المقدمة
إنَّه كتاب في تُراث اللُّصُوص: أعلامهم، حيلهم، أخبارهم وأشِعارهم، وعن سُرّاق المال والأدب والفكر، أُدرجت تحت عنوان «لصوص الأموال والأفكار». فخطورة النَّوعين واحدة، إنْ لم يكن النَّوع الأخير أكثر خطراً؛ لأنَّ لِصَّ المالِ قد يكون له عذره لطعام أو لباس، لكن لا عذرَ لسارقِ كتابٍ أو مقالٍ أو فكرٍ أو قصيدةٍ، فما بالك بسارق كتبٍ شيد له مجداً معرفياً عبر اللُّصوصيَّة.
لا تبدو مصادر البحث في اللُّصُوص قليلة، لكنها متفرقة، فأخبارهم، وكلّ ما يتعلق بهم مبثوثة في الكتب القديمة، مع أنَّ هناك كتباً اختصت باللُّصوص فقط، وهذا ما يراه القارئ اللَّبيب، في تمهيد المصادر المفصل، بعد المقدمة مباشرة، لكنَّ تلك الكتب مفقودة، وهي بالأصل كانت نزيرةً، ما عدا ما اختص بالسَّرقة الأدبية، فوصلنا ما وصلنا منها، لكنّها جميعاً تقريباً قصدت سرقات المنظوم وليس المنثور، ومعلوم أنَّ سرقة المنظوم، أو الشِّعر، تُبرر في معظمها بالتّضمين والاستعارة، استعارة اللفظ أو المعنى، وما أكثر الأخير! أيّ المعنى، بين الشّعراء وفي العصور كافة.
أما المراجع الحديثة، في مجال اللُّصُوص، وهي قليلة أيضاً، لكنها ركزت على اللُّصُوص الشُّعراء دون سُرّاق المنثور مِن الأدب والفكر، وجَمعت بين اللُّصُوص والصَّعاليك والشُّطار والعيارين، والفتيان، وهم وإنْ يشتركوا في التَّمرد وتَجاوز الحُرمات، غير أنَّ الاختلاف واضح بين هذه الفئات؛ لذا نرى مِن الصُّعوبة بمكان تضمين الكتاب الفئات المذكورة، فهؤلاء لهم تعريفاتهم الخاصة وممارساتهم الدَّالة عليهم، فهم لا يتخذون اللُّصُوصية حرفةً، صحيح أنهم يحسبون مِن الجماعات الشِّريرة، في الكثير مِن الأحيان، ويتجاوزون الأعراف الاجتماعية، ويعتدون على أموال الغير بالنَّهب والسَّلب وقطع الطَّريق؛ لذا أصبحوا منبوذين مِن قِبل المجتمع، لكنهم ليسوا لُصُوصاً بالمعنى الدَّقيق للمفردة، فمِن ناحية السَّلب والنَّهب، كان يمارس بين القبائل بشكل علني، وآنذاك كانوا يتفاخرون به! إنَّ سوء الأخلاق والتَّمرد على المجتمع ليسا بالضَّرورة ينحصران في اللُّصُوص دون غيرهم.
يأتي في تعريف الصُّعلوك: هو مَن لا مال له([1])، أيّ فقير الحال، وصَعلكهُ: أفقره، وتصعلك: افتقر، وبالتَّالي معنى الصُّعلوك الفقير([2]). اشتهر الصَّعاليك بالتَّمرد بسبب الفقر، وقد أشتهر بينهم الشَّاعر عروة بن الورد، حتى لُقب بــ«عروة الصَّعاليك»، و«أبي الصَّعاليك»([3]). قيل كان يجمع مَن تبرأ منهم ذوهم، بسبب القحط أو المجاعة، وهم المرضى وكبار السّن والضُّعفاء، فيعمل على إسكانهم في حظائر يعدها لهم، ومَن يقوى منهم يخرج به في الغارات على أصحاب الأموال، ويقسم الغنيمة بينه وبين أصحابه([4]). حصل أن قوماً أصابهم القحط فلجؤوا إليه، ونادوه بأبي الصَّعاليك «أغثنا فرقّ لهم وخرج ليغزو بهم ويُصيب معاشاً»([5]).
فهل يمكن تسمية ابن الورْد لِصَّاً؟! لا نعتقد ذلك، ولديه أروع خصال الإنسانيَّة، التي يتجرد منها اللِّصُّ تماماً. نجد مَن يفخر بالصَّعَلكة، ولا نجد مَن يفخر باللُّصوصيّة، مثل قول لقيط بن زرارة([6]):
إنْ يقتلوا منا كريماً فإننا
أبانا به مأوى الصَّعاليك أشيما
كذلك الحال بالنِّسبة للشُطَّار، مع اختلاف المعنى عن الصَّعاليك، فالشَّاطر «الذي أُعيى أهله خُبثاً»([7])، ويأتي ذِكر الشُّطَّار في غير ما يُذكر به اللُّصُوص، والخبث ليس بالضَّرورة أنْ يكون لُصُوصيةً، كي يُضمَّن الشّطار في كتاب يختص باللُصُوص، أو يعدون ضمن فئة أو طبقة مِن اللُّصُوص، فالشَّاطر يمكن أن يكون لُصاً أو لا يكون، وليس كلّ شاطر لُصاً. نأتي بمثال نقتبسه مِن صاحب «أحسن التَّقاسيم»، كي نحدد مِنه هوية الشَّاطر، يقول عن الأهواز في وقته (القرن الرَّابع الهجري/العاشر الميلادي): «ليس لجامعها حُرمة، وذلك أنه أبداً مملوء بخلقٍ مِن الشُّطار والسَّوقة، والجهال يتعدون إليه ويجتمعون فيه، لا يخلو قوم جلوس والنَّاس في الفريضة، وهو بين الشَّحاذين والفاسقين»([8]).
كذلك ورد عن أحد الشُّطار، وقد شاع أنه كان يتعشق امرأة نبيلة، ليست مِن طبقته، والحقيقة أنه عشق جاريتها وليست هي، فقيل عنه: «كان جندياً في عداد الشُّطار»([9]). أو ما قيل عمَّا حصل في الحرب بين الأخوين الأمين والمأمون ابني هارون الرَّشيد، سنة (196هـ/811م): «وفُتن النَّاس، وساءت أحوالهم، ووثب الشُّطار على أهل الصَّلاح»([10]). نُقل أن للجاحظ كتاباً عنوانه «أخلاق الشُّطار»([11])، لكنه مِن المفقودات.
وهذا عمرو بن الورّاق العنزي(تـ: 200هـ/ 815م) يمتدح العيارين والشُّطار، في تلك الحرب، وإن عدوا مِن اللُّصُوص([12]):
عُرْيان ليس بذي قَمصِ
يغدو على طلبِ القميصِ
لَيْثاً مُغيراً لم يَزلْ
رأساً يُعدّ مِن اللُّصُوصِ
أما الفتوة، أو الفتيان، فهؤلاء لهم سماتهم الخاصة، وتنظيمات ترأسها الخلفاء أنفسهم، وللفتوة شروطها([13])، وأحياناً يجتمع الشُّطار والفتيان، وهذه الفتوة غير الملتزمة بشروطها الأخلاقية، في هذا يقول الجاحظ (تـ: 255هـ/868م): «وإنّ الشُّطار ليخلو أحدهم بالغلام الغرير، فيقول له: «لا يكون الغلام فتىً أبداً حتَّى يصادق فتىً، وإلا فهو تكش»، – والتَّكش عندهم الذي لم يؤدَّبه فتىً، ولم يخرَّجه -، فما الماء البارد بأسرع في طِباع العطشان مِن كلمته، إذا كان للغلام أدنى هوىً في الفتوة»([14]).
يربط أبو حيان التَّوحيدي (تـ: 414هـ/1023م) بين المروءة والفتوة، فلا «فتوة لمَن لا مروءة له، فأما إذا اجتمعا فقد أخذ الحبل بطرفيه، وملك الأمر بحنويه»([15]).معنى مفردة «الفتى» الشَّاب، والسَّخي الكريم، والفُتوة لذاتها تعني «الكرم»، والفُتَيُّ: قدحُ الشُّطَّار مِن الأعراب، أو قدح الفتيان، والفَتِيان تعني اللَّيل والنَّهار([16])، فلا جامع يجمع اللُّص مع الفئات الثَّلاث التي ذكرناها، إلا أن يتم الجمع بينها وبين اللُّصُوصية بالممارسة، ولعلّ بين مَن ذكرناهم مِن اللُّصُوص يمكن أن يكونوا صعاليكَ أو شُطَّاراً أو فتياناً، لكن ليس لنّا اعتبار تلك الفئات ضمن اللُّصُوص.
كذلك ركزت الدِّراسات الحديثة على الجانب النَّفسي والأخلاقي للُصُوص، أي جاءت كتباً مثقلة بالتَّنظير، وخفيفة بالأخبار والسّير. فكان للصُوصِ عوالمهم الخاصة، يعيشون مطاردين برذيلة اللُّصُوصيّة، تطاردهم شرطة الحاكم وأفراد القبيلة، فالعقوبة على اللِّص أو اللِّصة قطع اليد، في الإسلام وما قبله، وإذا تكرر فعله تُقطع الرِّجل وإذا تكرر فالقتل، حيث يشمله حُكم الحرابة والإفساد في الأرض وهو القتل. مُلئت كتب النَّوادر بفكاهات أبطالها اللُّصُوص، وهي بين حوادث صحيحة ومختلقة، ومع ذلك تستطيع منها أن تصور كيف تكون شخصية اللُّص في التراث العربي الإسلامي!.
يبدو أنَّ اللَّصَ فنانٌ في إيجاد الحيلة، حيلة السَّرقة، وحيلة التخلص من الموقف في اللحظة الحرجة، كدخول أهل الدَّار عليه تحت جنح الظَّلام متلبساً بسرقتهم، فيبقى ساهراً في زاوية مِن زوايا الدَّار، مفكراً كيف الخروج مِن المأزق قبل إطلالة الفجر، وقبل هذا بأيام يكون شغله الشَّاغل تحديد هدفه، مِن خلال جمع الأخبار، ومعرفة خروج ودخول صاحب الدُّكان أو محل الصَّرافة أو المنزل. لهذا يظهر على شخصية اللّص القلق، وعدم الثَّقة والتَّرقب، وقديماً كان يقضي نهاره في القفار، أو في الأماكن المهجورة بأطراف المدن والأحياء.
يجتمع اللُّصوص ويكونون ظهيراً لحماية بعضهم بعضاً، وقد يشكلون ما يشبه النَّقابة، لهم كبير يُدبر أمورهم، ويبقى مطاعاً، آمراً ناهياً على مجموعته، حتى وإن كان داخل السِّجن. كم من قائد متمرد على الحُكم شَكَّلَ مِن اللُّصوص جيشه! واستطاع بهم الحصول على الأموال والجاه أيضاً، وسارت الرُّكبان بخبره، يعود إليه المنكوبون بسرقة أموالهم مِن التُّجار، لإرجاع ولو شيء منها. كذلك في ظروف عصيبة تأخذ السُّلطات بتقريب رؤساء اللُّصوص، ويوفرون لهم الحماية، مقابل دفع نسبةٍ مما يسرقون، ومَن يتوب مِن اللُّصوص، توبةً نصوحاً، يُسجل في ديوان الحكومة، ويُجري له راتب كخبير في حوادث السَّرقات، وهذه الفئة عُرفت بالتَّوابين.
يعرف النَّاس، أن الإنسان عندما يتحول إلى لَصٍ، لا يكون له عهد ولا أمانة، لكنْه قد يفاجئهم بسمو أخلاقه، عندما يمتنع عن سرقة الضُّعفاء، أو أبناء حيهِ وقبيلته، ومع عِسر الأحوال التي يعيشونها، ظهر بينهم شعراء كبار، لا يعرف شعرهم الغزل أو المديح، بقدر ما تشيع فيه مفردات السُّجون والقفار والمطاردة والأصحاب مِن اللُّصُوص.
تعرفنا على عدد غير قليل مِن الفقهاء والقضاة الذين قتلوا بيد اللُّصُوص، وكانت بيوت هؤلاء أماكن لحفظ أمانات المسافرين من الحجِّاج، لهذا تكبس اللُصُوص دورهم بحثاً عن تلك الأَموال. لهم حيل قد لا تأتي على بال العباقرة مِن البشر، والمثل الآتي، وإن قيل في «الكحالين» أطباء العيون إذ قيل: «يَسْرقُ الكُحل مِن العين»، فهذا يسرق العين مِن الكحل، وهو لِصُ مِن كبار اللُّصُوص([17]).
ينشط اللُصُوص عادة في الأزمات، حيث الفوضى وانشغال النَّاس والسُّلطات، خلال سنوات المجاعات، والحروب والانقلابات السِّياسيَّة، وتلك فرص اللُصُوص الذَّهبية. هذا، وللُّصوص عناوين وكل عنوان له اختصاصه، هذا ما فصلناه في فصل خاص بالفئات، ولهم أماكن عُرفت بهم، وظلّت تسمَّى هكذا، مثل قصر اللُّصُوص، وخربة اللُّصوص، وسوق اللُّصوص. كانت هناك علاقة بين اللُّص والكلب والحارس، فالحُراس داخل البساتين المنفردة ليس لهم غير الكلاب للتسلية، بينما اللِّصّ من جانبه يحتال للكلاب ليمنعها من النّباح.
ركزنا في الفصل الخاص بشخوص اللُّصُوص على سيرهم وطبائعهم، ومنهم مَن تاب مِن اللُّصوصية توبة نصوحا، وأصبح وجيهاً في مجال مِن مجالات الحياة، وقد أتى ابن قُدامة، على العديد منهم في كتابه «التوابين». مِن اللُّصوص مَن تربطه علاقة بوزير، أو أمير أمراء، أو صاحب الشُّرطة، وهذا يبدو أخطرهم؛ لأنه لا يخشى مِن العقوبة، مثلما كان الحال مع لصِّ بغداد المعروف بابن حمدي، واللُّصّ ابن بكران. دفع التواطؤ بين اللُّصُوص والموظفين أو الشّرطة بعض الأمر إلى إحضار الأيدي والأرجل التي قُطعت عقوبة على اللُّصُوصية، فيعيدها؛ لتكون على قدر الأحكام التي صدرت بهم؛ كي يضمن عدم التّلاعب بتنفيذ العقوبة مقابل الرَّشوة.
ما يلفت النَّظر أن أغلب اللُّصوص، -إن لم يكن كافتهم -، أنهم لا يعرفون بغير أسماء تشبه الرُّموز والاستعارات والكُنى، يصعب أن تعثر على اسم أبٍ أو جدٍ لأحدهم، بل في الغالب تُطلق عليهم أسماء الأماكن التي يرتادونها، أو كُنى تُعبر عن اللُّصوصية، أو باسم الأُم والأب، مِن دون الاسم الأول، وهذا يُذكر بأسماء المماليك أو العبيد، ليس لهم قسمة في الأنساب، تأتي أسماء اللُّصُوص مثل: ابن مردان، وابن حمدي، وابن الخياطة، وابن بكران، وابن البَزَّاز، وابن سباب الكُردي، وأسود الزُّبد، أفلح الزَّنجي، وابن باز العُقاب، وأبو الهيثم الطَّرار، وبكر النَّطاح وغيرها.
لم يكن لصوص المال وحدهم مادةً للكتاب، إنما جعلناه مناصفة تماماً، بينهم وبين لُصُوص الكتابة والفكر، وهو ما يُعرف حديثاً بالسَّرقة الأدبية، فهؤلاء مثلما تقدّم كانوا ومازالوا هم الأخطر؛ لأنهم يسرقون غير مضطرين، يسرقون العقل والفكر، ويدخلون في المجتمع كمؤلفين وباحثين وكتاب، وهم مجرد لُصُوص، ربَّما أسماء نتفاجأ بها، كيف شيدت مجداً معرفياً على أساس الإغارة على نصوص أو أفكار الآخرين؟!
يتضمن الكتاب بابين: الباب الأول مِن تسعة فصول تناولت الفئات، والأماكن، ومن قتله اللُّصوصُ من الفقهاء والمفكرين، وأعلام اللُّصوص، وبينهم مَن أسس جيشاً جنوده من قاطعي الطَّريق واللُّصُوص، وركزنا على انتعاش اللُّصُوصيَّة في الأزمات، وأشعار اللُّصُوص، وختمنا الباب الأول بعقوبة اللِّصِّ.
أما الباب الثَّاني فتناول لصُوصَّ الفِكر والمنظوم والمنثور، ويمكن التعبير عنها بالكتابة، وعند البحث في هذه الظَّاهرة تجد عالماً آخر، فيه من المحتالين، لممارسة السَّرقة التي لا عقوبة عليها، فلِصُّ الفكر يتلاعب في الألفاظ الأصل، ويأخذ المعاني، لكنَّ لخيبة عدد منهم فإنهم يسلخون اللّفظ والمعنى، فتظهر سرقاتهم واضحة، ويتضمن هذا الباب عدة فصول، أولها عن اللُّصوصيَّة الأدبية نفسها، ثم سرقة الأشعار، وتلك أقدمها وأغزرها في المصادر، ثم تأتي سرقات النَّثر، وقد وزعناها على عنوان يجمع بين السَّارق والمسروق، لكنَّ بعض ما عرضناه في هذا الباب، فيه براءة السَّارق مِن سرقةٍ، قد شاعت حتى صارت حقيقة.
أتينا في الكتاب على إشكالية في هذه القضية، ألا وهي السَّرقة الأدبية والفقه، فلم نجد عقوبة عليها عند الفقهاء، ماعدا إشارات عامة، ولكنها حديثة، وإذا كان هناك موقف منها، فهو بالقياس على سرقة المال، لكنَّها من دون عقوبة. لفتنا النَظر إلى قضية هامة، وهو ما أباحه بعض رجال الدِّين من الغش في الامتحانات، وهذا لا يقل خطراً عن السَّرقة الأدبيَّة نفسها، وعذرهم في هذا عدم وجود الدَّليل في حرمتها، والسَّبب؛ لأنهم لم يقدروا قيمة التَّعليم، الذي يُبنى على المنافسة الجادة بين الطلبة، وأن الغش سيؤول بهم إلى الكسل، وإلى اقتراف السرقة الأدبية.
كان دافع البحث في موضوع اللُّصُوص، ما جرى في السَّنوات الأخيرة على العِراق والعراقيين، حتى صارت سَرقة الآلاف، مِن الدولارات لا تعني شيئاً، بل وأخذت تُهَوّن سرقة الملايين أيضاً، فالأرقام غدت تُحسب بالمليارات، كأن العِراقَ كنزٌ مفتوح، وهو بالفعل كنز، عُثرَ عليه في مغارة مِن المغارات، فأخذت القوافل تُحمَّل منه بلا رقيب أو حسيب، وبسبب هذا الكنز يُبرر القتل والتَّدخل الخارجي اللئيم باسم الدِّين، ويُبرر الجهل، فالجاهلون سكوتهم مضمونٌ. إنّه فسادٌ يختلف عمَّا ألفته بقية الدُّول والشُّعوب، فمن العادة أنَّ الفاسد يخشى الفضيحة والعقوبة، ولكن ما حصل ببلاد الرَّافدين، منذ 2003 وحتى يومنا هذا، فساد مِن نوع آخر، فسادُ مسلح، أصبح القاضي فيه متهماً والفاسد قاضياً.
سمعنا في وسائل الإعلام، بعد سقوط النِّظام العِراقي السَّابق (9/4/2003)، أن مِن الأمريكان مَن تذكر حكاية علي بابا والأربعين حرامي . فعلى ضوء هذه الحكاية، وُضع نصب «كهرمانة والأربعين حرامي»، نحتها الفنان غني حكمت (تـ: 2011)، وهو نصب مشهور وسط بغداد، أُقيم في (1971)، يخرج الماء مِن أربعين خابيةً أو قِربةً، وكهرمانة تقف في الوسط تملؤها بالماء، وفي الحكاية تملؤها زيتاً.
أتذكر انقطع الماء عن تلك النَّافورة، وكان ينقطع ببغداد في فصل الصَّيف بين فترة وأخرى، في السبعينيات، فظهرت إحدى الصُّحف ببغداد وقتها بكاريكاتور يسترعي الالتفات، وهو ظهور رؤوس اللُصوص مِن أفواه القِرب الأربعين. لا أدري، هل الرَّسام وقتها قصد اللُصوصية أم الماء فقط، ففي ذلك الوقت لم تكن لُصوصية الدَّولة ظاهرة، لكنَّ على أيّ حال كانت فكرة الكاريكاتور عميقة، تعادل فكرة النَّحت نفسها، مِن حيث القيمة الفنية.
هذا النَّحت، نُحلت قصته مما أُضيف لــ«ألف ليلة وليلة»، فالنسخ القديمة، وما طبع مِن نسخ جديدة عليها، وجدناها خاليةً منه، وهي حكاية الكنز الذي عثر عليه علي بابا صدفةً. كان علي بابا حطاباً يجمع أخشاب الأشجار ويبيعها، وفي يوم مِن الأيام شاهد علي بابا مجموعة مِن الأشخاص أمام كهفٍ مغلق بصخرةٍ عملاقة، قالوا أمامها: «افتح يا سمسم»! ففتحت، ووضعوا ما معهم مِن كنوز داخل الكهف، وخرجوا بالعبارة نفسها، وهي بمثابة «ريمود كنترول» يفتح البوابات الكهربائية ويغلقها، ولما ابتعد اللُّصوص، وكان عددهم أربعين لُصاً، اقترب علي بابا مِن بوابة الكهف وقال: «افتح يا سمسم» فأزيحت له الصَّخرة، ونقل ما نقله من الكنوز التي تركها اللُصُوص هناك، ثم خرج بالطَّريقة نفسها.
أخذ أخوه واسمه قاسم بابا، علماً بثروة أخيه المفاجئة، فتحايل عليه، فأعلمه بالأمر، وذهب بكلمة السّر وقال: «افتح ياسمسم»، وبعد أن جمع ما جمع من الكهف وأراد الخروج نسى كلمة السّر، حتى حان موعد عودة اللُّصوص، فوجوده وقتلوه، وتركوه داخل الكهف. جاء علي بابا في اليوم الآخر ووجد أخاه مقتولاً داخل الكهف، فحمله ودفنه. بعدها أخذ اللُّصُوص يبحثون عن الأسرة التي مات لها شخص قريباً، فعرفوا دار علي بابا، ووضعوا علامة عليها؛ كي يعودوا لقتله، وقد أنقذت زوجته مرجانة الموقف، التي أصبحت كهرمانة، وأخيراً جاء رئيس اللُصوص بهيئة تاجر زيت، ومعه أربعين خابية أو قِربة، وطلب من علي بابا أن ينام عنده ليلةً واحدة، مع بضاعته، إلا أن القِرب كانت كحصان طروادة، كل واحدة يختفي فيها لِصٌّ، لتنفيذ قتل علي بابا، إلا أن مرجانة شعرت بالحيلة، فأغلقت القِرب عليهم، بعد أن ملأتها بالزَّيت الحار، فانتهى أمر الأربعين لصا، وأصبح عليَّ بابا ثرياً بعبارة «افتح يا سمسم»([18]).
بعد ما حصل بالعراق (2003)، صارت حكاية (علي بابا والأربعين حرامي) حقيقَّة، فالعِراق هو ذلك الكهف، وما لص مِن اللُصوص إلا اعتبره كنزاً مشاعاً، والتَّدين المبالغ به هو عبارة «افتح يا سمسم»، وبالفعل ما كان على بال أو خاطر أحد ممَن أُثروا واغتنوا مِن هذا الكهف أن تفتح لهم الأبواب بهذه السُّهولة، وقد عبر المتظاهرون عن كلمة السّر بهتاف «باسم الدِّين باكونا الحَراميَّة»، أي بعبارة «افتح يا سمسم»، لتكون لهم القصور والأطيان والأموال الهائلة. فمِن دون أن يسألني أحد، أنا أضع السُّؤال وجوابه، وهو لماذا تأليف كتاب في أحوال اللُّصوص وأنواع اللُصوصيّة؟!
ما الدَّافع القوي الذي جعلني أرجئ كتاباً لأنجز كتاب «اللُّصوص؟! الجواب، لا أعتقد أنَّ زمناً مرَّ على بلادي العِراق، حصل بها بالفعل، مثلما أرّخ ابن الجوزي في كتاب المنتظم، ومثلما سيأتي ذلك في محله مِن الكتاب، عن سنة من سنوات الأزمات «كان اللُّصُوص يمشون بثياب التُّجار في النَّهار»! لقد عرفنا أن اللُصُوصَ، من العادة، يختبئون في الكهوف، ويتفرقون في القفار، ثم يغيرون تحت جنح الظَّلام، لكنَّهم عندما يتبخترون في رابعة النَّهار ببثياب التّجار المسروقين، فالأمر ينبئ بكارثة إنسانيَّة.
عندما تُسرق المليارات، وتُدمر الثَّروة، واللُصُوص محميون، يأمرون وينهون، هنا تجفّ الأقلام وتُعقد اللُّسن عن الكلام! هذا عُذري في تأليف الكتاب، وفكرتُ أن أهديه إلى اللُّصُوص أنفسهم؛ لأنهم شكلوا الحاضر والمستقبل القريب، لجيل تائهٍ، داخل بلدٍ صار حطاماً، فاللُصُوص لم يتركوا شيئاً لم يعتبروه «مجهول المالك»، مِن حقَّهم التَّصرّف به، ودليلهم (الفقهي)، وهم مِن أحزاب دينية، لهم مراجعهم الخاصة، (أن أيَّ دولةٍ قبل ظهور الإمام تُعد غاصبة)، لكنّهم في فقههم الحزبي يقولون بنائب الإمام الوليّ الفقيه، فالدَّولة التي لا يرأسها الإمام ولا نائبه تُعد أموالها مجهولة المالك، بمعنى أنها لا تُطبق الحاكميَّة الإلهيَّة!
في الختام لا بد مِن تقديم الشُّكر لمَن سهل لي الحصول على مصدر وأعانني بمعلومة؛ وهم الأفاضل: الباحث العراقي: رفعت عبد الرَّزاق، الباحث السُّعودي: سُعود بن صالح السَّرحان، الأكاديمي والباحث العراقي: سعيد عدنان، الباحث السُّوداني: عمر بشير التُّرابي، الصحافي والكاتب العراقي صاحب مؤسسة المدى: فخري كريم، المهندس العراقي: فؤاد الخيُّون، الخطيب العراقي: مضر الحلو، المشرفون على مكتبة مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث لما جهزوني به مِن مصورات لمجلات وكتب، لولاها لتأخر العمل، والشّكر موصول، أولاً وأخيراً، لصاحب مركز المسبار للدراسات والبحوث، الكاتب والإعلاميّ تركي الدَّخيل، المركز الذي حرص على نشر كتبي، منذ تأسيسه (2007)، ويعيد نشرها بطبعات جديدة، مزيدات ومنقحات، وضمن سلسة موحدة.
هذا، وليس عذراً للكاتب عن النَّقص، لكنه الواقع، فمهما ومهما حرص المؤلف على تقديم الصّواب لا يجد نفسه إلا عاجزاً. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ: 243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه»([19]). ورويت بما لا يختلف: و«المتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدئ تأليفه»([20]). كذلك استعير قلق إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ: 364هـ)، وقوله: «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه»([21]).
رشيد الخيُّون
تشرين الثَّاني (نوفمبر) 2020 عام الجائحة
كانون الثَّاني (يناير) 2024
[1] ابن عَباد، المحيط في اللُّغة 2 ص 219.
[2] الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ص 946.
[3] الأصفهاني، كتاب الأغاني 3 ص 57.
[4] المصدر نفسه 3 ص 55.
[5] المصدر نفسه 3 ص 57.
[6] المرزباني، معجم الشُّعراء ص 38.
[7] ابن عباد، المحيط في اللغة 7 ص 290.
[8] المقدسي، أحسن التَّقاسيم في معرفة الأقاليم ص 22.
[9] الأصفهاني، كتاب الأغاني 20 ص 31.
[10] ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ 6 ص 269.
[11] الحموي، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأُدباء) 5 ص 2120.
[12] الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك 7 ص 382- 383.
[13] راجع: ابن العمار، كتاب الفتوة، مقدمة مصطفى جواد.
[14] الجاحظ، كتاب الحيوان 1 ص 168.
[15] التَّوحيديّ، كتاب المقابسات ص 364.
[16] ابن عباد، المحيط في اللغة 9 ص 470- 471. الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ص 1320.
[17] ابن حجة الحموي، ثمرات الأوراق ص 228.
[18] مؤسسة هنداوي للتعليم والثَّقافة، مختارات من ألف ليلية وليلة، قصة علي بابا واللصوص الأربعين، الليلة الرابعة والثلاثون، ص 65- 67(كتاب بي دي أف).
[19] الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز، ص 113.
[20] الحَمويّ، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب(معجم الأدباء) 1 ص 11.
[21] البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق 1 ص 14.