تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «المسيحية الأفريقية في إثيوبيا: الأصول، العلاقات، الدولة» (الكتاب الثالث والسبعون بعد المئة، مايو (أيار) 2021)، دراسة نماذج تفاعل الأديان مع الهويّات، فيخصص كتاباً حول تشكلات المسيحية الأفريقية، مركزاً على الكنيسة الأرثوذكسية التقليدية الإثيوبية، ذات الطابع السامي. ويمر على دول أفريقية أخرى انتشرت فيها الكنائس الحديثة، بعد استقلالها في منتصف القرن الماضي، كما يدرس التديّن في مناطق التوترات وعلاقته بالدولة والسياسة، باحثاً توظيفه من قبل الجماعات العنفية في دولٍ تعيش صراعات إثنية وسياسية واقتصادية.
بقي القرن الأفريقي، مهداً للتأثيرات المزدوجة والفريدة بين: المسيحية الأرثوذكسية؛ واليهودية التوراتية؛ والإسلام العربي، منذ عهد أنبياء الرسالات الثلاثة. لذا اعتنى الكتاب بعلاقات المسيحية الإثيوبية الخارجية: مع الإمبراطوريات، والداخلية: مع المجتمعات؛ فراقب تماسكها في رعاية الممالك التاريخية، وقيامها بالربط بينها، مع الحفاظ على ولائها للكنيسة القبطية في الإسكندرية، الذي استمرّ حتى ظهور الدولة الوطنية وفكرتها القومية، فسقوط حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي (Haile Selassie) عام 1974، وهو المنسوب إلى السلالة السليمانية، الناتجة عن تزاوج ملكة سبأ والملك سليمان، حسب الرواية الإثيوبية!
بدأ الكتاب بمادةٍ تطرح الوجوه المتعددة للمسيحية في أفريقيا، منذ جذورها الأولى في عهد السيد المسيح حتى القرن العشرين واستقلال دول القارة، مناقشاً أهم المصادر التاريخية حول المسيحية الإثيوبية المبكِّرة، وسجالات تأسيسها التي يمكن إيجازها باثنين: الأول تعتمد عليه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المنتصرة للقرن الرابع الميلادي، حين أجاز بابا الإسكندرية أثناسيوس (Athanasius)، الأسقف فرومنتيوس (Frumentius) (الأبونا سلامة) لمواصلة عمله في بلاط الملك إزانا (Ezana). وتتفق معها الدراسات التاريخية حول نشوء المسيحية النظامية التابعة لكنيسة الإسكندرية في الحقبة نفسها. يستند المصدر الآخر إلى القرينة التاريخية الإثيوبية وأدلتها الأثرية والنصية والسورية والرسولية، ويحاجج بالأدلة الإنجيلية والتاريخ الشعبي اللذين يعيدانها إلى عام 63!
يلاحظ أنه في ظلّ القراءتين المختلفتين في التنافس على الأسبقيات المسيحية في إثيوبيا، التسليم بوجودٍ مسيحي فردي وغير منتظم في بلاط ملكات إثيوبيا منذ القرن الميلادي الأول. فينحل إشكال اختلاف الأصل والأسبقية، بأنّ التنظيم الكنسي أتى بدعم من كنيسة الإسكندرية، أمّا وصول المسيحية الفردي إلى هناك فكان قبل ذلك بكثير، لا سيما إذا رُبط بالدلالة السريانية التي تؤكد العلاقات الإثيوبية بالكنيسة السورية.
شكلت العلاقة التاريخية بين الكنيستين، القبطية المصرية والإثيوبية، إحدى أبرز المحطات التي توقف عندها الكتاب، لما لها من أهمية في فهم الملامح المعاصرة للمسيحية في إثيوبيا، كما شكلت علاقة الحبشة مع الجزيرة العربية قبل الإسلام، محط نظر؛ بانَ ثقافياً في الخطوط والتأثيرات اللغوية، وظهر سياسياً في الغزوات المتبادلة، وتوثق دينياً في الروايات الدينية، وساهم اجتماعياً في الإسلام المبكِّر.
تناول الكتاب شهادةً خاصة، لمبعوث البابا شنودة الثالث، إلى الكنيسة في إثيوبيا، لإعادة الودّ والسلام بين الكنيستين عام 1997، فكشفت عن تفاصيل رسائل رأس الكنيسة المصرية عبر «حامل الكلام»؛ إلى الكنيسة الإثيوبية، التي عبّر رجالها، عن احترامهم واعترافهم بأمومة الكنيسة المصرية، ولكنهم قالوا: «لا تبقى الابنة الصغيرة طيلة عمرها بين يدي أمها. إنها تكبر، وفي نقطة ما، تترك أمها كي تغدو امرأة مستقلة بذاتها»، وإذ بيَّنت الشهادة ملابسات تاريخ انفصال الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية عام 1959، فإنها أرّخت لاستقلال الكنيسة الإريترية عن كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية، وتحدثت عن إصرار ومتابعة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي (Isaias Afwerki) الذي زار البابا شنودة الثالث عام 1998، طالباً منه بشكل شخصي تكريس بطريرك مستقل لبلاده، وكان له ما أراد.
تقف المسيحية الإثيوبية –كما برهنت دراسات الكتاب- أمام سرديات عدة، تتقاطع أحياناً في ما بينها: أولاً: السرد الأوروبي الذي استفاق متأخراً على الجذور المسيحية الأصيلة في إثيوبيا، ويتحدث عن الدور البرتغالي في التصدي لهجمات أحمد بن إبراهيم الغازي (الأعسر)، بدءاً من عام 1535 لإنقاذ الإمبراطورية المسيحية الإثيوبية، ثم يأتي إلى دخول الكاثوليكية بسبب التأثير الإيطالي في عهد موسوليني. والسرد الثاني، مصدره الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي عملت على تنظيم شؤون الكنيسة الإثيوبية وسيامة أساقفتها حتى نيل استقلالها في عهد البابا كيرلس السادس. وبين هذين السردين تبرز الاستعادة التاريخية الإثيوبية التي حاولت القول بخصوصية تجربتها وأصالتها، خصوصاً بعد التحوّلات السياسية التي أرادت حفظ الاستقلال السياسي والديني للدولة.
كانت إثيوبيا من أوائل الدول التي أعلنت المسيحية ديناً رسمياً للبلاد في القرن الرابع الميلادي، وقد منحها ذلك مميزات مختلفة، فتزعم فرضيات الدراسات أنها لم تُستعمر في تاريخها أبداً، عدا السنوات الخمس التي احتلها فيها النظام الفاشي الإيطالي في ثلاثينيات القرن الماضي، فقط بسبب دينها. وفي هذا الزعم نظر، لا ينفي أنّها تمكَّنت من حفظ التماسك الداخلي بفضل المسيحية المتوائمة مع ثقافاتها الشعبية.
ميّزت دراسةٌ مسارين لتشكلات المسيحية الإثيوبية وعلاقتها بالإثنية، الأوّل: كانت المسيحية فيه فوق الإثنية وكانت الكنيسة المسيحية، لا النظام الملكي، هي الرابط بين الإقطاعيات المتفككة. والأنموذج الآخر، استخدم الإكراه والأيديولوجيا لبناء الدولة الحديثة، فصنعت «الإثنية التخييلية» التي تخضَع المسيحية الإثيوبية لها، فتحّولت المسيحية إلى القومية عبر إعادة إبراز رواية كتاب «كبرا ناغاست» (مجد الملوك)، فأُخضِعت بذلك لتوظيف الأيديولوجيين، مما يُفسّر به الباحث -صاحب الفرضية- الأحداث التي تواجهها الدولة وجيرانها في الوقت الراهن، طارحاً فكرة «تعرّض الروابط الجماعية لخطر الطمس»؛ وبتسمية الهويات بين الأمهريين والتيغريين، حاول فهم جذر الصراع الراهن في المنطقة، ومداها!
ونظراً للتقاطعات المتباينة بين الدين والدولة في القارة الأفريقية، عرضت دراسة دور الكنيسة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فناقشت تطور العلاقة بين السلطة السياسية والكنيسة المسيحية، من خلال متغيرين: التعاون والاستيعاب يقابله الصراع والمواجهة، وتوقفت عند الدور الكنسي في التحولات السياسية الرئيسة التي طبعت نهاية حكم جوزيف كابيلا (Joseph Kabila)، وغيرها من الأحداث.
درس الكتاب الحركات المسيحية المتطرفة في أفريقيا، بهدف فهم أثر الصراع الإثني وتعثّر فكرة الدولة وبناء مؤسساتها في القارة، فتطرق إلى حركة البيافرا في الجنوب النيجيري وجيش الرب في شمال أوغندا، وميليشيات أنتي بلاكا في جمهورية أفريقيا الوسطى.
تأسست مراكز الأبحاث المتخصصة في الدراسات الأفريقية بعد حقبة الاستقلالات، في فرنسا وبريطانيا وأميركا. قدمت دراسة خلاصات مهمة، ومثيرة للجدل، رأت أن هذه المراكز دعمت ربط الدين بالدولة في أفريقيا المسيحية، في الوقت الذي دعت فيه الغرب للفصل بينهما، تجنباً للمواجهات الدينية الدامية التي عانت من ويلاتها أوروبا. ناقشت الدراسة الاتجاهات النظرية الغربية التي اعتمدت عليها هذه المراكز في مقاربة، دور الدين في المجتمعات الأفريقية ومنها: «الاتجاه البنيوي الوظيفي» و«الاتجاه الصراعي» و«الاتجاه التفاعلي– الرمزي»، مطبقةً ذلك على عددٍ من المقالات المختارة.
حاولت دراسة قراءة موقف النسوية الأفريقية مستخدمة مصطلح «النسوية البيضاء»، فعرضت لأبرز الكتابات التي قدمتها النسويات الأفريقيات في ما يخص الحملات التبشيرية في القارة، وتأثيرها في مسألة الجندر والأدوار الاجتماعية. وقدمت لأفكار النسويات الأفريقيات مثل: أويرونك أُيووِيمي (Oyèrónkẹ́ Oyěwùmí) وفيلومينا كلاريس ستيدي (Filomina Clarice Steady) حول الكنيسة المعاصرة و«الكولونيالية» وعلاقتها بالتغيرات وانعكاسها في قضايا المرأة والعائلة، وأبرزت أفكارهن الحادة والغريبة في قضية «الختان»، وسجالهن مع النسوية الغربية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مايو (أيار) 2021