة مناصرة التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
أغسطس (آب) 2021