فهد الشقيران: باحث ومفكر سعودي، أرّخ لعديد النظريات الفلسفية، وعمل على شرحها في مقالات نشرت في صحف عربيّة وخليجية أبرزها “الشرق الأوسط” و”الحياة”. وهو أيضا باحث ومستشار وعضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث منذ العام 2006، ومؤسس لوحدة الدراسات الفلسفية بالمركز. صدر له كتب بالمشاركة مثل (الجامية)، (الخليج والربيع العربي: الدين والسياسة)، ( ظاهرة المفكرين الحركيين)، وكتاب برعاية “اليونسكو” عن تدريس الفلسفة. وتصدر هذه السلسلة كباكورة في مشروعه (الفلسفة للجميع)
من بين المفاهيم التي أثرت المجال الميتافيزيقي ما طرحه الفيلسوف وعالم الطبيعة والرياضيات ليبنتز تحت مفهوم: “المونادلوجيا” ضمن كتيّب صغير لا يزال يثير الأسئلة والشروحات على الرغم من مرور ثلاثة قرون ونيّف على تأليفه. و”المونادة” لديه: “هي الجوهر البسيط الذي يدخل بالمركّبات، وبسيط بمعنى أنه بدون أجزاء، ومن الضروري أن توجد جواهر بسيطة لأن هناك مركبات، إذ إن المركب عبارة عن كومةٍ أو مجموعة أجزاء بسيطة” وهذه المونادات هي عناصر الأشياء، وبهذا المفهوم يؤصل ليبنتز للوجود الخير، فنتيجته النظرية مؤمنة. فالمونادات لديه لا تبدأ إلا بالخلق ولا تنتهي إلا بالانعدام. ويسبق ليبنتز السؤال حول تعليل المونادة بقوله: “لا يمكننا أن نعلل كيف تستطيع المونادة أن تتبدل أو تتغير”. فالأعراض لا تستطيع أن تنفصل عن جوهرها: “وفيما يتعلق بالعناصر المحسوسة فلا يستطيع جوهر أو عرض أن ينفذ من الخارج إلى داخل المونادة”.
يشرح مترجم وشارح ليبنتز ألبير نصري نادر: “أنه يوجد فوق هذه النفس المتناهية أعني المونادات البشرية اللامتناهي وهو الله، فهو يدرك منذ الأزل بواسطة الحدس، لا كل ما هو حقيقي فحسب، بل كل ما هو ممكن، وليبنتز يبرهن على فلسفته المؤمنة منطلقاً من أن تعليل العالم مستحيل من دونه ولا منشئ العالم والحركات التي تحدث فيه، كما يستحيل تفسير الغائية الواضحة في العالم، ويتصور ليبنتز العالم وكأنه مجموعة عظيمة من المونادات اللامادية الحية”.
والمونادات ينطلق فيها من “الانسجام” الكوني والتناغم الذي يبرهنه رياضياً، فهي منسجمة كما النوتات لمعزوفة موسيقية ومتتابعة، والموناد هو حل للإحراجات الميتافيزيقية السابقة، والحدس له مفعول معرفي وبرهاني في فلسفة ليبنتز. والتناسق لا يعني التطابق، بل ينفيه في الفقرة التاسعة من الكتاب: “فكل مونادة مختلفة عن الأخرى، لأنه لا يوجد قطّ في الطبيعة كائنان متشابهان تمام التشابه، حيث يستحيل وجود فرق داخلي أو فرق قائم على الصفات الداخلية”. والمخلوقات تتغير وكذلك المونادة ضمن تحول مستمر ومتواصل. ولكن هل تتغير المونادة؟!
بالنسبة إليه، إن التغييرات الطبيعية تحدث ضمن مبدأ داخلي ولا تستطيع علة خارجية أن تؤثر داخل المونادة، ومع مبدأ التغيير لا بد من عرض للذي يتغيّر ليعين الجواهر البسيطة ويبين تنوعها. ولأن نظرية المينادلوجيا بمثابة تعديل على النظريات الميتافيزيقية السابقة لليبنتز، فقد قصد الديكارتية ناقضاً اعتبارهم أن الإدراكات التي لا نشعر بها كأنها غير موجودة، وبالتالي نفيهم الموناد عن الحيوان وعناصر الطبيعة الأخرى، الأمر الذي يثبته ليبنتز وتنفيه الديكارتية، وينتقدهم على الخلط بين حالة الغيبوبة الطويلة والموت التام بمعنى “فناء الروح” وهذا منفي لدى ليبنتز.
وبالنسبة إليه: “عندما نستيقظ من غيبوبتنا نشعر بإدراكاتنا فيترتب على ذلك أننا كنا حائزين على إدراكاتٍ قبل هذا الاستيقاظ مباشرةً، ولو أننا لم نشعر بها قط من قبل لأن كل إدراكٍ لا يصدر طبعاً إلا عن إدراك آخر، كما أن حركة لا تصدر إلا عن حركةٍ أخرى”؛ ثم يهمّش الشارح ألبير على الفقرة (23) باستدراكٍ لافت مذكراً بالفقرة (17) لليبنتز التي قال فيها: “إن الإدراك لا يحدث مع الحركة، مع العلم بأن الحركة في رأيه إدراك”.
ومبادئ الموناد قادت ليبنتز نحو التفسير المتناسق للطبيعة، كما بين النفس والجسم، إذ تخضع الأولى لقوانين خاصةٍ والجسم له أيضاً قوانينه، ويعتبر أن الجسم والنفس يبتقيان لسببٍ واحد هو التناسق الأولي بين جميع الجواهر باعتبارها كلها تصورات لعالم واحد.
تسعون فقرة هي خلاصة ثلاثين سنةٍ من البحث عن ميتافيزيقا متجاوزة لعصره، كتبها بطريقةٍ فلسفية على نمطٍ رياضي بالتسلسل والتقعيد، العقل والمادة يسيران وفق قانون “التناسق” الأزلي، إنها محاججة مؤمنة تدفع نحو التصوّر الخير للعالم ونقض عكسها، وتبقى نصوص ليبنتز ومنها فلسفته في المونادلوجيا مما يثير الأسئلة وقد تعرضت فلسفته طبعاً لانتقادات كثيرةٍ لاحقة يمكن الرجوع إليها بمظانّها. وهذه ليست إلا لمحة بسيطة جداً عن فلسفته إسهاماً لموقع المسبار، على أن تتبعها تعريفات بسيطة وسهلة حول مفاهيم شائعة أو مندثرة. وإلى اللقاء.