يجادل كثيرون على أن الهجرة ظاهرة قديمة جدّاً في التاريخ، نشأت مع نشأة الجنس البشري وتواصلت دون انقطاع منذ وجوده، فلولا خروج الإنسان العارف “هومو سابيانز” قبل (60) ألف سنة من أدغال أفريقيا باتجاه الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لما ظهرت الحضارات البشرية الأولى مع اختراع الكتابة. ولقد تواصلت الهجرات الكبرى منذ الحضارات الأولى لما بعد ظهور الكتابة لتشمل كلّ مناطق العالم القديم، كما يشهد على ذلك العصر الهلنستي أو الروماني. ثم شهد العصر الوسيط –بدوره- موجات هجرة مكثفة، منها تلك الناتجة عن ظهور الإسلام وامتزاج الأعراق العربية والفارسية والتركية والكردية والبربرية وغيرها في إطار الحضارة التي ندعوها اليوم بالإسلامية. كما تواصلت الهجرة المكثفة في العصر الحديث، ولولاها لما تحوّلت المنطقة المعروفة حالياً بالولايات المتحدة الأمريكية من أرض مجهولة إلى أعظم قوّة في العالم.
كل هذه المعطيات ثابتة وهي تؤكد أن الهجرة جزء من الحضارة، ولولاها لما بلغ البشر مستوى التقدم الذي يعرفه اليوم، أو لكانت الكرة الأرضية حالياً جزراً منغلقة عن بعضها البعض، تعيش كلّ مجموعات بشرية فيها منعزلة تماماً عن الباقي. ولو تطوّر التاريخ بهذا الشكل لربما ظل مستوى الحضارة العالمية اليوم قريباً مما كان عليه في عهد الإسكندر المقدوني أو يوليوس قيصر.
بيد أنّ كل الظواهر الحضارية لها دائماً وجهان أحدهما مشرق والآخر مظلم. وهذا حال الهجرة أيضاً. فالامتزاج بين البشر قد فتح المجال للنزاعات والحروب، وفرض قانون البقاء للأقوى القادر على الهجرة أو القادر على أخذ مكان غيره من المقيمين الأصليين. فهل يفتتح العالم اليوم موجة جديدة من الهجرات المكثفة، التي قد تنتهي بتغييرات جوهرية للتوزيع الديموغرافي العالمي؟ وما هي الحدود الفاصلة بين فوبيا الهجرة ومتخيل “قدوم البرابرة” من جهة، والظواهر الموضوعية الجديدة التي نشهدها اليوم من شاكلة هجرة القوارب في البحر الأبيض المتوسط، وما ترتب عليها -إلى حدّ الآن- من مآسٍ مرعبة؟
ظنّ كثيرون أنّ استقرار النظام السياسي المعروف بالدولة-الأمة (Etat-nation) هو الحلّ النهائي في إدارة الهجرات البشرية، بما فرضه من إجراءات نوعية، على غرار تعميم الحدود ومأسستها قانونياً، وفرض جوازات السفر على المسافرين، واعتماد نظام تأشيرات الدخول، والتمييز قانونياً بين المقيم والمواطن والعابر… إلخ. فبدا على مدى عقود أنّ ظاهرة الهجرة التي غلب عليها تاريخياً طابع الكثافة ( Massification) والفوضوية، قد تحوّلت إلى ظاهرة مسيطر عليها ومتحكم فيها في إطار النظام العالمي للدولة-الأمة، حتى إنّ منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر الطرف الساهر على احترام هذا النظام بين الدول، هي التي عهد إليها أيضاً بإدارة الهجرات الدولية من خلال المنظمة العالمية للمهاجرين ومقرها جينيف (OIM) وهيئات أخرى ذات مسؤولية إقليمية محدودة مثل الأونروا (UNRWA). وعليه، سادت دائماً فكرة أن دول الاستقبال هي التي تحدّد من موقع سيادتها المطلقة على أراضيها، قرار قبول المهاجرين أو عدم قبولهم، وصنف القوانين التي تميزهم عن المواطنين الأصليين.
هذه الفكرة قد استحكمت بصفة خاصة في المجتمعات التي عرفت نظام الأمة-الدولة منذ عقود طويلة، ورسخ فيها هذا النظام فأصبح موجهاً رئيساً لرؤيتها إلى العالم المحيط بها. ومن هذا المنطلق نفهم الهلع الذي يصيب البلدان الغربية، خصوصاً من تنامي حركات الهجرة العالمية حالياً، وحجم التنكر للقانون الدولي الإنساني من قبل هذه البلدان، التي ظلت دائماً تسعى إلى تقديم الدروس للغير في مجال حقوق الإنسان. ففي البحر الأبيض المتوسط، أعلنت المنظمة العالمية للمهاجرين أنّ (17) ألف شخص قد لقوا حتفهم خلال الفترة الممتدة من يناير (كانون الثاني) 2014 إلى يوليو (تموز) 2018، وهم يحاولون الوصول إلى ضفته الشمالية، علماً أن هذا العدد لا يشمل إلاّ الأشخاص الذين انتشلت جثثهم من البحر. وهذه المجزرة البشرية مترتبة على تضييق البلدان الغربية من فرص الانتقال الآمن بين الضفتين، ولم يحدث شبيه لها في ستينيات القرن العشرين، عندما كان الفقر في الجنوب أكبر مما هو عليه اليوم، إذ لم تكن سياسة الـتأشيرات معممة –آنذاك- وكانت هذه البلدان تتغاضى عن الهجرات خدمة لمصالحها الاقتصادية، إذ يوفر المهاجرون عمالة رخيصة ومطلوبة. فلو ظلت الحدود مفتوحة لظل الراغبون في الهجرة يجرّبون حظهم عبر التنقل العادي بالطائرات والبواخر، حتى ولو تم ترحيلهم بعد ذلك، بدل استعمال القوارب الصغيرة التي تودي بجزء كبير منهم إلى الموت المحقق، ومنهم من تتوافر فيه الشروط القانونية الدولية لطلب اللجوء.
والهلع الذي يصيب الغرب غير متناسب مع نسبة المهاجرين نحو الغرب، فهي أدنى من نسبة المهاجرين إلى بعض البلدان الأخرى إذا اعتمدنا عدد السكان، ومن باب أولى إذا اعتمدنا معدلات الدخل للفرد الواحد. فعدد الفلسطينيين أو السوريين الذين استقبلهم لبنان أو عدد الليبيين الذين استقبلتهم تونس في السنوات الأخيرة، هو أعلى بكثير من حيث النسبة إلى عدد السكان من المليون ونصف المليون مهاجر الذين استقبلتهم أوروبا في السنوات الأخيرة، وحتى إذا أضفنا إليهم حوالي ثلاثة ملايين مهاجر غير نظامي موجودين قبل الأزمة الحالية المترتبة على ما دعي بالربيع العربي، وأضفنا إليهم المهاجرين النظاميين، فإن النسبة العامة لغير المواطنين المقيمين في الاتحاد الأوروبي هي حالياً في حدود (5%) بالمقارنة بعدد السكان. في حين بلغ عدد السوريين وحدهم في لبنان حوالي المليون شخص في بلد لا يتعدّى تعداد سكانه أريعة ملايين نسمة، واستقبلت تونس حوالي مليوني ليبي على أراضيها بعد الثورات العربية مع عدد سكان لا يتجاوز أحد عشر مليون نسمة. وتستقبل دولة بنغلاديش، التي تعتبر من الدول الفقيرة في العالم، ولا يتجاوز معدل الدخل الفردي فيها (4200) دولار سنويا، أكثر من نصف مليون من مسلمي الروهنغا الفارين من بطش الجيش في بورما. وتوجد معسكرات لاجئين في بلدان إفريقية فقيرة تستقبل مئات الآلاف من اللاجئين.
إنّ أغلب هذه البلدان تتمتع بقابلية مرتفعة لاستقبال المهاجرين بمختلف أنواعهم، على الرغم من أنها لا تدّعي الترتيب ضمن البلدان الأكثر تقدماً في مجال حقوق الإنسان. ولا شكّ أنّ هذه المفارقة تبدو فاضحة لخطابات حقوق الإنسان، إذ إنّ الفصل الرابع عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينصّ على أنّ “لكلِّ فرد حقُ التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتُّع به خلاصًا من الاضطهاد”. وترك آلاف البشر طعاماً للأسماك في البحر أخطر بكثير من غلق صحيفة أو منع رسم كاريكاتوري في أحد البلدان. لكن يتعين أن نمضي إلى أبعد من ذلك في التحليل، لنلاحظ أنّ البلدان الأكثر تقبلاً للهجرة اليوم هي الأحدث عهداً بنظام الدولة-الأمة، لذلك ما زالت تحتفظ بالأريحية في التعامل مع الهجرة حسب التقاليد القديمة التي عرفتها القرون السابقة، إذ إن عوامل ثقافية مثل الاشتراك في الدين –مثلاً- تتغلب على الرؤية القانونية الصرفة لمسألة الهجرة.
يبدو أن قضية الهجرة تشهد فعلاً في المرحلة الحالية منعرجاً حاسماً، فالرؤية القانونية البحتة المنضوية ضمن الإطار الضيق للدولة-الأمة لم يعد مناسباً، وخطاب حقوق الإنسان لم يعد قادراً على نشر التسامح مع الكم الهائل من المهاجرين. وقد شهدت السنوات الأخيرة مقترحات غريبة في حلّ الأزمة. فالرئيس الأمريكي ترامب ما زال مصراً –مثلاً- على تشييد جدار فاصل بين بلده والمكسيك. بل يبدو أنه أصبح يعتقد أن حلّه هذا يمكن أن يصدّر لمناطق أخرى، فحسب صحيفة “الغارديان” (The Guardian) البريطانية، اقترح يوم 20 سبتمبر (أيلول) الماضي على المسؤولين الإسبان تشييد حائط “في الصحراء” يفصل بين أوروبا والمهاجرين القادمين من أفريقيا، بحجة أنّ طول المسافة في الصحراء (حوالي 4800 كم) لا تبتعد كثيراً عن طول الحدود مع المكسيك (حوالي 3200 كم)، متناسياً أهم شيء وهو أن الصحراء ليست مِلك إسبانيا لتفكر في مشروع كهذا. أما أوروبا فهي تقوم بتطبيق خطة خبيثة تتمثل في الضغط على بلدان الضفة الجنوبية من المتوسط، من مصر إلى المغرب الأقصى، لتقبل بتوطين المهاجرين القادمين إليها من الصحراء الكبرى. وقد أصبحت كلّ الإعانات المالية والقروض مرتبطة بالتفاوض حول هذا المشروع.
الواقع أن ضغط الهجرة سيتواصل ولن تنفع معه هذه الحلول الترقيعية. فالهجرة حركة مدّ قوية ناتجة عن أسباب اقتصادية ومناخية لا تترك من خيار لدى الكثيرين سوى الارتماء في البحر. والوضع الاقتصادي للبلدان الغربية يمنعها من استقبال أعداد كبيرة من المهاجرين. والبلدان التي يُراد منها توطين المهاجرين بدلاً عنها تشكو –بدورها- احتقاناً اجتماعياً ناتجاً عن الفقر والبطالة، فلا يمكن لها أن تتحمّل مشاكل الآخرين مع مشاكلها. والعولمة قد قلبت الوضع الذي استقر منذ عقود، فكما أنها قلصت سلطات الدولة-الأمة في إدارة اقتصادها وإعلامها وثقافتها، فإنها تقلص سلطاتها أيضاً في مجال إدارة الهجرة التي أصبحت أيضاً إدارة معولمة. لذلك قلنا: إن قضية الهجرة هي –حالياً- جزء من أزمة نظام الدولة-الأمة، بما يمثل منعرجاً جديداً وغير مسبوق. فلا تشبه قضية الهجرة حالياً الأزمات السابقة بل تختلف عنها نوعيّاً.